رأي محمد سيد رصاص
كان رئيس الوزراء السوداني عبدالله خليل (1956-1958) ثالث الثالوث، مع رئيس الوزراء العراقي نوري السعيد والرئيس اللبناني كميل شمعون، الذي وقف عربياً بوجه الرئيس جمال عبد الناصر بفترة صعود المد الناصري في عموم العالم العربي بعد حرب السويس. وكان استناد خليل إلى ائتلاف حكومي من حزبي «الأمة» و«الشعب الديمقراطي»، وهما حزبا الطائفتين الكبيرتين في السودان، المهدية والختمية، ومباركة زعيميهما، السيدين عبد الرحمن المهدي وعلي الميرغني. وقد بلغت ثقة خليل بالقوة البرلمانية لحكومته إلى حد دفعه للقول بأنه «لن يسلم السلطة سوى لنبي الله عيسى عند ظهوره». رغم المد الناصري والذي شمل السودان، وخاصة مع انضمام الشيوعيين بعد تلاقي عبد الناصر مع موسكو ليشكلوا معسكراً سياسياً جديداً مع تيار وحدة وادي النيل والذي اجتمع عام 1953في «الحزب الوطني الاتحادي» بزعامة إسماعيل الأزهري والذي فاز بأغلبية برلمان ذلك العام، فإن خليل كان يستند إلى «حزب الشعب الديمقراطي» بزعامة الشيخ علي عبد الرحمن الذي تشكّل في الأسبوع الأخير من شهر يونيو 1956 بمباركة السيد الميرغني من أجل سحب القاعدة البرلمانية من تحت أرجل حكومة الأزهري وتشكيل حزب يخضع للقيادة التقليدية للطائفة الختمية، لا أن يمسك بزمام الأمر مثقفون ومدنيون كما حصل في حزب الأزهري الذي يستند إلى قاعدة اجتماعية عند الختمية.
وقد أتاح هذا الاستناد لخليل أن يقبل بالمعونة الأميركية وفق مشروع أيزنهاور عام1957وأن يتلقى السلاح من بريطانيا الخارجة للتو من صدامها مع عبد الناصر في حرب السويس ثم أن يفتعل مشكلة منطقة حلايب مع مصر في شباط 1958 عندما كان عبد الناصر في ذروة قوته أثناء لحظة الوحدة السورية-المصرية، وهناك وثائق تكشّفت في ما بعد بأن خليل في تلك الفترة قد فتح خط اتصال مع رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون.
ad
كان هذا الاتجاه عند عبدالله خليل بالتصادم مع القاهرة ضد منطق التاريخ على الأقل عند الطائفة الختمية، المنتشرة بين الخرطوم والحدود المصرية وفي ساحل البحر الأحمر، والتي كانت دائماً تقول بوحدة وادي النيل وتتطلع شمالاً نحو مصر والبحر المتوسط كمجال جغرافي لها. فيما كان هذا الاتجاه منسجماً مع السياق التاريخي للطائفة المهدية عندما تحطمت الدولة المهدية في نهاية القرن التاسع عشر بجهد ثنائي مصري-بريطاني وهو ما جعل حزب الأمة منذ تشكيله عام 1945 يطرح شعار «السودان للسودانيين» بوجه تيار «وحدة وادي النيل». لذلك وجد الشيخ علي عبد الرحمن نفسه في عام 1958 مع تصاعد المد العروبي في السودان خارج سياق قاعدته الاجتماعية هو وحزبه، وهو ما دفعه للانزياح نحو فك الشراكة مع حزب الأمة. وعندما تشكّلت في تشرين الثاني 1958 أغلبية برلمانية جديدة من «حزب الشعب» و«الوطني الاتحادي» و«الكتلة الجنوبية» لسحب الثقة من حكومة خليل، قام الأخير بإغلاق أبواب البرلمان بوجه النواب في الجلسة المقررة في 17 تشرين الثاني ثم قام في اليوم نفسه بتسليم السلطة لقائد الجيش اللواء إبراهيم عبود الذي شكّل «المجلس العسكري الأعلى» الذي حكم حتى عام 1964.
ad
كان هذا أول استخدام من قوة سياسية سودانية للعسكر من أجل محاولة تمييل الموازين في اتجاه ترغبه ولم تستطع تحقيقه وحدَها وبقوتها الذاتية ضد قوى سياسية أخرى، وقد وصل هذا بها إلى حد التخلي عن السلطة المدنية التي كانت بيديها وتسليمها للعسكر، مفضّلة هذا الخيار، الذي هو أقرب إلى انقلاب عسكري بتواطؤ قوة مدنية، على خيار أن تسقط حكومتها بالعملية البرلمانية.
بهذه العملية فتح حزب الأمة طريقاً للدبابة كان رؤساء وزراء منها، مثل محمد أحمد محجوب والصادق المهدي، ضحايا لانقلابات عسكرية أزاحتهما في عامي 1969 و1989، وهو حاول ولم يعف عن محاولة استخدام العسكر كما في محاولة انقلاب 2 تموز 1976 بقيادة العميد محمد نور سعد ضد النميري، والتي شارك فيها «الحزب الاتحادي الديمقراطي» (وهو حصيلة اندماج الحزب الوطني الاتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي عام1967) و«جبهة الميثاق الإسلامي» بزعامة الدكتور حسن الترابي، وهي محاولة انقلابية فاشلة كانت مدعومة من الزعيم الليبي معمر القذافي، والأرجح أن محاولة انقلاب رمضان-أبريل 1990 ضد الحكم الإسلامي كانت مدعومة من حزب الأمة، بضباطها الـ28 الذين أُعدموا بعد فشل محاولتهم الانقلابية التي كان هدفها المعلن عودة الحكم المدني البرلماني الحزبي.
ad
هذه الطريق للدبابة للوصول إلى القصر الرئاسي السوداني لم تكن القوى السياسية السودانية متعفّفة أو ممتنعة عن استخدامها أو عن محاولة استخدامها، فتنظيم الضباط الأحرار، الذي قام بانقلاب 25 مايو 1969 كان اتحاداً تنظيمياً يضم تنظيماً شيوعياً للضباط وصف الضباط والجنود تشكّل عام 1964 وكان مرتبطاً بالأمين العام للحزب عبد الخالق محجوب، وتنظيماً عسكرياً لحركة القوميين العرب. تقول السكرتارية المركزية للحزب الشيوعي عام 1996 في ورقة تقييم حركة 19 يوليو 1971 إنه هو الذي سيطر على مجلس قيادة الثورة بعد إبعاد الضباط الثلاثة: بابكر النور وهاشم العطا وفاروق حمدالله، في يوم 16 تشرين الثاني 1970، وإن اسم هذا التنظيم هو «أحرار مايو»، كما أن عبد الخالق محجوب عند محاكمته في يوم 27 تموز 1971 قال لرئيس المحكمة العسكرية التي حاكمته العقيد أحمد محمد الحسن ما يلي: «إنك معروف بأنك من القوميين العرب…وأنا لست شخصياً ضدك إلا أنّي أعتقد بأنك لست مؤهلاً لمحاكمتي». وفي ذلك التقييم الصادر عام 1996 يرى الشيوعيون السودانيون أن ضعف تنظيم «أحرار مايو» هو الذي أتاح فراغاً للنميري لكي ينفرد بالسلطة بعده عندما وجد معه شريكاً تنظيمياً وحيداً ضعيفاً بعد إبعاد الآخرين من ضباط شيوعيين (بابكر النور وهاشم العطا) وبعثيين (فاروق حمدالله) فيما بقي أفراد من أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا غير منظّمين ولكن ميولهم ناصرية، مثل وزير الدفاع خالد حسن عباس، أو ووزير الداخلية أبو القاسم محمد إبراهيم، أو مسؤول الاستخبارات مأمون عوض أبو زيد.
ad
يبدو الآن أن تفكير «قوى الحرية والتغيير- جناح المجلس المركزي»، وهي بزعامة حزب الأمة، هو نحو إعادة لعبة عبدالله خليل عام 1958
هنا، كان عبد الخالق محجوب استثناء عندما وقف ضد ميول عند قادة في الحزب الشيوعي، مثل المحامي أحمد سليمان مسؤول التنظيم السري في الحزب، نحو نزعة الانقلاب العسكري، وفي المؤتمر التداولي للحزب في آب 1970 استذكر عبد الخالق ما قاله ضد أحمد سليمان في دورة اللجنة المركزية في آذار 1969 من أنه «مريض بالانقلابات وأن أفكاره انقلابية». ويبدو أن هذا كان صدى لخلافهما الذي وصل إلى حدود مقالات صحافية رد فيها عبد الخالق في كانون الثاني 1969 على مقالات نشرها سليمان في كانون الأول 1968 في جريدة «الأيام» دعا فيها إلى إلى أن تكون هناك حكومة وحدة وطنية «يحميها ويحرسها الجيش ويؤمن استقرارها»، في ظل أزمة الحكم المدني الحزبي بعد ثورة أكتوبر 1964 التي أطاحت حكم عبود العسكري. وقد تابع عبد الخالق هذا الخط عندما استحصل على أغلبية في المكتب السياسي للحزب باجتماع 9 أيار 1969 لقرار برفض المشاركة بمشروع انقلاب عسكري عرضه عليه الرائد فاروق حمدالله، وعندما جرى التصويت على فكرة الانقلاب العسكري صوّت الشيوعيون بالرفض في «تنظيم الضباط الأحرار»، وقد عوقب حزبياً العقيد عثمان حاج حسين أبوشيبة عندما شارك في انقلاب 25 مايو (1969) ضد قرار الحزب حيث كافأه النميري بتعيينه قائداً للحرس الجمهوري. ولكن الحزب سكت عندما تم تعيين الضابطين الشيوعيين بابكر النور وهاشم العطا في مجلس قيادة الثورة بأعضائه العشرة، وأصيب بالارتباك عنما تم تعيين أربعة وزراء شيوعيين في حكومة النظام الجديد من دون استشارة الحزب، وقد قاد هذا إلى تفجر خلاف في الحزب الشيوعي كانت مقالات أحمد سليمان تعبيراً أولياً ومبكراً عنها، وكذلك رد عبد الخالق، حيث كان اتجاه أحمد سليمان، وقد تبلور في عامي 1969و1970 نحو استقطاب 12من أصل 32 عضواً باللجنة المركزية، يقول إن هناك «اتجاهاً ديمقراطياً ثورياً في النظام العسكري الجديد» يضم عروبيين وشيوعيين يجب على الحزب الشيوعي أن يتعاون ويندمج به في «اتجاه التحول الاشتراكي». وكان الاتحاد السوفياتي يضغط باتجاه ذلك على الشيوعيين تجاه النظامين البعثيين في دمشق وبغداد، وقد ضغط قبل ذلك باتجاه حل الحزب الشيوعي المصري عام 1964 واندماج الشيوعيين في «الاتحاد الاشتراكي». كان عبد الخالق ضد هذا الخط في تقييم النظام العسكري الجديد وكان يرى أنه «انقلاب عسكري وليس عملاً شعبياً» يمثل تحولاً تقدمياً بقيادة «الجناح التقدمي في البرجوازية الصغيرة» ولكن لا يمكن للحزب الشيوعي أن يذوب فيه وفي تنظيماته المقترحة مثل ما جرى للشيوعيين المصريين ولا يمكن أن يؤيده بدون شروط، فيما كان رأي الجناح الشيوعي الآخر معاكساً. قاد هذا إلى الصدام بين الشيوعيين والنميري وإلى انقسام الحزب الشيوعي بقيادة جناح تعاون مع النظام بقيادة أحمد سليمان ومعاوية إبراهيم وكان يضم وزراء مثل وزير الخارجية فاروق أبو عيسى.
ad
ما حظرته قيادة الحزب الشيوعي على نفسها في أيار 1969 يبدو أنها فعلته في 19 تموز 1971 بعد الصدام مع النميري الذي تفجّر في خريف 1970 وترافق مع انقسام الحزب الشيوعي وإبعاد الضباط الثلاثة من مجلس قيادة الثورة واعتقال عبد الخالق محجوب. كان تهريب عبد الخالق من سجن ثكنة معسكر الشجرة في يوم 29 حزيران 1971 وإيواؤه في منزل قائد الحرس الجمهوري العقيد أبو شيبة بداية الانطلاق نحو الانقلاب العسكري الذي نُفذ في ظهيرة يوم 19 تموز ثم أُحبط وفشل في 22 يوليو 1971 من قبل قوات عسكرية سودانية بمؤازرة مصرية وليبية. كان اشتراك ضباط شيوعيين في الانقلاب، مثل العقيد أبو شيبة والعقيد عبد المنعم محمد أحمد، القائد الثاني لسلاح المدرعات، إضافة إلى الرائد هاشم العطا، يوحي بأن الحزب الشيوعي كان موافقاً ولو أنه لا يزال ينكر معرفته حتى الآن بالانقلاب. كما أن بيان اللجنة المركزية في اليوم التالي لانقلاب هاشم العطا وعنوانه «ذهب الزبد جفاءً»، يوحي باشتراك ليس من لحظة ما بعد الانقلاب. وقد دفع عبد الخالق حياته ثمناً لما جرى في 19 تموز 1971، وربما كانت شهوة الثأر من النميري سبباً في ذلك، على الأقل عند ضباط مثل هاشم العطا، ولكن عند شخص بوزن عبد الخالق محجوب فإن الأمر يتعلق بحسم صراع قدر هو مثل عبدالله خليل عام 1958 بأنه لا يمكن حسمه عبر الوسائل السياسية المدنية بل يحتاج فيه إلى الدبابة.
ad
على الأرجح، إن تفكير عبد الخالق محجوب عام 1971 وعبدالله خليل عام 1958 كان هو تفكير حسن الترابي عندما قامت «الجبهة الإسلامية القومية» بانقلابها العسكري عام 1989 في يوم 30 حزيران، وربما كان هذا تفكير الأب فيليب عباس غبوش زعيم «الاتحاد العام لجبال النوبة» عندما دفع ضباطاً وجنوداً من جبال النوبة للقيام بمحاولة انقلاب 5 أيلول 1975 من أجل فرض حكم «القوة السوداء الأفريقية» ضد حكم العرب في الخرطوم. يبدو الآن أن تفكير «قوى الحرية والتغيير- جناح المجلس المركزي»، وهي بزعامة حزب الأمة، هو نحو إعادة لعبة عبدالله خليل عام 1958 عندما تحاول استخدام قائد «قوات الدعم السريع» محمد حمدان دقلو- حميدتي ضد قوى أخرى تراها في قيادة الجيش وفي «الحركة الإسلامية»، حيث إنها وقفت منذ «الاتفاق الإطاري» في 5 كانون الأول الماضي مع دقلو ضد مطلب الجيش بإخضاع «قوات الدعم السريع» لقيادة القوات المسلحة في الفترة الانتقالية التي مدّتها سنتان في الاتفاق الإطاري ورفضت معه أن تكون عملية الدمج سقفها الزمني بمدة الفترة الانتقالية، وهو ما قاد مع عدم حل هذا الخلاف إلى انفجار السودان في 15 نيسان عبر المصادمات العسكرية بين الجيش و«قوات الدعم السريع».
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية