إبرهيم علوش
يفترض بالاقتصاد النقدي في النظام الاقتصادي العالمي الجديد أن يتبع الاقتصاد الحقيقي لا العكس، كي تستعيد البشرية السيطرة على مقاليد أمورها اقتصادياً من أيدي أرباب رأس المال المالي الدولي.
يعدّ استقلال البنك المركزي عن الدولة، في النظرية الاقتصادية النيوكلاسيكية، أحد أهم شروط أهليته. وتدفع المؤسسات الاقتصادية الدولية دوماً، ولا سيما صندوق النقد الدولي، باتجاه تحقيق المزيد من الاستقلالية للبنوك المركزية في الدول التي تقترض منها أو تخضع لبرامج “التصحيح الهيكلي”.
يُلقّن طلاب علم الاقتصاد في الجامعات “قدسية” استقلال المصرف المركزي، ويُعلَّمون أن تلك الاستقلالية ضمانة في وجه التضخم وشرطٌ لاستقرار سعر صرف العملة محلياً، لأنها تتيح للبنك المركزي أن يتبع عند الضرورة سياسات نقدية انكماشية مؤلمة “غير شعبوية” لا تخضع لحسابات السياسيين الانتخابية أو للأجندات “قصيرة النظر” لأصحاب القرار الذين لا يهمهم توازن الاقتصاد الكلي بمقدار ما تهمهم مصالحهم الآنية، بحسب هذه السردية.
يتبع تلقائياً أن استقلالية المصرف المركزي تزيد جاذبية العملة المحلية، المستقرة أسعار صرفها، والتي لا يقضم التضخم قوتها الشرائية دولياً، الأمر الذي يجعلها أكثر موثوقيةً لدى الأجانب.
لذلك، تعد السردية الليبرالية الجديدة استقلالية المصرف المركزي المطلقة عن الجهاز التنفيذي أو التشريعي أو القضائي للدولة وعن الشعب وأولوياته عموماً أحد شروط تحول عملة ما إلى عملة صعبة، وهو الشرط الذي لا تجده تلك السردية متحققاً في روسيا والصين وغيرها من “الأنظمة الشمولية”، الأمر الَّذي يجعل عملات تلك الدول، بناءً على ذلك الخطاب، أقل موثوقية لدى الأجانب، لأن السياسات النقدية فيها تُدار بروحية “غير مستقلة”.
تُنصّب الليبرالية الجديدة البنوك المركزية إذاً حاكماً مطلقاً، غير منتخب ولا يخضع لأي مساءلة، لحياة البلاد اقتصادياً ونقدياً. رغم ذلك، لا تجد الغرب يموّل جمعيات غير حكومية وإعلاماً “مستقلاً” وحراكات “ديمقراطية” تراقب ذلك الحاكم المطلق وتفند تجاوزاته وتتصدى لها، حرصاً على “قدسية” استقلال المصرف المركزي (اقرأ: قدسية سلطاته)، لكنك تجده ينتقد بمرارة “اعتباطية” الحكومات أو “جهالة” بعض الشرائح الاجتماعية، إذا اعترضت على هذه الخطوة أو تلك للمصارف المركزية “المستقلة”، وهو نقدٌ، بالمناسبة، لا يظهر غالباً في العلن، لكنْ تضيق به سطور بعض التقارير والمقالات وجدران قاعات بعض الجامعات واللقاءات النخبوية ذات المنحنى الليبرالي الجديد.
الاحتياطي الفيدرالي الأميركي نموذجاً أعلى لاستقلالية المصارف المركزية
يتمثل النموذج الأعلى غربياً لاستقلالية البنك المركزي في “الاحتياطي الفيدرالي” الأميركي، الذي صودف أنه يتحكم في الدولار وسعر الفائدة الأميركيين، ما ينعكس على الاقتصاد الدولي برمته، لا الأميركي فحسب.
يتميز الاحتياطي الفيدرالي، كما أشرنا الأسبوع الفائت في الميادين نت، بأنه ينقسم إلى 12 مصرفاً إقليمياً أميركياً يرأس كلاً منها مجلس إدارة من 9 أعضاء، منهم 6 يأتون مباشرةً من المصارف الخاصة، ويتميز أيضاً بأن نسبةً من مجلس حكامه الـ7 على المستوى القومي الأميركي يتحدرون من المؤسسات المصرفية والمالية الأميركية الخاصة الكبيرة، على غرار الرئيس الحالي لمجلس حكام الاحتياطي الفيدرالي جيروم بأول.
