| السيد شبل
يؤكد الخبراء أن تحريك سعر صرف الجنيه المصري والوصول إلى سعر مرن أمام الدولار كانا مطلبين رئيسيين لصندوق النقد الدولي، الذي ألحّ على الحكومة المصرية في أكثر من مناسبة بهدف تحقيق هذا البند.
تشكو النسبة الكبيرة من المصريين من تراجع القيمة الشرائية للعملة المحلية (الجنيه)، إذ شهدت الأسواق خلال الفترة الماضية ارتفاعاً كبيراً ومتتالياً في أسعار السلع والخدمات، ما تسبب بزيادة تكاليف المعيشة في ظل ثبات الأجور أو ارتفاعها دون الحد المطلوب.
ورغم الصدمات التي يعيشها أرباب الأُسر بسبب ارتفاع التكاليف المطلوبة لضمان حياة كريمة، فإن أشدّ ما يثير القلق هو عدم وجود أفق للحل في المستقبل يُبشّر باستقرار الأسعار، فلم تعد الطبقات المحدودة الدخل في مصر تطمح إلى انخفاض الأسعار بقدر ما ترجو ثباتها، في مؤشر يعكس تضاؤل الطموحات واضمحلال الشعور بالأمان.
وفي الآونة الأخيرة، أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء ارتفاع معدّل التضخم في مصر إلى أعلى مستوى منذ 5 سنوات. يأتي الارتفاع في أعقاب سلسلة من تخفيضات سعر العملة منذ آذار/مارس 2022، ونقص طويل الأمد في العملات الأجنبية، وتأخيرات مستمرة في إدخال الواردات إلى البلاد.
ورغم تأكيد الحكومة، على لسان محافظ المصرف المركزي في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أن ارتفاع سعر صرف الدولار الأميركي أمام الجنيه المصري ليس أزمة في ذاته، ولا يجب أن تتركّز اهتمامات المواطنين عليه، بل إن الأساس في قوة الاقتصاد هو “السيطرة على التضخم”، والقدرة على توفير احتياجات المواطنين بأسعار ملائمة، فإن التجربة خلال الفترة الماضية أثبتت عجز الحكومة عن ضبط الأمرين معاً، وخصوصاً في دولة مثل مصر تعتمد على الاستيراد بدرجة كبيرة لتوفير السلع التي يحتاجها السوق، وبالتالي يكون انخفاض قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية مرتبطاً بشكل منطقي بتراجع قيمته الشرائية.
وكان الدولار الأميركي حتى نهاية عام “الربيع العربي” (2011) يعادل 6.5 جنيه. وقد ظل يرتفع حتى بدايات خريف عام 2016، وإن بشكل محدود، إذ سجّل نحو 8 جنيهات، لكن الأمور تغيّرت كثيراً بعد قرار التعويم الذي تم اتخاذه في تشرين الثاني/نوفمبر 2016، إذ سجل سعر الدولار ارتفاعاً تاريخياً حينها، ليصل فجأة إلى 19.60 جنيهاً في مقابل الدولار. وبحلول عام 2017، تراجع إلى 18.30 جنيهاً، واستمر في الهبوط ليستقر بين 15.6 و16 جنيهاً منذ عام 2019 ولمدة 3 سنوات متتالية.
ولكن الدولار عاود الصعود أمام الجنيه في آذار/مارس 2022، بالتزامن مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وقرارات المصرف المركزي المتتالية بتحريك سعر الصرف تبعاً لمطالب صندوق النقد الدولي.
وقد ظل يرتفع إلى أن تخطى سعره 24 جنيهاً في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2022، ثم 27 جنيهاً مطلع العام الجاري 2023، ليتخطى حاجز 30 جنيهاً في آذار/مارس 2023، وسط توقعات بانخفاض جديد مرتقب.
