الرئيسية » مجتمع » موائد السوريين.. وفي البدء كانت حبة القمح

موائد السوريين.. وفي البدء كانت حبة القمح

 

عندما يقرع باب بيت “الجد والجدة” أو بيت العائلة ليجتمع الأبناء والأحفاد والأقارب فيه خلال أيام الصوم، تختصر لحظة اشتياق لأجمل الذكريات، تجمعهم مائدة صنعت مكوناتها بالمحبة، ومأكولات يحمل كل صنف منها حكاية من حكايات المناطق والمدن السورية، حيث يسعى السوريون على اختلاف الظروف التي يعيشونها للحفاظ على هذا الموروث الذي يجمعهم ضمن طقوس روحانية مفعمة بالفرح.

الصوم.. ولمة العائلة

خلال شهر الصوم تسعى العائلات فيه لترسيخ القيم الإيجابية والمحببة والسلوكيات السليمة لدى أبنائها، كذلك العطاء في جميع أشكاله الإنسانية، كما أنه فرصة لاجتماع الأقارب والأصدقاء، هذا ما أوضحه الباحث في التاريخ والتراث السوري نصر فليحان.

وأضاف فليحان في تصريح لسانا: “تزهو المائدة الرمضانية بالأطباق اللافتة وأشكال الضيافة، استعداداً لاستقبال الأقارب تحديداً في أول أيام الصوم، وهذا العام للمة العائلة نكهة خاصة بعد اشتياق لطقوس غابت نوعاً ما لعامين متتاليين بسبب جائحة كورونا، والشغف يملأ القلوب بعودة اللمات والاجتماعات الأسرية”.

ولفت فليحان إلى أن الأصناف العديدة على المائدة تجذب الصغار والكبار، ترافقها أجواء من الفرح وسهرات تتواصل حتى منتصف الليل، حيث تسعى معظم العائلات للتمسك بهذه العادات رغم اختلاف الظروف التي يتعرضون لها.

وهذه الأيام بحسب فليحان ينتظرها أفراد العائلة كل عام، لما تحمله من سحر خاص، تفوح منها رائحة الذكريات والحنين لتلك اللمات على طاولة واحدة تتسع للجد والجدة والأبناء والأحفاد، يجلسون جنباً إلى جنب لتناول الإفطار معاً، ويتشاركون تفاصيله المحببة، كما أن التفكير في الآخرين وإطعام الفقراء والوقوف على احتياجاتهم، هو درس حي أيضاً في الشهر الكريم من خلال ما تفعله الكثير من العائلات عند انتهاء طهي الطعام، وتبادل الأطباق مع الجيران بما يسمى “السكبة” وما تضفيه هذه العادة من قيمة نبيلة عند الأهل والأبناء.

ما هي أبرز الأطعمة التي تتواجد على مائدة الافطار؟

تحرص العائلات السورية على أن يحضر على مائدتها العديد من المأكولات الشعبية والتي تتميز ببساطة تركيبها وسرعة تحضيرها، وهي غنية بالمواد الغذائية الضرورية، كما ارتبطت معظم المأكولات الشعبية بالمحافظات والمدن السورية.

وأكد الباحث في مطبخ بلاد الشام وبلاد الرافدين قبل الميلاد “سليمان عوكان” أن جميع المناطق السورية تشترك بطبخ “البرغل” ففي الساحل يطبخ “البرغل بحمص” وفي الجنوب يطبخ “المليحي”، وفي المناطق الداخلية يطبخ “البرغل ببندورة والمجدرة”، وفي المنطقة الشرقية يطبخ “الايتش والكبيبات والكتل”، أما في المناطق الشمالية في حلب وريفها فتطبخ الكبة بأنواعها، وفي القلمون استخدم البرغل لطبخ “كبة الحيلة”، وفي دمشق المشهور فيها الكبة اللبنية والشيش برك.

وأشار عوكان إلى أن المشترك في المطبخ السوري هو “حبة القمح” فبالعودة إلى الوثائق تأكد اكتشاف الزراعة في الألف الثامن قبل الميلاد، حيث وجدت البعثات الأثرية أن الزراعة ظهرت لأول مرة في السهول والوديان الداخلية التي ترويها الأمطار في سورية، وهو ما ذكره كتاب “صعود الحضارة من المزارعين الأوائل إلى المجتمع الحضري في الشرق الأدنى القديم” للمؤلف تشارلز ريدمان.

وبين عوكان أنه في عام 1965 قامت بعثة أثرية فرنسية ضمت نخبة من علماء الآثار بحفريات في موقع تل المريبط غرب الرقة بنحو 100 كم والذي كان مهدداً بالغمر بمياه سد الفرات، واكتشفت آلاف اللقى الأثرية المهمة التي تحدثت عن بداية الاستيطان البشري وظهور الزراعة بهذه المنطقة، ومنها انطلقت إلى جميع الاتجاهات، فكانت تلك المرحلة حاسمة بتاريخ الإنسانية.

وأضاف عوكان: “أراد ساكنو بلاد الشام والرافدين اختراع طريقة لخزن القمح والاحتفاظ به، فكان “سلق القمح ودقه”، وسموها “برغل” ف “بر” تعني “قمح” و”غل” تعني الاحتفاظ والخزن”، موضحاً أن السوريين القدماء أدخلوه في طعامهم كل بحسب تطور أدواته والمواد المتوافرة لديه، فتمايزت الطبخات السورية ولكن أغلبها إلى الآن بعد التطور الكبير الذي حصل لها على مر الأزمان يعتمد على البرغل.

وتابع: “كل هذا التطور في الطعام جاء من أول حبة قمح في التاريخ وعرف عن السوريين القدماء بحسب الرقم الطينية المكتشفة وجود آلاف الأصناف من الأطعمة، وهذا ليس بغريب عن منطقة احتوت أقدم مطبخ احترافي منذ 2000 عام قبل الميلاد في مملكة إيبلا”.

350 نوعاً من الخبز صنعه السوريون قبل الميلاد

وما لفت انتباه عوكان خلال عملية بحثه العملي التي قاربت 27 عاماً في مطبخ بلاد الشام والرافدين قبل الميلاد هو الاحترافية التي كان يعمل بها الطباخون، فمثلاً وصلوا إلى 350 نوعاً من الخبز من خلال التحكم بمكوناته وطريقة خبزه ووقت خبزه وقوة النار المخبوز فيها حتى المكونات التي استخدمت فيه لم تحصر بمواد محددة، فمن كان يتخيل أن أحد أنواع الخبز أدخلوا فيه “ورق العنب” المجفف المطحون، كما صنعوا الخبز من القمح الأخضر وسموه “مزرور”.

أما العقل المنظم الذي كان يتمتع به أجدادنا فحكاية أخرى، فهم بحسب عوكان لم يضيعوا المعرفة التي كانت تتراكم مع الزمن ورافقها الكثير من التجارب، بل احتفظوا بها وخزنوها من خلال “المونة” وابتكروا من خلالها أطعمة تغني مطبخهم وتجعل عزائمه الضخمة سهلة عليهم، فإحدى الوثائق تحدثت إنه قبل أكثر من 2000 عام قبل الميلاد قام الملك في منطقة الكرك بعزيمة لأكثر من 60 ألف شخص، وذكرت الوثيقة أنواع الأطعمة من طيور ولحوم طرائد وأسماك ومقبلات وأطعمة من القمح والبرغل التي أعدت في تلك العزيمة، وأوضحت مدى تمكنهم من الطبخ واحترافيتهم به.

توثيق المونة السورية

ونتيجة لتطور المطبخ السوري وحفاظاً على المنتجات الغذائية كان للمونة السورية هوية خاصة، فهي تعتمد على ما تنتجه الأرض من خيرات وتحوله الأيادي لمنتجات وغذاء يحفظ ويخزن لأطول فترة زمنية ممكنة باستخدام طرائق متنوعة.

وبالاستفادة من الخبرات والمعارف المتراكمة على مدار آلاف السنوات والتي تناقلتها الأجيال إلى يومنا هذا، ولأن الحرب طالت مختلف جوانب الحياة وهددتها ومن بينها تفاصيل الحياة اليومية والطقوس الاجتماعية بما فيها المونة السورية المتأصلة بالوعي والذاكرة الجمعيّة السورية، عملت مؤسسة “وثيقة وطن” على توثيق هذه الخبرات والمعارف والممارسات والتي تُسهم في صون الهوية السورية وحفظها، من خلال مشروع “توثيق ثقافة المونة السورية” بالتعاون مع وزارة الزراعة والإصلاح الزراعي كخطوة أولى في توثيق التراث الثقافي السوري غير المادي.

وسيشمل مشروع توثيق المونة السورية كل المؤن من مشتقات الحليب، إضافة إلى المكدوس والدبس والزيتون والزيت والمربيات وغير ذلك.

مشاريع متناهية الصغر للأكلات التراثية

لم تتوقف العائلة السورية عند الأكلات التي اعتادت عليها كأطباق على موائدها وصناعة المونة المنزلية، بل خلقت منها مشاريع تدعمها مادياً وخاصة في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، هذا ما أوضحته الدكتورة بكلية الاقتصاد في جامعة دمشق ريم رمضان.

وقالت: “عندما تقوم المرأة بفتح مشروع صغير، فهي تخلق فرصة عمل لها وللمجتمع المحيط بها، وتؤثر على الاقتصاد من خلال حاجات مشروعها، وبطلب سلع معينة تتحول هذه السلع لمنتج يباع في السوق ويرجع عليها بعائد مادي يمكن لها أن تشتري به أشياء تحتاجها غير احتياجات مشروعها فتحرك بذلك عجلة الاقتصاد بشكل مباشر”.

وأكدت رمضان أن المشاريع الصغيرة مهمة جداً وخاصة بعد الأزمات، وأن مشاريع الطعام رابحة وخاصة لتنوع البيئة السورية والتي تنعكس على تنوع الأطعمة، موضحة أن المأكولات السورية شكل من أشكال التراث الذي يحتاج إلى مختصين في هذا المجال لتسجيله وتوثيقه على لوائح التراث العالمي.

 

 

سيرياهوم نيوز 4_سانا

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“اليونيسيف”: أكثر من 200 طفل قُتلوا في لبنان من جراء العدوان الإسرائيلي منذ نحو شهرين

منظّمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” تعلن استشهاد أكثر من 200 طفل في لبنان من جرّاء العدوان الإسرائيلي منذ نحو شهرين، في وقتٍ “يجري التعامل مع ...