آمال خليل
في منتصف السهل بين مجدل عنجر والدكوة (قضاء زحلة)، تتوزّع خيم النازحين السوريين على جانبَي الطريق. تعرف المنطقة كما سائر البقاع، العمّال السوريين منذ عقود، عندما قامت عليهم استثمارات الزراعة والصناعة. كلّ ما تغير بعد الأزمة السورية، هو اقتياد هؤلاء العمال لعائلاتهم التي تكاثرت، فصارت مجتمعات مستقلة. مفوّضية اللاجئين في الأمم المتحدة، بالتعاون مع منظمات مدنية، استحدثت محطة صرف صحي خاصة بالتجمّع المؤلّف من خيم قليلة. حفر صحية موصولة بمضخات تعمل على الطاقة الشمسية. الهدف السامي لمعالجة الصرف الصحي، حماية النازحين من التلوّث الذي ينتج أمراضاً خطيرة. لكنّ المشروع يثير غضب ابنة برّالياس، المقيمة منذ عقود في منزلها الملاصق له. تشكو من الروائح الكريهة الناتجة عن المحطة وتشير إلى طفلها الذي «لا يمرّ أسبوع واحد من دون أن أعرضه على الطبيب بعد تكرار توعّكه».
مرض وفير
نسبة تأثر ذلك الطفل، وأطفال النازحين، بالخلل المحتمل في المشروع، كبيرة. لكنّ احتمال تأثرهم بمخاطر صحية قد تؤدي إلى الموت، بسبب معيشتهم هنا، أكبر بكثير. يلعب الأطفال بمحاذاة الطريق غير المزوّد بالإنارة الليلية. حركة السيارات والشاحنات التي تنقل المواشي والمزروعات لا تتوقف في الليل والنهار. فيما روافد نهر الليطاني الملوّثة تحاصرهم من كلّ جانب وتسقي الحقول المجاورة التي يأكلون منها. المرض الوفير في مقابل الخدمة الطبية القليلة، يضاعف نسب الموت. وفي حال وقع الموت على أحدهم، فالمقبرة الواقعة عند طرف المخيم، جاهزة لاستقبالهم؛ تحديداً لاستقبال الأطفال منهم. أحمد عيسى (11 عاماً) يواظب على زيارة المقبرة وسقاية القبور. تعرّف إليها بعدما دفن فيها صديقه وجاره الذي قضى في حادث صدم.
ad
مقبرة ذائعة الصيت
نهاية العام الماضي، أُقفلت مقبرة النازحين السوريين التي أنشأتها بلدية مجدل عنجر عام 2017. جميع نواحيها امتلأت بقبور سوريين، بعضهم كان يقيم في البلدة ومحيطها، ومعظمهم كان يقيم بعيداً عنها إلا أن صيتها ذاع في مجتمعات النزوح، حتى صارت مقصداً لهم. لكن منذ حوالي خمسة أشهر، لم يُسجل دفن لمُتوفّى راشد، بحسب حارس المقبرة أحمد، النازح من ريف حمص. «الدفن اقتصر أخيراً على الأطفال الذين نحشر جثامينهم الصغيرة بين القبور الموجودة وفي الزوايا التي لا تزال شاغرة».
صفوف طويلة من القبور بأشكال وأحجام تظهر اختلاف أهالي الأموات مادياً واجتماعياً ومذهبياً ومناطقياً. هذا قبر تمدّد على مساحة كبيرة، وسُيّج بسياج وبحوض زهور. وذلك قبر مُيّز بحجر أو بعود خشبي كشاهد، وبكومة تراب من دون تحديد هوية صاحبه. في مقبرة مجدل عنجر، تحضر الجغرافيا السورية. هذا عاكف من مخيم اليرموك، وذاك عبد الرزاق من معضمية الشام وهناك مصطفى من بنش في إدلب وحنيفة من حي جوبر في ضواحي دمشق وفضة من دير الزور… أمام قبر مريم الرفاعي المتوفّاة منذ عامين، وقفت ابنتها هويدا وصهرها هاشم كلكوتلي. عند وفاة والدتها، كانت هويدا تقيم في بسكنتا في أعالي المتن. رافقتها في يومها الأخير حيث كانت تُعالج في أحد مستشفيات بعلبك. لم تفكر حتى في البحث عن قبر لوالدتها في جبل لبنان استناداً إلى تجارب سابقة لسوريين مُنعوا من دفن أقربائهم هناك. بمساعدة أقرباء لها يقيمون في بلدات بقاعية، بحثت عن مقبرة تستقبل والدتها. في اليوم التالي، نجحت الوساطات بحجز مرقد لها في مقبرة مجدل عنجر بعد رفض بلدات أخرى. «كتّر خيرهم خلونا ندفن هون. ما منقدر نطلع على سوريا» قالت هويدا في إشارة إلى بلدية مجدل عنجر. دفن والدتها هنا، شجّعها لتغيير سكنها. انتقلت من بسكنتا إلى المنطقة الصناعية في مجدل عنجر لتتمكن من زيارة القبر دوماً.
ad
لا يخفي هاشم فرحه بإيجاد مرقد لائق لحماته لكنه يخشى من موت قريب آخر
تتحدّر الرفاعي من حي جوبر. وبرغم أنه أصبح آمناً، لم يفكر أهلها بنقل الجثمان عبر الحدود. «تكلفة النقل كبيرة ومعاملات تسجيل الوفاة التي تشترطها السفارة السورية للسماح بدخول الجثمان معقّدة وتستلزم وقتاً. والجثمان لا ينتظر في السيارة، في الوقت الذي لا يملك كثر القدرة على دفع بدل حفظه في براد المستشفى إلى حين إنجاز المعاملات. مع ذلك، هناك سوريون كثر عادوا بجثامين موتاهم إلى مسقط رأسها تنفيذاً لوصيتهم». يشير هاشم إلى أن نسبة الجثامين العائدة عبر الحدود تزداد عاماً بعد عام «إما بسبب استتباب الأمن في كثير من المناطق والشعور بقرب العودة إلى الوطن، أو بسبب ازدحام المدافن في أماكن النزوح». لا يخفي هاشم فرحه بإيجاد مرقد لائق لحماته، لكنه يخشى من موت قريب آخر بعدما أُقفلت مقبرة مجدل عنجر. بحسب حارس المقبرة، تشهد المقبرة زحمة زيارات في الأعياد لأقارب يأتون من مناطق بعيدة. بعضهم يتعهّد بنقل رفات أمواته إلى سوريا بعد انتهاء الحرب. فيما آخرون لا يأبهون «الذي مات مات، والميتة هي نفسها أينما كان» قال هاشم.
ad
سعيد ياسين: استحداث المقابر ليس حلاً
بعد أشهر على انتخابه رئيساً لبلدية مجدل عنجر، استحصل سعيد ياسين على قرار بلدي بإنشاء مقبرة خاصة بالنازحين السوريين. منذ بداية الأزمة السورية عام 2011، استقبلت «بوابة لبنان إلى سوريا والعالم العربي» كما يصفها، حوالي 33 ألف نازح سوري، انتشروا بين حوالي 25 ألف لبناني من أبناء البلدة. بحكم الجيرة والعلاقات التاريخية، شرعت مجدل عنجر أبوابها للنازحين ومنها مقبرة البلدة. «لم نميّز في الموت بين لبناني وسوري. سمحنا بدفن النازحين المقيمين في المجدل ومحيطها. لكنّ المقبرة ضاقت بالقبور، ما أجبرنا على وقف السماح بدفن موتى السوريين في مقبرة البلدة واستحداث بديل لهم في مقبرة خاصة». يشير ياسين إلى أن قرار إنشاء مقبرة خاصة بالسوريين كان الأول من نوعه على مستوى لبنان. «واجهت اعتراضات، لكنّي لو لم أفعل ذلك، لما وجد ابن مجدل عنجر قبراً له». خلال عام 2017، تم تجهيز المقبرة بدعم من الصندوق البلدي ومفوّضية اللاجئين ومتبرّعين.
ad
«أنشأنا 200 قبر، لكنها امتلأت جميعها». تتنازع ياسين اعتبارات عدة، بين «الواجب الإنساني والأخلاقي الذي يقضي بإنشاء مقبرة جديدة للسوريين» و«الدعوة لنقل الجثامين إلى سوريا لمن يستطيع إلى ذلك سبيلاً». يميل ياسين إلى الاعتبار الثاني. يرى أن المجتمع الدولي لم يضع خطة متكاملة لمعالجة النزوح وتداعياته، منها أزمة الدفن. في المقابل، فإن استحداث مقبرة ثانية وثالثة «ليس سوى حل ترقيعي».
سيرياهوم نيوز 1-سانا