ويؤكد الخبراء في مجال الاقتصاد أن تحريك سعر صرف الجنيه والوصول إلى سعر مرن أمام الدولار كانا مطلبين رئيسيين لصندوق النقد الدولي، الذي ألحّ على الحكومة في أكثر من مناسبة بهدف تحقيق هذا البند، فرغم تراجع إنتاجيّة الدولة المصرية وارتفاع فاتورة الاستيراد وخروج النقد الأجنبي من السوق، كان يحتمل أن تكون الأمور أقل تدهوراً لولا الأجندة الاقتصادية التي يتشبث بها مسؤولو الصندوق الدولي.
وكانت مصر قد حصلت في تشرين الأول/أكتوبر الماضي على موافقة مبدئية من الصندوق للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار، يصرف على شرائح لمدة 46 شهراً مقبلاً. وفي 16 كانون الأول/ديسمبر الماضي، تمت الموافقة رسمياً على الإقراض، ما سمح بصرف شريحة فورية بقيمة 347 مليون دولار.
مواقع التواصل الاجتماعي وارتفاع معدل الغضب من جديد
شهدت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر هدوءاً ملحوظاً حتى منتصف العام الماضي، وذلك بعد فورة من النشاط أعقبت أحداث “الربيع العربي”. وقد فسّر الخبراء هذا الخمول الذي ضرب أهم موقع يتفاعل عبره المصريون، وهو “فيسبوك”، بعدة أسباب منها:
– ملل الجمهور من السياسة بسبب حالة التناحر والشقاق التي اشتعلت بين معظم الأحزاب والحركات بعد رحيل حسني مبارك، وامتدت حتى أحداث حزيران/يونيو 2013، ورحيل جماعة الإخوان المسلمين عن الحكم بعد موجة غضب شعبي، رغم أنها كانت أحد أهم مكونات حراك كانون الثاني/يناير 2011.
– حدوث عمليات إرهابية متتالية في شبه جزيرة سيناء وعدد من المحافظات المصرية في الفترة الممتدة بين عامي 2014 و2019، ما تسبب بشعور المواطنين بالخطر وإحجامهم عن الحديث في السياسة أو التعبير عن غضبهم من تردي الأوضاع المعيشية.
– حاجة المواطنين إلى الشعور بالاستقرار الأمني والاجتماعي بعد فترة الصخب والاضطرابات التي أعقبت أحداث ميدان التحرير، وتسببت بخسائر في بعض القطاعات التجارية والصناعية.
لكنّ الأمور، بحسب مراقبين، بدأت تتغير تدريجياً منذ صيف عام 2022، وعاد المصريون ليعبرّوا عن رفضهم العديد من السياسات الاقتصادية، محمّلين السلطات المسؤولية عن الانخفاض الصادم للجنيه، الذي تسبب بشكل منطقي بتراجع قيمة الرواتب بنحو 50% أو أكثر خلال أشهر قليلة.
مع ذلك، ثمة صفحات مناصرة للحكومة في مواقع التواصل لا تزال تدافع عن الخيارات الصعبة التي اتخذتها خلال الفترة الماضية، مرجعين الأزمة الأخيرة إلى أسباب خارجة عن إرادة الدولة، مثل فقر الموارد المحلية، وجائحة وكورونا، والحرب الروسية الأوكرانية.
يمكن رصد تصاعد غضب المصريين عبر الآتي:
– مبادرة العديد من المتفاعلين عبر “فيسبوك” و”تويتر” إلى كتابة تعليقات سلبية على الأخبار التي تتناول القرارات الحكومية، والتي يتم نشرها في الصفحات الرسمية التابعة للحكومة أو في صفحات مواقع إخبارية وفضائيات حكومية.
– تصاعد الجدل في الصفحات الخاصة بين المؤيدين والمعارضين حول المسار الاقتصادي الذي تتجه نحوه البلاد، وخصوصاً بعدما تخطى سعر الدولار حاجز الـ30 جنيهاً، مع توقعات بمزيد من الصعود.