أضف إلى ذلك أن رئيس الاحتياطي الفيدرالي يرشحه الرئيس الأميركي لمجلس الشيوخ الذي قد يقر تثبيته أو لا يقره، لكنْ لا يحق للرئيس أو لمجلس الشيوخ بعدها أن يعزله أو أن يتدخل في قراراته وسياساته، بل لهم فقط أن يجددوا أو لا يجددوا له بعد انقضاء 4 سنوات من ولايته. ويمكن أن يُمدد له عدة مرات، فهو غير مقيد بولايتين. وإذا لم يُمدد له، يبقى أحد حكام المصرف المركزي الـ 7.
خدم آلان غرينسبان مثلاً 18 عاماً على رأس الاحتياطي الفيدرالي، أي 4 سنوات أكثر من الأعوام الـ14 المسموح بها قانونياً، وجدد له مجلس الشيوخ عام 2004، ووجهه وضاحٌ وثغرهُ باسمٌ (بالاستعارة من أبي الطيب المتنبي)، بناءً على ترشيح الرئيس الأسبق جورج بوش الابن.
ولم يثر التمديد لغرينسبان تكراراً، على رأس أهم موقع في الاقتصاد الدولي، لغطاً في الدوائر الليبرالية أو الإعلامية الأميركية، ولم يثِر تحفظاتٍ قانونية أو حساسيات ليبرالية. وكان غرينسبان خلال خدمته على رأس الاحتياطي الفيدرالي (1987-2006)، بالمناسبة، “سوسة” تحرض مسؤولي الإدارات الأميركية المتعاقبة بدأب على شن الحرب على العراق، كما كشف لاحقاً.
يذكر أن غرينسبان يهودي من نيويورك حائز على دكتوراه في علم الاقتصاد من جامعة نيويورك “NYU”، كما أنه سليلٌ عريقٌ للقطاع المالي والمصرفي في المدينة الذي عاد إليه مستشاراً كبيراً بعد انتهاء ولايته في الاحتياطي الفيدرالي.
يضاف ذلك إلى أن رئيس الاحتياطي الفيدرالي يتوجب اختياره من صفوف مجلس حكامه الـ7، الذين يفترض ألا تزيد ولاية الواحد منهم على 14 عاماً، لكنْ يجري التمديد لبعضهم في “حالات خاصة”، كما في حالة آلان غرينسبان أعلاه.
ويرشح الرئيس الأميركي حكام المصرف المركزي الـ7 ويثبتهم مجلس الشيوخ، ولكن لا تستطيع السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية عزلهم أو التدخل في طريقة تسييرهم للشأن النقدي بعدها، كما أن كلاً من الحكام الـ7 يبدَلون فردياً على فترات متباعدة، كي لا يتمكن أي رئيس أميركي أو مجلس شيوخ من تغيير كل طاقم المجلس دفعةً واحدةً على هواه السياسي أو الحزبي أو الشخصي.
لدينا نموذجٌ هنا إذاً لمصرفٍ مركزيٍ مستقلٍ عن الدولة والشعب لا يسائله أحدٌ بموجب القانون في قراراته وخطواته، ورئيسه ليس مضطراً حتى إلى مقابلة الإعلام ما لم يرغب في ذلك، لكنه يتمتع بسلطات وصلاحيات تجعله أقوى رجلٍ أو امرأة في عالم الاقتصاد دولياً، لأنه يتحكم في مفاتيح الدولار الأميركي وسعر صرفه ومعدلات الفائدة والتضخم.
إن رئيس الاحتياطي الفيدرالي الذي يتحكم في مصائر شعوب برمتها غير مسؤول إزاء أحدٍ فعلياً ما عدا المؤسسات المالية والمصرفية التي تمثل قاعدة الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، أي رأس المال المالي، وهذا هو المعنى الحقيقي لاستقلالية المصرف المركزي التي تنادي بها المؤسسات الاقتصادية الدولية: استقلاله عن المصلحة العامة.
إن استقلالية المصرف المركزي المطلقة، ولا سيما أميركياً، تعني ديكتاتورية رأس المال المالي، أميركياً ودولياً، واستقلالية المصارف المركزية الأخرى تعني، بدورها، تحريرها من كل القيود العامة كي تخضع بالكامل للاحتياطي الفيدرالي.
ترامب يكشف عَرَضاً صلة الاحتياطي الفيدرالي برأس المال المالي
يذكر أن البروفيسورة جانيت يلين، وزيرة الخزانة الأميركية حالياً، كانت رئيسة المصرف المركزي بين عامي 2014-2018، ونائبة رئيسه بين عامي 2010-2014، وهي أكاديمية مرموقة، لكنّ الرئيس السابق دونالد ترامب لم يرشحها لولاية جديدة على رأس الاحتياطي الفيدرالي في سياق صراعه مع الدولة العميقة. وكانت يلين اتُهِمت جمهورياً بإبقاء معدلات الفائدة منخفضة عمداً لمساعدة هيلاري كلينتون والديمقراطيين انتخابياً ضد ترامب في نهاية عهد الرئيس الأسبق أوباما.
نشر دونالد ترامب إعلاناً في خضم الحملة الانتخابية آنذاك، يُظهِر صورة يلين مع صورتي المليارديرين جورج سورس ولويد بلانكفين (رئيس “غولدمان ساكس”؛ أحد أبرز المصارف وصناديق الاستثمار الأميركية)، الأمر الذي فجّر ضده تهماً بـ”معاداة السامية”، لأنه وصف الثلاثة السابق ذكرهم في الإعلان بصوته أنهم جزء من المؤسسة السياسية الفاسدة والفاشلة المسؤولة عن خراب السياسات الاقتصادية والخارجية التي أفقرت البلاد وهجّرت وظائف العمال خارج الولايات المتحدة، لكنْ صودف أن الثلاثة يهود!
ترامب ليس مناهضاً لهيمنة الدولار طبعاً، ولا مناهضاً للصهيونية، إلا أنه حاول بوعيه المسطح إغواء العمال المتضررين من العولمة في الولايات المتحدة دعائياً، فوقع على هؤلاء الثلاثة. ولم يشفع له أن ابنته إيفانكا تهوّدت وتزوجت من يهودي هو جاريد كوشنر.
فعل خطاب ترامب فعله انتخابياً طبعاً، لأنه لامس وتراً حساساً، لكنّه ارتطم بالخطوط الحمر للنخبة الأميركية الحاكمة، من دون أن يدرك على الأرجح أنه كشف صلة الاحتياطي الفيدرالي برأس المال المالي، مضفياً إلى تلك الصلة صبغةً يهودية في وعي العامة، وهو ما لا يمكن احتماله نخبوياً أو حتى لدى اليسار الليبرالي، ناهيك برئيسة الاحتياطي الفيدرالي آنذاك، جانيت يلين، التي فتح ترامب معركةً معها قبل أن يطأ عتبات البيت الأبيض.
لذلك، أصبح عدم إعادة ترشيح يلين لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي، بعدما خمد غبار المعركة الانتخابية، لمن اعتقد أن كلام الانتخابات يمحوه استلام الحكم، أحد أهم الأسباب غير المعلنة لصراع الدولة العميقة مع ترامب. كان الأمر شخصياً بالنسبة إليه. وبأسلوبه الفظ المعهود، صرح ترامب: “كنت سأرشحها لولاية جديدة لو كانت أطول بضعة إنشات…”.
لم يدرك ترامب، كما يبدو، أنه لا يتعامل مع فرد. لهذا وحده، كان يجب أن “يطير”، فخرج لتعود يلين وزيرةً للمالية في عهد الرئيس الحالي بايدن، وهي الابنة المدللة للاحتياطي الفيدرالي التي ترأست أحد مصارفه الـ12 في سان فرانسيسكو بين عامي 2004-2010، قبل أن تنضم إلى مجلس حكامه (2010-2018) وتصبح رئيسته.
بعض شروط قيام بديل للدولار الأميركي في زماننا
تنسب السردية النيوكلاسيكية قوة الدولار ومقبوليته دولياً إلى استقلالية الاحتياطي الفيدرالي من بين عوامل أخرى، مثل:
1) عمق الأسواق المالية الأميركية، أي اتساع الاقتصاد النقدي مقارنةً بالاقتصاد الحقيقي، واتساعها حجماً مقارنةً بغيرها من الأسواق المالية في العالم، أسهماً وسندات ومشتقات وأذونات خزانة أميركية، ما يعزز قدرتها على استيعاب الفوائض المالية للدول المصدّرة وسيولة تلك الأسواق، أي سهولة تحويل أصولها المالية إلى “كاش” أو نقد.
2) شفافية إدارة الشركات المساهمة، أي وضوح القواعد والإجراءات المعتمدة لإدارتها، ما يزيد جاذبية الأسهم الأميركية للمستثمرين الأجانب، مقارنةً بالشركات التي تتحكم فيها اعتبارات شخصية أو عائلية أو سياسية يصبح المال الداخل إليها مفقوداً والخارج منها مولوداً.
3) حكم القانون، ولا سيما تجارياً ومالياً، ومنح غير المواطنين حق تملك الأصول المحلية المالية والمادية بحرية، وهو ما يعنيه تحول عملة محلية إلى عملة احتياطٍ دوليةٍ فعلياً: تملك الأجانب أصولاً في البلد الذي تصبح عملته عملة احتياطٍ دولية.
4) الاستعداد لترك الاقتصاد الكلي يتقلب مع قوى العرض والطلب دولياً، وما قد ينتج من ذلك من عجزٍ في الحساب الجاري أو المالي في ميزان المدفوعات، لأن تدفق رؤوس الأموال دولياً إلى عملة بلدٍ ما يخلق فائضاً في الحساب المالي في ميزان المدفوعات، الأمر الذي لا بد من أن يقابله عجزٌ في الحساب الجاري، ومنه الميزان التجاري، ما يمكن أن يقلص الفائض التجاري الصيني مثلاً الذي اعتمد نهوض الصين عليه، فيما لو أصبح اليوان عملة الاحتياط الدولية الأولى.
وتشكّل النقاط الثلاث الأخيرة أعلاه نقاطاً برسم التفكير الجاد من طرف المعنيين بإيجاد بديل للدولار الأميركي عالمياً، إذ إن المسألة ليست مسألة إرادوية أو مسألة قرار سياسي فحسب، فهي من العوامل التي لا بد من التفكير جدياً بوضع رؤية، ومن ثم خطة عمل تنفيذية، لمعالجتها، وإلا فإن الحديث عن بديل للدولار الأميركي يبقى إنشاءً خطابياً محضاً.
الاقتصاد النقدي في مقابل الاقتصاد الحقيقي
أما قصة سعة الأسواق المالية الأميركية ومرونتها وسيولتها وتمددها عميقاً مقارنةً بالاقتصاد الحقيقي المنتج، ما يتيح استيعاب الفوائض المالية حول الكرة الأرضية في الأسهم والسندات والأوراق المالية الأميركية، ففيه حديثٌ طويل، لأن بعضاً مما يقال هنا صحيح وضروري كي تصبح العملة المحلية عملةً دوليةً.
لكن البعض الآخر مما يقال هنا يعبر عن تحيز أيديولوجي من طرف الليبراليين الجدد والمدرسة النيوكلاسيكية في علم الاقتصاد لمصلحة رأس المال المالي على حساب رأس المال المادي الذي ينتج السلع والخدمات والتكنولوجيا، ولمصلحة الدولة الأميركية وقدرتها على الاقتراض والإنفاق من دون حدود من خلال إصدار أذونات خزانة وسندات حكومية يبتاعها المستثمرون الأجانب بكل سرور.
الأمل هو أن يركز النظام الاقتصادي الدولي الجديد، المقترن بإيجاد بديل للدولار الأميركي، على استثمارات طويلة المدى ترتبط بمصانع ومزارع ومنشآت إنتاجية وتجارية وشبكات بنية تحتية ورأس مال بشري، على غرار مشروع “الحزام والطريق” مثلاً، أكثر مما يركز على حركة رؤوس الأموال قصيرة المدى، ولا سيما المضاربة المالية بالعملات والأسهم والمشتقات المالية والعقارات التي قد تنتج فقاعات فحسب أو أزمات مالية وأرباحاً هائلة لبعض المضاربين والمتمولين الكبار، من دون أن تنتج وظائفَ وتحسناً في مستوى معيشة الناس أو نمواً حقيقياً في الناتج المحلي الإجمالي أو تنمية اقتصادية.
يفترض بالاقتصاد النقدي في النظام الاقتصادي العالمي الجديد أن يتبع الاقتصاد الحقيقي، لا العكس، كي تستعيد البشرية السيطرة على مقاليد أمورها اقتصادياً من أيدي أرباب رأس المال المالي الدولي. والأمل هو أن تتوجه الفوائض المالية دولياً إلى الاستثمار الحقيقي، في الإنتاج، وفي العلم والتكنولوجيا والإبداع، وفي بناء المساكن والمنشآت الصناعية والتجارية والجامعات والمدارس والمستشفيات وشبكات المواصلات والاتصالات، لا أن تعيد إنتاج المنظومة القديمة تحت عباءة “بريكس”.
وسبق أن تطرقتُ في مادة أخرى في الميادين نت، في سياق الحديث عن صراع الغرب مع الصين وروسيا، إلى أن الصراع الذي نشهده اليوم في عالمنا المعاصر هو في أحد وجوهه صراعٌ بين رأس المال المالي في الغرب ورأس المال المنتِج في الشرق.
وسبق أن تطرقتُ أيضاً إلى الدين العام الخارجي الأميركي الذي ينوف على 7 تريليون دولار، وهو أكبر دين عام خارجي في الكرة الأرضية منذ أن تأسست الدول، لكنّ مثل هذا الوضوح في طبيعة الصراع لما يتجلَ بعد، للأسف، في برنامجٍ سياسيٍ واقتصاديٍ واضح تطرحه “بريكس” بهذا الخصوص.
عودة إلى مسألة استقلالية المصرف المركزي
أما مسألة استقلالية المصرف المركزي، فمن البديهي أن قرارات مصيرية، مثل كمية النقد في التداول ومعدل الفائدة المرجعي وسعر الصرف، وكلها مترابطة طبعاً، لا يجوز ولا يمكن أن تحكمها اعتبارات رعناء أو آنية أو انتخابية إذا كان الهدف هو استقرار الدول واقتصاداتها وعملاتها.
يصح مثل هذا القول على أي موقع اتخاذ قرار مصيري عموماً، لا فيما يتعلق بالسياسة النقدية فحسب، ولا يدفع ذلك الغرب أو الليبراليين إلى إعفاء أصحاب تلك المواقع من المساءلة أو الرقابة أو حتى من الانتخابات الدورية، أليس كذلك؟ فلماذا يُعفى المصرف المركزي منها؟
شتان ما بين القول إذاً إن المصارف المركزية يجب أن تحكمها عقلية رزينة ومستقرة ومسؤولة ومنزهة عن الأجندات الخاصة، والقول إنها يجب أن تخضع فقط لحسابات رأس المال المالي الدولي والمؤسسات الاقتصادية الدولية والاحتياطي الفيدرالي الأميركي تحت عنوان “استقلاليتها”، لأن ما ينتج من ذلك هو إعطاء الأولوية الأولى في السياسة النقدية لاحتواء معدل التضخم، لأن التضخم يقضم قيمة الأصول المالية والنقدية، مثل حسابات الإدخار أو الأسهم والسندات، كما يقضم الاستهلاك قيمة الأصول المادية، مثل الآلات والمعدات والأبنية، وكما يقضم التقادم التكنولوجي والفني قيمة الأصول غير المالية، مثل براءات الاختراع وحقوق الطبع والتأليف وحقوق الملكية الفكرية عموماً.
وما يجري اليوم في الولايات المتحدة من سعيٍ حثيثٍ لاحتواء معدل التضخم على حساب معدل نمو الاقتصاد الحقيقي، وحتى على حساب بعض المصارف الكبيرة التي راحت تنهار الواحد تلو الآخر، والتي راحت تلتهما مصارف أكبر منها، هو دفاعٌ أيديولوجي عن قيمة ثروات رأس المال المالي، حتى لو جرت تغطية ذلك بخطاب يزعم استهداف التضخم للدفاع عن القوة الشرائية للدخول المتواضعة لعامة المواطنين.
يفترض بالمصرف المركزي إذاً أن يكون جزءاً من مشروع التنمية الاقتصادية في الدول النامية والصاعدة، وأن يكون عموداً من أعمدة إنشاء نظام اقتصادي عالمي بديل في حالة دول “بريكس”. والهدف الأعلى يجب أن يصبح تعزيز استقلالية العملة المحلية عن الدولار الأميركي من أجل:
1) حماية الاقتصاد الوطني من العقوبات التي تزداد أثراً بمقدار اعتماد التجارة والاستثمار والنشاط المالي لأي دولة على الدولار الأميركي، ولا سيما في ظل ما يسمى اليوم سياسة “تسليح التجارة” weaponization of trade، التي تعتمدها الإدارة الأميركية والغرب عموماً.
2) صد انتهاكات الدولار للسيادة النقدية للدول ولقرارها الاقتصادي، لأن الدولرة تعني الارتهان لأسعار الفائدة وأسعار الصرف والسياسات النقدية التي يعتمدها الاحتياطي الفيدرالي، ما قد يخالف الأولويات والمصالح الوطنية.
3) تخفيف المخاطر المالية الناشئة عن وضع معظم الاحتياطات النقدية للمصرف المركزي في سلة الدولار الأميركي، فيما يتعلم أي مستثمر صغير أن تنويع محفظته الاستثمارية وتوزيعها في عدة أصول يقلل مخاطر الاستثمار.
4) تخفيف مخاطر تقلب الدولار إزاء العملات الأخرى. على سبيل المثال، عندما ترتفع قيمة الدولار الأميركي دولياً، تصبح الديون المحلية المسحوبة بالدولار الأميركي أثقل أقساطاً وفائدة بالعملة المحلية، ما يرهق الموازنة العامة وموازنات الشركات المحلية المقترضة بالدولار.
وللحديث تتمة…
سيرياهوم نيوز-الميادين1