- نور الدين اسكندر
تبدو مسألة صعود الصين، وانعكاسات انتشار جائحة “كوفيد 19” وتأثيراتها الاقتصادية، ودور الصين بخصوصها، من أبرز المسائل التي أرخت بظلالها على المقاربة الأوروبية للعلاقات مع بكين.
مع استمرار الضغوط الأميركية على الصين، واشتعال المواجهة في أكثر من ساحة من ساحات النشاط الاقتصاديّ الدولي، وتخطّي ذلك المجال الاقتصاديّ إلى المجالات السياسية والدبلوماسية، ووصوله إلى مساحة الاشتباك العسكري المحدود بالوكالة، كما في حالة التوترات المتقطعة على الحدود الصينية – الهندية، يجد الاتحاد الأوروبي نفسه أمام ضرورات جديدة، وسط اتجاهات متعددة داخله تجاه مقاربة العلاقة التنافسية المتصاعدة مع الصين.
ورغم أن منسوب التوتر الصيني – الأوروبي لا يتطابق مع منسوب التوتر الأميركي – الصيني، ولكنه أبرز إلى واجهة الأحداث ظروفاً جديدة متفاقمة، تطرح تساؤلات جدية عن مستقبل العلاقات المشتركة من جهة، كما تطرح من جهةٍ ثانية تساؤلات عن التباينات على ضفتي المحيط الأطلسي بين الموقفين الأوروبي والأميركي من صعود الصين.
تحاول الصين بصورةٍ مستمرة التوصل إلى تعاون أوثق مع أوروبا، وذلك عبر تصريحات كبار مسؤوليها الذين يرون في هذا التعاون فرصة مهمة لتطوير المصالح الصينية عبر العالم، في مرحلةٍ مفصلية تشهدها العلاقات الدولية، وخصوصاً في ظل الصراع الدائر بين بكين وواشنطن، لكن الظروف التي رافقت انتشار جائحة “كوفيد 19” وتّرت العلاقات بين الصين والاتحاد الأوروبي، وخفضتها إلى مستوى غير مسبوق منذ ما يقارب 5 عقود.
وبدلاً من الاحتفال بذكرى 45 عاماً من العلاقات المشتركة بين الجانبين، أظهرت أجواء القمة السنوية بين الاتحاد الأوروبي والصين في 22 يونيو/حزيران الفائت، خلافات عصيّة على الحل حول قضايا مثل قانون الأمن القومي المُعلن حديثاً في هونغ كونغ والأمن السيبراني وحقوق الإنسان، وملفات أخرى عديدة لطالما شكلت مجال تباينٍ بين القوى الكبرى.
وإضافة إلى ذلك، لم يبد أيّ شيء حاسماً بشكل ملحوظ في الملفات الاقتصادية التي جرى البحث فيها، إذ لم تستجب الصين لدعوة الاتحاد الأوروبي لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاقية الاستثمار المشتركة التي تشتد الحاجة إليها، ومعالجة قضايا الدعم الحكومي والمشتريات.
ويبدو في هذا السياق أنَّ التعاون في الموضوعات المهمة الأخرى، مثل تغير المناخ والحوكمة العالمية، بما في ذلك إصلاح منظمة التجارة العالمية والتنمية المستدامة، يقتصر على اللغة الخطابية البحتة بدلاً من الإجراءات الملموسة، فيما يلقي الأوروبيون اللوم على الجانب الصيني في عدم التوصل إلى خطوات محددة وفعلية بخصوص هذه الملفات، حتى إن التعاون الصيني – الأوروبي في الأبحاث من أجل التوصل إلى اللقاحات المتعلقة بـالجائحة المستجدة لا يزال متواضعاً.
أوروبا تتشدّد
وبدلاً من صدور بيانٍ ختامي مشترك بين الاتحاد الأوروبي والصين بعد القمة، تم إصدار بيانين منفصلين ومختلفين في حزيران/يونيو الماضي، إذ صرحت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أن “العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والصين هي في الوقت نفسه واحدة من أكثر العلاقات أهمية من الناحية الاستراتيجية، وهي الأكثر تحدياً لدينا”، مضيفة أن العلاقة مع الصين “لم تكن سهلة”.
إن معنى الموقف الذي أصدرته فون دير لاين يشي بوضوح بتمسّك بروكسل بالعلاقات مع الصين، وبمحاولة إدارتها لتلك العلاقات بعيداً من التوتر الأميركي تجاه بكين، كما يشير إلى إدراك المسؤولين الأوروبيين لأهمية الصين في النظام الاقتصادي الدولي اليوم من جهة، وضرورة التوصل إلى نهجٍ أوروبي موحد تجاهها من جهةٍ ثانية. كما يمتد هذا الإدراك الأوروبي إلى ضرورة أن تكون المقاربة الأوروبية لهذه المسألة غير تصادمية مع بكين، ومتفاهمة بالحد الأدنى مع الشريك الأطلسي الآخر، وهو الولايات المتحدة الأميركية.
ومن الجانب الآخر، أصرّ الرئيس الصيني شي جين بينغ على أن بلاده “تريد السلام بدلاً من الهيمنة”، وأضاف: “بغض النظر عن كيفية تغير الوضع الدولي، ستأخذ الصين خيار التعددية، وتلتزم بمفهوم الحوكمة العالمية المتمثل بالتشاور المكثف والمشترك والمساهمة في كل ما يحقق المنافع المشتركة .
تكشف مثل هذه التعليقات أنَّ الأوروبيين يحاولون التوصّل إلى اتباع نهج مختلف تجاه الصين، يكون دفاعياً أكثر، لكن مع تجنب تحوله إلى حالة تصادمية. في الواقع، قد لا يكون لدى السياسيين الأوروبيين خيارات كثيرة بعد تفشي “كوفيد 19” في بلدانهم، إذ يسري اعتقاد بين الخبراء في القارة العجوز بأن الرأي العام الأوروبي ينظر إلى الحكومة الصينية باستمرار على أنَّها المسؤول الأكبر عن تفشي الوباء، علماً أن جهود الولايات المتحدة لتحميل الصين مسؤولية انتشار هذا الوباء بالشدة التي هو عليها مستمرة، وهي تحاول التأثير في الشركاء الآخرين، ومنهم الاتحاد الأوروبي.
ووفقاً لاستطلاع حديث نشره معهد دراسات السياسات الدولية، ومركزه إيطاليا، يرى 60% من الفرنسيين والبريطانيين و47% من الألمان أن الحكومة الصينية لها تأثير سلبي في العالم. وقد ساءت آراؤهم خلال جائحة كورونا.
وعلى عكس الأزمة المالية الكبرى التي ضربت العالم بين العامين 2008 و2010، والتي أدت إلى عمليات استحواذ متعددة من قبل الشركات الصينية المملوكة للدولة في جنوب أوروبا، يبدو أنَّ الأوروبيين هذه المرة لا يجتذبون الاستثمارات الصينية المحتملة، ولا يرغب المستثمرون الصينيون حالياً في الاستثمار، في حين تبلغ حصة الصين من الاستثمار الأجنبي المباشر أقل من 3% في المتوسط في منطقة الاتحاد الأوروبي.
في غضون ذلك، أدى الجدل حول مستوى المساعدة الطبية الصينية خلال ذروة الجائحة إلى المزيد من الارتباك والتراجع من جانب السياسيين الأوروبيين.
الصين: شريك أم منافس لأوروبا؟
في مطلع العام الحالي، كان مسؤولو الاتحاد الأوروبي في بروكسل لا يزالون يأملون بأن تستضيف ألمانيا قمة 27+1 (تضمّ دول الاتحاد الأوروبي من جهة والصين من جهة ثانية) في لايبزيغ مع الرئيس الصيني شي جين بينغ. كان نهج أنجيلا ميركل يدور إلى حد كبير حول النقد الخفيف ومحاولات حفظ ماء الوجه تجاه القادة الصينيين، وكان لذلك علاقة كبيرة بالعلاقة التجارية المتوازنة إلى حد ما بين الجانبين.
وفي نتيجة ذلك، ولسنوات عديدة مضت، كان الطلب على الآلات والمنتجات الصناعية الألمانية مرتفعاً في الصين السريعة النمو، ما أدى إلى زيادة ربح العديد من الشركات الصناعية الألمانية التي وجدت في السوق الصينية فضاء ملائماً للنمو وتطوير الأعمال.
واليوم، يتحدّث خبراء أوروبيون غير مؤيدين لنهج ميركل عن أن إحجامها عن استعداء بكين يهدد بتقويض جهود الاتحاد الأوروبي من أجل سياسة مشتركة تجاه الصين، وعرقلة الوصول إلى موقف تبحث فيه الدول الأعضاء في الاتحاد بشكل أساسي عن مصالحها الخاصة، وهم يتهمون المستشارة الألمانية بتفضيل نهجها الخاص على حساب جبهة أوروبية موحدة الموقف. في الوقت الحالي، تم تأجيل قمة لايبزيغ إلى أجل غير مسمى بسبب عدم إحراز تقدم مع الصين.
وعلى مدى السنوات الثلاث الماضية، بدا واضحاً أن الاتحاد الأوروبي شرع في نهج أكثر واقعية تجاه الصين. لقد دفع هذا النهج باتجاه تنسيق أفضل بشأن القضايا الاقتصادية، بما في ذلك الاستثمارات الأجنبية المباشرة ومساعدات الدولة وانتقال وسائط التكنولوجيا.
ولم تكتف المفوضية الأوروبية بإنشاء آلية جديدة لاختبار مستويات الاستثمار الأجنبي المباشر، ليتم تشغيلها في تشرين الأول/أكتوبر الحالي، بل أصدرت أيضاً مبادئ توجيهية بشأن تقنية 5G، ووثيقة جديدة حول الإعانات للدول الأجنبية. وإضافة إلى ذلك، أطلقت استراتيجية اتصال، على أمل تقديم بديل أوروبي لـ”مبادرة الحزام والطريق” الصينية.
لقد كان العام 2019 بمثابة نقطة تحول في العلاقات الثنائية بين الاتحاد الأوروبي والصين، مع نشر التوقعات الاستراتيجية بين الاتحاد الأوروبي والصين في آذار/مارس الماضي، والتي وصفت الصين بأنها “منافسة منهجية” (أو نظامية).
انعقدت القمة الافتراضية بين شي جين بينغ وأورسولا فون دير لاين في النهاية، لكن الافتقار إلى التقدم خلق إحباطاً متزايداً بين القادة الأوروبيين، في أعقاب جهود دعائية كبيرة من بكين لتعزيز أجندتها، بما في ذلك كل ما يتعلق بتعاملها مع الجائحة واستجابتها لها، وذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام التقليدية ومواقع السفارات الصينية.
وقد أشار ممثل السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، إلى ما يمكن وصفه بمعركة الروايات الصينية بشكلٍ مباشر في عدة مناسبات. وفي السياق نفسه، تم إنتاج تقرير عن المعلومات المضللة من قبل هيئة خدمة العمل الخارجي الأوروبية. وفي بيانها الأخير، ألمحت فون دير لاين أيضاً إلى مخاوف اللجنة المتزايدة بشأن “الهجمات الإلكترونية على أنظمة الحوسبة والمستشفيات”.
فرص مقاربة أطلسية مشتركة تجاه بكين
على الرغم من هذه الأجواء المتوترة والتنافس المتصاعد بين الصين والاتحاد الأوروبي، لا يمكن المقارنة بين الخطاب الأوروبي في مداه الأكثر صرامة وخطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأكثر تشدداً، فنهج إدارة ترامب المتشدد يترافق مع عقوبات تجارية وقيود ضد الشركات الصينية على الأراضي الأميركية، بما في ذلك شركة “هواوي” الشهيرة.
لقد دفعت لغة واشنطن غير الدبلوماسية، بتشددها وعقوباتها، حلفاء الولايات المتحدة، بما في ذلك غالبية الأوروبيين، إلى إعادة صياغة نهجٍ خاص متصلب تجاه صعود الصين. وعلى ضفتي المحيط الأطلسي، من غير المرجح أن تحدث أحداث وتغيرات كبيرة من الآن وحتى الانتخابات الرئاسية الأميركية التي ستجري خلال أقل من شهر. وإذا تم انتخاب جو بايدن رئيساً، فمن المتوقع أن تؤدي بعض التغييرات إلى اعتماد نهج أطلسي موحد تجاه الصين، بينما في حال فوز ترامب بولاية رئاسية جديدة، فإن التباينات بين الموقفين الأوروبي والأميركي يرجح أن تبقى متباعدة، مع حفظ التأثير الأميركي في أوروبا، الأمر الذي قد يفيدها في تحسين موقفها التفاوضي أمام الصين.
تدرك أوروبا في جميع الأحوال قيمة سوقها وحاجة الصين إليها، وهذا بالتحديد ما يدفعها إلى عدم الالتزام بالتطابق في المواقف مع السقف المرتفع لخطاب ترامب الملتهب تجاه بكين. وفي المقلب الآخر، فإن هذا الموقف المتشدد للرئيس الأميركي يعطيها فرصة لتحسين الشروط، لكن بكين تدرك أيضاً حاجة أوروبا إليها، وتعرف قيمة سوقها الهائلة بالنسبة إلى الأوروبيين، وخصوصاً مع تنامي النهج الصيني الجديد الذي لم يعد يكتفي بالبحث عن أسواق خارجية للاستثمار، بل إنه في مقاربته الجديدة للنمو يسعى إلى تطوير السوق الصينية كسوق استثمارية واستهلاكية للصين والدول الأخرى الباحثة عن مجالات جديدة، في ظل تراجع تباطؤ الاقتصاد العالمي، وامتداد آثار ذلك إلى معظم الدول، قبل أن تأتي جائحة “كوفيد 19” لترخي بعبئها على الاقتصادات المثقلة أساساً بأعباء مرهقة.
بالنّسبة إلى الصين، فهي تنظر في نهاية المطاف إلى علاقاتها مع الولايات المتحدة على أنها أولويتها الأولى حالياً، وهو ما يفسر الانتظار والترقب اللذين يطبعان موقفها الحالي تجاه جناحي الأطلسي.
(سيرياهوم نيوز-الميادين11-10-2020)