– ظهور الرسومات الكاريكاتورية و”الكوميكس” التي تتناول الأزمة التي يعيشها المصريون بطريقة ساخرة، وإقبال المصريين على مشاركتها عبر صفحاتهم الخاصة.
– عدم اقتصار الشكوى على طبقات بعينها، وذلك عكس ما كانت عليه الحال قبل 2011، إذ كان تتمتع البرجوازية المصرية بالعديد من المكاسب. أما اليوم، فالشكوى لم تعد من نصيب الطبقات العاملة وحدها، بل امتدت إلى رجال الأعمال وأصحاب المشاريع الذين يشتكون من الضرائب وغياب المحفزات وصعوبة الاستيراد وارتفاع تكاليف الإنتاج، إضافة إلى التدخلات الحكومية الكثيفة.
– تصاعد الغضب بسبب قرارات الحكومة بيع الشركات والأصول المملوكة للدولة، والتي تمثل قيمة اقتصادية وأمنية.
– ظهور حالة عامة من الحنين إلى عصور سابقة، على اعتبار أنها كانت أفضل حالاً للطبقات المحدودة الدخل.
السوق الموازية والمضاربات ومجهود الدولة للحدّ من الأزمة
تسعى السلطات في مصر إلى الحدّ من انتشار السوق الموازية (السوداء)، وحصر إجراءات بيع العملات الأجنبية أو شرائها بالمصارف وشركات الصرافة. رغم ذلك، ثمة تصاعد ملحوظ في عمل هذا النوع من التجارة غير المشروعة، بعدما كانت قد أصيبت بالشلل لفترة مؤقتة. على سبيل المثال، تجددت المضاربات على الدولار في الآونة الأخيرة، ليجري تداول الورقة الأميركية الخضراء عند مستويات تتراوح بين 35 و35.60 جنيهاً، أي أكثر من السعر الرسمي بنحو 4 أو 5 جنيهات.
ويفسّر المتعاملون في أسواق الصرف نشاط السوق الموازية بالآتي:
– تأخر المصارف أحياناً في إصدار الإفراجات الجمركية، نتيجة شح النقد الأجنبي لدى الدولة، ما يتسبب بعودة شريحة كبيرة من المستوردين إلى السوق الموازية.
– حاجة المسافرين إلى الخارج للعملات الصعبة، سواء للسفر لأغراض السياحة أو الدراسة أو الحج والعمرة، لكن المصارف غالباً ما لا توفّر الحدّ الذي يحتاجه المسافر، ما يدفعه نحو اللجوء إلى السوق الموازية.
– لجوء البعض إلى بيع ما لديهم من عملات أجنبية لتجار العملات، إما طمعاً في مكسب أكبر، وإما لتجنّب المساءلة القانونية عن مصدر تلك الأموال، وخصوصاً بعد التشديدات الأمنية الأخيرة التي تحرص الدولة من خلالها على مراقبة التمويلات الخارجية والحدّ منها، إضافة إلى منع التربّح من أعمال غير قانونية.
– إقبال المُدخرين على شراء الدولار باعتباره وسيلة مضمونة للادخار، وذلك بعد تراجع الثقة بالعملة الوطنية.
وتشهد مصر أزمة حادة في توفير العملة الصعبة منذ بداية العام الماضي، بدأت مع هروب الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة بعدما أقر المصرف المركزي الأوروبي والفيدرالي الأميركي زيادة جديدة في أسعار الفائدة، إضافة إلى تراجع عائدات القطاع السياحي بعد جائحة كورونا وفرض الإجراءات الوقائية.
وقد قفزت العقود الآجلة غير المسلمة أجل 12 شهراً للجنيه المصري إلى 39.19 في مقابل الدولار، الذي يعد أعلى مستوى تاريخي للعملة الأميركية في مقابل الجنيه المصري، بعدما تخطت مستوى 39 جنيهاً.
