|
تعدّ أزمة سقف الدين الأميركي، البالغ نحو 31.4 تريليون دولار، من أكثر الأزمات التي تثير الجدل وتشغل تفكير الكثيرين حول العالم، وذلك لأنها قضية مالية حساسة لا تقتصر تداعياتها على الاقتصاد الأميركي فحسب، بل تمتد إلى الأسواق العالمية.
أمس، تحدثت وسائل إعلام أميركية عن توقف المحادثات بشأن سقف الدين الأميركي في الكونغرس بشكل فجائي، بعد انسحاب المفاوضين الجمهوريين من القاعة، واتهام البيت الأبيض بتعطيل المناقشات. ومما أثار الجدل هو تصريحات البيت الأبيض التي عبرت عن خوفها وقلقها من هذا التوقف المفاجىء.
وكان ضيق الوقت والوضع الحرج دفعا الرئيس الأميركي إلى الإعلان عن تقليص ساعات سفره إلى آسيا من أجل العودة للمشاركة في محاولات التوصل إلى اتفاق. ويقول بايدن إن الكونغرس يحتاج إلى رفع حد الدين من دون شروط لسداد النفقات التي تمت الموافقة عليها مسبقاً. بينما يريد الجمهوريون بزعامة مكارثي أن يوافق الرئيس على تخفيضات كبيرة في الميزانية ليضمن موافقتهم.
ومع تعمّق الخلافات السياسية في شأن رفع سقف الدين الأميركي، فإنّ “خطراًَ يلوح في الأفق” يتمثل في أن حكومة الولايات المتحدة قد تتخلف عن سداد ديونها. وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، وصفت الأزمة بأنها “أكثر صعوبة” من ذي قبل، لكنها لا تزال تأمل في إمكانية التوصل إلى حلّ لمنع حدوث أول تعثر عن سداد الدين في تاريخ البلاد. فيما تحدثت جهات أميركية عن أن عرقلة سبل الحلول المطروحة على الطاولة قد توصل البلد إلى ما لا تحمد عقباه.
ما هو سقف الدين الأميركي؟
تنفق الولايات المتحدة بشكل متواصل مبالغ ضخمة تفوق ما تحققه من إيرادات، ولملء الفجوة بين الإنفاق والإيرادات، تصدر الحكومة الأميركية سندات حكومية تعدّ واحدة من أهم أدواتها للاقتراض.
وبخلاف معظم الدول المتقدمة، تضع الولايات المتحدة سقفاً للمبالغ التي يمكنها اقتراضها، وأنه لا بد أن يرفع المشرعون ذلك السقف بشكل دوري، حتى وصل إلى 31.4 تريليون دولار منتصف هذا الشهر.
ولكن، هناك ما يمنع الحكومة الأميركية من الاقتراض بلا حدود، وهو سقف الدين العام. فعندما يصل الدين العام الأميركي إلى الحد الأقصى المسموح به، تتوقف وزارة الخزانة الأميركية عن إصدار المزيد من السندات، وتجد نفسها في مأزق مالي وستعاني من نقص في المال، وهذا يعني أنها لا تستطيع تلبية التزاماتها وعلى رأسها المرتبات الفيدرالية، أو دفع ثمن المشتريات الحكومية، أو اقتراض المزيد من الأموال. هنا، يتدخل الكونغرس، الجهة المسؤولة عن رفع سقف الدين.
لا يمكن للحكومة تخطي مستوى سقف الدين الذي يحدده الكونغرس، وكان تم رفع السقف آخر مرة بمقدار 2.5 تريليون دولار في كانون الأول/ديسمبر 2021.
وينعكس هذا القرار سلباً على السياسيين الذين تنشأ بينهم حرب من نوع آخر، إذ يتعين عليهم اتخاذ قرارات بشأن المستقبل المالي الأميركي. وكان المشرعون الأميركيون يتجادلون حول رفع أو تعليق ما يسمى بسقف الديون. ولكن الخلافات السياسية حالت دون استكمال المحادثات. وهذا ما سيكون له تأثيرات محلية وعالمية أيضاً.
على مدى العقود الماضية، تجنّب الكونغرس خرق حدود الدين العام، لكن الجمهوريين أصحاب الأغلبية في مجلس النواب حالياً قالوا إنهم “لن يدعموا زيادة سقف الديون هذه المرة ما لم يتم تخفيض الإنفاق الحكومي أو الحصول على تنازلات أخرى”.
ولم يكن رفع سقف الديون مشكلة كبيرة عندما يكون هناك جمهوري في البيت الأبيض، إذ رفع الجمهوريون في الكونغرس سقف الدين 3 مرات في عهد الرئيس دونالد ترامب من دون مشكلة، حتى عندما كان ترامب يضيف ما يقرب من 7.8 تريليونات إلى الدين الوطني.
لكن رئيس مجلس النواب الحالي الجمهوري كيفن مكارثي تعهد “بعدم الانصياع” للطلب التقليدي من الرئيس بايدن برفع سقف الدين، وذلك خلال مفاوضات انتخابه رئيساً لمجلس النواب في كانون الثاني/ يناير الماضي، وهو ما يدلل على البعد السياسي للأزمة.
تأثيرات في الاقتصاد الأميركي
وزيرة الخزانة، جانيت يلين، حذرت، مراراً، من أنه إذا لم يتم كسر الجمود بين الجمهوريين والديمقراطيين، فلن يكون لدى الإدارة ما يكفي من السيولة لسداد ديونها في وقت مبكر من الأول من حزيران/يونيو.
وستبدأ وزارة الخزانة في نقل الأموال لتغطية النقص في التدفق النقدي، ويمكن أن تستمر هذه الإجراءات لبضعة أسابيع أو أشهر فقط. وستواجه الحكومة الفيدرالية بعدها صعوبة في سداد التزاماتها، مثل شيكات الضمان الاجتماعي وتكاليف الرعاية الطبي.
ورغم أن الديمقراطيين والجمهوريين يدركون أن إطالة أمد الخلاف بينهما لا يصب في صالحهما ولا في صالح واشنطن، يستمر الخلاف القائم، فيما يعيش الأميركيون حالة من التوتر والقلق لأن عدم رفع سقف الدين قبل الوقت المحدد، سيفضي إلى عرقلة نفقات حكومة بلادهم وإلى إدخال الاقتصاد في دوامة ركود لا يُتوقع أن يخرج أحد منها سالمًا، وفق ما قاله محللون أميركيون.
ويتوقع أن تنخفض عوائد السندات طويلة الأجل نتيجة توقع استمرار أسعار الفائدة المنخفضة بسبب ضعف النمو الاقتصادي وعدم اليقين.
وبسبب أزمة سقف الدين سيحدث توقف في توزيع مدفوعات الرعاية الاجتماعية والدعم للناس، ما سيؤثر في قدرتهم على الإنفاق وتلبية احتياجاتهم الضرورية، وبالتالي سيؤثر في الاقتصاد بشكل عام، وسيخلق أزمات اجتماعية داخلية (بطالة، تضخم، فقر..).
وقد بدأت تداعيات الأزمة الاقتصادية تظهر، بحسب محللين، في الداخل الأميركي من خلال الأزمة التي طالت كبار المصارف الأميركية والتي أقفلت أبوابها هذا العام. وتراجعت مؤشرات الأسهم الأميركية في الآونة الأخيرة، في ظل المخاوف بشأن الاقتصاد الأميركي والبنوك واستمرار أزمة سقف الديون.
وحذرت وزارة الخزانة من عواقب وخيمة إذا نفد النقد من الدولة لدفع فواتيرها، ما سيجعلها عاجزةً عن دفع رواتب الموظفين الفيدراليين ويؤدّي إلى ارتفاع محتمل في أسعار الفائدة مع آثار غير مباشرة على الشركات والأسواق العالميّة.
تأثيرات في الاقتصاد العالمي
تأثيرات أزمة سقف الدين لن تقتصر على الولايات المتحدة الأميركية بل ستمتد إلى الأسواق العالمية، نظراً إلى أنه في حال وصلت الأمور إلى حائط مسدود، فسيتعين على وزارة الخزانة اتخاذ “تدابير استثنائية” لتجنب كارثة مالية.
وهذا يعني أن التداعيات ستكون عالمية ومدمرة في حال وصول الحكومة الأميركية إلى سقف الدين العام. وهذا ما أكده أندرو هانتر، نائب كبير الاقتصاديين الأميركيين في كابيتال إيكونوميكس عندما قال “إننا في وضع كارثي محتمل حقيقي في الأسواق المالية”.
عندما يتعرض سوق الديون الأميركية لمشكلة عدم السداد، يمكن أن يؤثر ذلك في ثقة المستثمرين العالميين في الأصول الأميركية بشكل عام. وإذا تراجعت ثقة المستثمرين في الدولار وتخلفت الولايات المتحدة عن سداد ديونها، فإنه قد يحدث انهيار في قيمة الدولار الأميركي ويؤدي إلى اضطرابات في أسواق المال العالمية.
الكثير من الاقتصادات حول العالم ترتبط بالدولار الأميركي من خلال التجارة والاستثمار. وبالتالي، فإنه في حال تراجع قيمة الدولار، فإن هذه الاقتصادات قد تواجه صعوبات في التعامل مع النقد الأجنبي وزيادة تكاليف الاستيراد والديون، ما يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة في تلك الدول.
وانخفضت القراءة الأولية لمؤشر ثقة المستهلك الأميركي الصادرة عن جامعة ميشيغان إلى أدنى مستوى في 6 أشهر عند 57.7. كما أظهر الاستطلاع أيضاً أن التوقعات للتضخم على مدى السنوات الخمس المقبلة ارتفعت إلى 3.2%، مسجلة أعلى معدل منذ حزيران/يونيو عام 2008. كما يراقب المستثمرون واشنطن مع استمرار القلق بشأن مفاوضات سقف الديون.
وفي هذا الصدد، قال رئيس البنك الدولي، ديفيد مالباس، إنّ احتمال تخلّف الولايات المتحدة عن سداد ديونها “يزيد من المشكلات التي يواجهها الاقتصاد العالمي المتباطئ”، وذلك في وقت تتراجع الاستثمارات اللازمة لزيادة الإنتاج نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة ومستويات الديون.
وليس هذا فقط، بل وبحسب المحللين الاقتصاديين، إذا حدث تخلف عن السداد، فمن المرجح أن تزداد تكاليف الاقتراض بشكل كبير في الولايات المتحدة، ما قد يؤدي في نهاية المطاف إلى ارتفاع تكاليف الاقتراض في جميع أنحاء العالم أيضاً، وذلك لأن دين الحكومة الأميركية يشكل أساساً لتسعير العديد من الأصول المالية الأخرى.
وستفقد الأصول المالية الأخرى جزءاً كبيراً من قيمتها وسط تراجع الثقة في النظام المالي، ما قد يؤدي إلى اضطرابات مالية واقتصادية عالمية، وارتفاع تكاليف الاقتراض للحكومات والشركات والأفراد في مختلف البلدان.
الأزمة ستصب في صالح اليوان الصيني
تبني سياسات تضخم متشددة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، قد يؤدي في نهاية المطاف إلى أزمات جديدة لم تشهدها البلاد. حتى إن قرارات الكونغرس المتعلقة بإقرار قوانين إنفاق جديدة من شأنها زيادة مستوى الدين، ولن تحل الأزمة المالية بل ستطيل أمدها. إذ ازدادت ديون الحكومة الأميركية في ظل حكم كل رئيس منذ هربرت هوفر بشكل ملحوظ. واستجابة لذلك، تم رفع سقف الديون أكثر من 100 مرة.
ومما لا شك فيه، أنّ هذه الأزمة وما ستسببه من انخفاض لقيمة الدولار كما ذكرنا سابقاً، سيصب في مصلحة اليورو الأوروبي واليوان الصيني، خاصة أن العالم بدأ يشهد تحولاً تدريجياً نحو العملات الأخرى لتحرر من الهيمنة الأميركية على الاقتصاد العالمي.
وفي هذا السياق، احتلت روسيا المرتبة الثالثة بين الدول التي تستخدم اليوان الصيني في المدفوعات الدولية، حسب ما أوردت مجلة “فوربس” العالمية، مستشهدةً بإحصاءات من نظام تبادل معلومات الدفع “سويفت”.
وتمثل روسيا وإيران وفنزويلا نحو 40%، من حقول النفط المثبتة في العالم، وتبيع الدول الثلاث نفطها مقابل اليوان، كما تقدمت كل من تركيا والأرجنتين وإندونيسيا والسعودية المنتجة للنفط من الوزن الثقيل، بطلبات للدخول إلى “البريكس”، بينما انضمت مصر مؤخراً إلى بنك التنمية الجديد الذي يضم تحالف البريكس.
والعام الماضي، حلَّت المملكة المتحدة في المرتبة الثانية من بين الدول التي تستخدم اليوان، وأظهرت معدلات أعلى بعدما بلغت 6.35%، لكن لا تزال هونغ كونغ تتصدر القائمة بـ70.93% مقابل 73.82% في حزيران/يونيو).
وأيضاً قرار البرازيل، أكبر اقتصاد في أميركا اللاتينية، التعامل باليوان في تجارتها مع الصين، البالغة نحو 150 مليار دولار سنوياً، كان بمنزلة زلزال نقدي في الولايات المتحدة، لأنه يأتي بعد أحداث متسلسلة تتجه كلها نحو التخلي عن الدولرة في التجارة العالمية.
ودول رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”، بحثت هي الأخرى التقليل من الاعتماد على الدولار في المبادلات التجارية، وتتجه للتعامل بالعملات الوطنية فيما بينها.
هذه الأمور تشير إلى أنّ دور اليوان كعملة احتياطية “سيستمر في التعزيز”، ما يدل إلى تحول أوسع في ميزان القوى العالمي، “ويحتمل أن يمنح الصين يداً أكبر لتشكيل السياسات الاقتصادية المؤثرة عالمياً.
واشنطن، من جهتها، تنظر بقلق إلى ما يحدث من حولها لزعزعة هيمنة الدولار، لكنها ماضية في رفع الفائدة للمرة التاسعة على التوالي على الأقل لكبح التضخم (أسعار المستهلك)، غير آبهة بحجم الضرر الذي يحدثه ذلك بالكثير من الاقتصادات الناشئة.
وإذا تراجع الطلب العالمي على الدولار فستضعف قيمته، ويرتفع التضخم، ولن يتمكن الفيدرالي الأميركي من رفع سعر الفائدة إلى ما لا نهاية، ولن يكون بإمكانه طباعة كميات أكبر من الورقة الخضراء وإلا فسيضعف ذلك اقتصاد البلاد ويرفع التضخم، بل قد يؤدي إلى ركود أو حتى أزمة اقتصادية مثلما حدث في الكساد الكبير عام 1929.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين