| د. راتب سكر
ولد سليمان العيسى عام 1921، في قرية «النعيرية» من لواء إسكندرون، وفيها تلقى أولى علومه على يد والده الشيخ الذي كان معلماً لمعظم أبناء هذه القرية، وكثيراً ما يذكر الشاعر في أحاديثه أن شجرة التوت التي كان يجلس تحتها في منزله ليحفظ روائع الشعر العربي هي التي شهدت أول إبداعاته الشعرية، ولكن لم يلبث سليمان العيسى وهو الطالب في الصف الأول الإعدادي الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من عمره أن يضطر إلى السفر مع أقرانه الطلاب في لواء إسكندرون إلى مدينة حلب القريبة بحثاً عن فرصة مناسبة لمتابعة تحصيلهم الدراسي، غير أن تدخل سلطات الانتداب الفرنسي في حلب اضطر القافلة اللوائية إلى السفر من جديد حتّى إذا وصلت إلى مدينة حَماة سيجتها الحركة الوطنية الناهضة بسياج من مودتها القادرة على حمايتها من تدخل ممثلي الانتداب من جهة، وعلى تأمين مستلزمات الإقامة والدراسة من جهة أخرى. وبذلك أصبح سليمان واحداً من طلبة الحلقة الإعدادية في القسم الداخلي لتجهيز «حَماة» التي كانت تشهد نهضة وطنية قومية عارمة في تلك الأيام من عام 1937، الذي شهد التحاق كوكبة جديدة من المناضلين بساحة المواجهة الساخنة في فلسطين تغذيها دماء الشهداء بأجمل أناشيدها كما غذتها قبل عام مضى دماء الشهيد سعيد العاص بطل معركة جبل النار.
تشكل الوعي
في هذا المناخ المنسوج بأصداء المواجهة مع الانتداب الفرنسي في سورية، ومع الحركة الصهيونية المتحالفة مع الانتداب الإنكليزي في فلسطين، عاش سليمان عام التشرد الأول على ربوع العاصي ينشد القصائد في الأندية والمناسبات بصوته الذي سيمتزج يوماً بعد يوم بالآمال الوطنية والقومية، ليصبح أحد أبرز رموزها الأدبية والوجدانية.
تابع سليمان في الأعوام القليلة اللاحقة تحصيله الدراسي في ثانوية «جودة الهاشمي» في دمشق موطداً علاقاته مع الطلبة ذوي الميول الوطنية والقومية وفي مقدمتهم أقرانه الذين شاركوه محنة التشرد من لواء إسكندرون، وقد كان لأستاذهم المناضل البارز زكي الأرسوزي دوره المتميز في شحذ هممهم وتحويل مشاعرهم اللاهبة إلى فعل سياسي يومي منظم، وراح البيت البسيط الذي يسكنه سليمان العيسى وعدد من رفاقه اللوائيين وعلى رأسهم الأرسوزي يشهد أنشطة اجتماعية وسياسية خطيرة، وشارك سليمان رفاقه في كتابة القصائد والمقالات في الصحف وفي الاجتماعات الأولى لأولئك الثائرين الحالمين الذين ولدوا من رحم أحلامهم «حزب البعث العربي» الذي سيعقد مؤتمره التأسيسي في السابع من نيسان 1947، غير أن ذلك الطالب المجد لم يحضر هذا المؤتمر، فقد كان في بغداد يتابع تحصيله الدراسي الجامعي ليعود أمضى عزيمة على دروب الحياة الطافحة بالآمال والأحلام.
العراق والسياب والدراسة
سافر سليمان سنة 1944 إلى العراق مع مجموعة من أقرانه المستفيدين مثله من بعثة تعليمية يقدمها العراق للطلبة العرب، وأصبح طالباً في دار المعلمين العالية ببغداد. قرب باب عمادة الدار التقى طالباً مثله يحمل أوراق التسجيل اسمه بدر شاكر السياب، فتعارفا سريعاً، وحملتهما أجنحة القصائد بسحرها المعهود إلى عوالم من الصداقة والمودة لا يعرف أنوار شواطئها إلا الفرسان الجديرون بها، وقد ظلت تومض في عيني سليمان بريقاً خاصاً كلما ذكر اسم بدر حتى هذه اللحظة من مطلع القرن الحادي والعشرين بعد ستة وخمسين عاماً مرت على لقائهما الأول ذاك.
وقد غذّى ومضها غير قصيدة من قصائده بتعبير شفيف عن قيم تلك الصداقة النابتة في حقول الوطنية والعروبة والآمال الرهيفة التي وصفها الشاعر ذات يوم من عام 1960 في قصيدته «إلى صديقي بدر شاكر السياب» بقوله:
«أخا الصبوات العذاب العذاب
كأن الربيع بها سرمدي
أما زال ينبض صـدر النخيل
ببغداد من حلمنا الأرغد»؟
عاد سليمان أواخر الأربعينيات يحمل الإجازة الجامعية في الأدب العربي، وأصبح مدرساً في ثانويات حلب التي أغلق الحاكم الفرنسي أبوابها بوجهه قبل اثنتي عشرة سنة، وسرعان ما أصبح اسمه يزين المنتديات الأدبية والثقافية، ويهدر صوته بالقصائد اللاهبة التي تتحول إلى أناشيد حماسية يرددها الطلبة وغيرهم من الناس المشاركين في النضال الوطني الذي انتقل من مواجهة الانتداب الفرنسي بعد الاستقلال إلى مواجهة الديكتاتورية ومشاريع الأحلاف الاستعمارية التي كانت تحدق بالمنطقة.
العيسى والتدريس
التقى سليمان سنة 1950 بملكة أبيض العائدة إلى حلب من بعثة تعليمية في بروكسل ببلجيكا، وسرعان ما تحول اللقاء إلى ألفة قادت صاحبيها إلى زواج مثالي، يمنحه تعاون مؤسسيه وشغلهما المشترك في مجالات الترجمة والبحث والتأليف آفاقاً رحبة، ينطلقان إلى منتدياتها محولين القبو الشهير، أو الذي غدا شهيراً بهما في أوساط حلب إلى مركز ثقافي وقومي من طراز فريد، وهو قبو يقع في شارع الملك فيصل المؤدي إلى حديقة السبيل.
بعد عشرين عاماً من التدريس في ثانويات حلب، ينتقل سليمان للإقامة في دمشق وقد أصبح الموجه الأول لمادة اللغة العربية في وزارة التربية أواخر الستينيات، وكانت باكورة عطائه في هذا المجال العمل لإدراج بدر شاكر السياب في مناهج الصف الثالث الثانوي الأدبي، وكان بدر ـ صديق أيام الدراسة في بغداد قد رحل عن دنيانا في عام 1961، وكان موقف سليمان هذا يعبر عن صفة الوفاء الأصيلة في نفسه، كما يعبر عن قيمه النقدية والأدبية وسط احتدام الصراعات بين التيارات والمذاهب الأدبية والثقافية في تلك المرحلة النابضة بالصراع والتغيير في أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات.
العيسى والمقالح
أما سليمان الذي كان يتابع نشر قصائده ومشاركاته في التأليف والترجمة، فكان يشارك في انطلاقة غير مؤسسة أدبية ثقافية، وفي مقدمتها اتحاد الكتاب العرب الذي انتخبه عضواً في مكتبه التنفيذي، وقد راح أدب الأطفال يأخذ مساحة واسعة من ساحات عطائه الأدبي منذ أواخر الستينيات حتى غدا أحد أبرز إعلامه في الأدب العربي المعاصر، كما يرى صديقه الأديب د. عبد العزيز المقالح.
بدأت رحلة الصداقة بين الأديبين الكبيرين العيسى والمقالح منذ مطلع الثمانينيات، عندما زار سليمان اليمن مشاركاً في مؤتمر اتحاد الأدباء، وألقى قصيدته الشهيرة في صنعاء والتي يقول مطلعها:
ماذا من الشهقة الحمراء أختزن
أمشي.. وتنأين يا صنعاء.. يا عدن
لقد أثرت هذه الصداقة في أدب سليمان العيسى وحياته تأثيراً عميقاً، يحتاج إلى دراسة متأنية خاصة، إذ لم يكتف الشاعر بفتح نوافذ قصائده على التفاعل الإبداعي مع المنجز الشعري والنقدي المهم للدكتور عبد العزيز المقالح، وإنما جعل الموضوع اليمني في صلب توجهه الشعري، وخاصة بعد إقامته في ربوع اليمن منذ أكثر من عشر سنوات. وعندما سمح لي هذان الأديبان الكبيران بالاقتراب من حدائق ذلك التفاعل الأدبي الإبداعي المشار إليه، وجدتني أربط سنوات إعارتي للتدريس في جامعة صنعاء بأشجاره المزهرة، وما تزدان به من قطوف دانية، فتنكشف أمام ناظري حقول ثقافية ريانة بالمواعيد.
توفي الشاعر الكبير سليمان العيسى عن عمر ناهز 92 عاماً في آب 2013.
سيرياهوم نيوز1-الوطن