وتشن الأجهزة الأمنية في مصر حملات بين الحين والآخر للقبض على تجار العملة، معتبرة أن هذا السلوك غير الشرعي يتسبب بأشد الضرر للاقتصاد، ويمنع الدولة من الحصول على العملات الصعبة التي تحتاجها لتسيير العملية الاقتصادية برمتها.
من جهة أخرى، تسعى السلطات للحد من تبعات الأزمة الاقتصادية على المواطنين عبر حزمة من الإجراءات، مثل برنامج “تكافل وكرامة” ومبادرة “حياة كريمة”، وهي مشروعات تقدّم دعماً مالياً للأسر الفقيرة في الأحياء الشعبية والقرى لتحسين ظروف معيشتهم.
وكان المركز الإعلامي لمجلس الوزراء المصري قد أشار إلى زيادة إجمالي الدعم والمِنح والمزايا الاجتماعية بنسبة 50.2%، بعدما بلغ 343.4 مليار جنيه عام 2021/2022، مقارنة بـ228.6 مليار جنيه عام 2013/2014، علاوة على زيادة قيمة الدعم النقدي بعد تنفيذ برنامج “تكافل وكرامة” إلى 20 مليار جنيه عام 2021/2022، مقارنة بـ5 مليارات جنيه عام 2013/2014.
وأشار كذلك إلى زيادة قيمة دعم السلع التموينية إلى 96.8 مليار جنيه عام 2021/2022، في مقابل 35.5 مليار جنيه عام 2013/2014، وزيادة الحد الأدنى للأجور إلى 910 جنيهات في 2022، مقارنة بـ450 جنيهاً في 2014، كما زاد الحد الأدنى للأجور إلى 3000 جنيه في 2022، في مقابل 1200 جنيه في 2014.
هل نقترب إلى خفض جديد للجنيه؟
من المقرر أن تعقد لجنة السياسة النقدية في المصرف المركزي المصري اجتماعها الدوري الثاني في 2023 نهاية الشهر الحالي، وسط توقعات بالاتجاه إلى رفع أسعار الفائدة بما يتراوح بين 200 و300 نقطة أساس، بحسب وكالة “بلومبرغ”.
ووفق البيانات الرسمية، فقد سجل التضخم مستويات تاريخية في شباط/فبراير الماضي، بحسب الأرقام التي كشفها كل من الجهاز المركزي للإحصاء والمصرف المركزي المصري، فقد ارتفع التضخم على أساس سنوي إلى 32.9%، وهو الأعلى منذ صيف 2017، فيما سجل معدل 7.1% على أساس شهري، وهو الأعلى منذ 33 عاماً.
أما التضخم الأساسي، فقد قفز إلى 40.3% على أساس سنوي، و8.1% على أساس شهري خلال شباط/فبراير، وهي أعلى معدلات على الإطلاق في مصر.
وكانت بعض مصارف “وول ستريت” العالمية قد توقعت أن تؤدي الضغوط الكثيفة على الجنيه المصري إلى إجبار المصرف المركزي قريباً على السماح بخفض آخر لقيمة العملة.
ويُقدر الطلب المتراكم في الوقت الحالي بنحو 4 مليارات دولار، بعدما كان يبلغ 2.5 مليار دولار في كانون الثاني/يناير، وفقاً لوكالة “بلومبرغ” التي تحدثت كذلك عن تدهور ثقة المستثمرين بالجنيه، ورأت أن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لم تكن كافية، ما أدى إلى توقف الصفقات وضعف أداء السندات المصرية.
ويتوقع المصرفيّون أن يتجاوز سعر صرف الجنيه بعد التعويم المقبل حاجز الـ35 جنيهاً لكل دولار، فيما يذهب بعض المتشائمين إلى أرقام أكثر فداحة على المدى المنظور، مؤكّدين أن الحل يكمن في تشجيع التصنيع المحلي، وتوطين الصناعات والزراعات، والحدّ من الاستيراد، وتوفير فرص عمل بأجور عادلة.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين