رأي عامر محسن
في الماضي، كتب الاقتصادي ألكسندر غرشنكرون عن ما يمكن أن نسمّيه «امتياز التخلّف»، بمعنى أنّك حين تبدأ مسيرة التحديث متأخّراً عن غيرك، فإنّك – رغم الصعوبات – لديك امتياز أنّك لن تبدأ من الصفر وتضطرّ إلى إعادة اختراع العجلة، بل ستنطلق من حيث انتهى غيرك: تتعلّم من أخطائهم، تعتمد النّظم التي أثبتت نفسها، وتستخدم أحدث التكنولوجيا وأفعلها منذ البداية (فلا تضطرّ، مثلاً، إلى إقامة شبكة هاتف أرضية بل تبدأ من أحدث شبكات الهاتف اللاسلكي). هذا يفسّر جزئياً كيف أصبح النموّ الصناعي في ألمانيا، «المتأخرة» في الدخول إلى السبق، أسرع وأفعل منه في بريطانيا مهد الثورة الصناعية.
ولكني لا أعرف إن كان هناك من نظّر لموضوعٍ قريب، هو «امتياز المشقّة» أو «امتياز الصعوبة»، بمعنى أنّ الدّول التي تفتقر إلى الموارد، أو تواجه صعوبات بنيويّة، قد يتكوّن لديها «امتيازٌ» ما على المدى البعيد. شيءٌ يشبه نظرية المؤرخ توينبي عن التحدّي والاستجابة (توينبي كان يحبّه المثقفون العرب، وعلى الهامش هنا: لأسباب سوسيولوجية بحت، أو لصدفة تتعلّق بخيارات الترجمة، يصعد في الثقافة العربية دوريّاً اسمٌ غربيّ ما ويتمّ تكريسه. قد يكون جيّداً، قد يكون متوسّطاً، ولكنهم يحوّلونه جماعياً إلى مرجع يعرفه الجميع – وتكون هناك أسماء أهمّ منه بكثير لا نذكرها ولا تدخل إلى نقاشنا. منذ سنواتٍ مثلاً، انتبهت إلى أنّ أي شابٍّ عربي يعتبر نفسه مثقّفاً أصبح يشير إلى أنه قرأ كتاب عبد الله حمودي الانثروبولوجي عن المغرب، كأنّه نصٌّ تأسيسي ومن البديهي علينا جميعاً أن نعرفه. وكتاب حمّودي هو متخصّص للغاية وكثيف وصعب، قرأته مرّتين بلغته الأصلية – في صفّين مختلفين – ولم أفهمه).
ad
عودةً إلى موضوعنا، ما أدفع به هنا يعاكس البداهة، بمعنى أنّنا نفهم أنّ مصدر القوّة والازدهار في العالم عادةً هو في توافر الحظوة والموارد. أميركا، بالطبع، هي المثال النموذجي: قوّة عظمى بنيت حول بلدٍ شاسع جغرافياً، غنيٍّ بكلّ أشكال الموارد والطّاقة والبشر، وفيه أنظمة نهرية وبحرية تسمح بالنقل الرخيص والسهل بين أرجائه. في القرن العشرين، كان الاتحاد السوفياتي هو المنافس، بلدٌ يتمتّع أيضاً بموارد وامتيازات تحوّلت إلى قوّة.
ولكن، هناك أيضاً أمثلة معاكسة؛ الصّين مثلاً فقيرةٌ للغاية بالموارد. إن قست الثروة الطبيعية للصين على عدد السكان، فهي من أفقر البلاد عالمياً بمختلف المعايير: الأرض الزراعية، توفّر الطاقة، المعادن، الخ. بل إنّ عدد السكّان الكبير هنا ليس امتيازاً بالضرورة، بل هو يتحوّل بسهولة إلى عبءٍ ومشكلة وتراكمٍ للفقر. اليابان، بالمثل، اضطرّت لأن تستغلّ مواردها القليلة (كالفحم وخام الحديد) بالشكل الأمثل لكي تصبح قاطرةً لعملية النموّ والتحديث فيها. بل أني كنت أقرأ كتاباً عن الطاقة («الغابة تحت-الأرضية» لرولف سيفيرلي) يدفع بأنّ بريطانيا قد دخلت أساساً في مجال استخراج الفحم الحجري، والعبور إلى «نظام طاقوي» متقدّم، لأنها كانت فقيرة ومحرومة. الفكرة هي أنّ ألمانيا، التي كانت تمتلك أيضاً احتياطات فحمٍ كبيرة، لم تفكّر في استغلالها لأنها كانت «ثريّة» بمقاييس نظام الطاقة القديم: الأخشاب والغابات؛ في حين أنّ غابات بريطانيا كانت قد استهلكت وأصبح عليهم البحث عن مصدرٍ جديد.
ad
هنا، بطبيعة الحال، لا توجد حتميّات، ما أقوله هو أنّ الصعوبة والتحدّي، في حالاتٍ معيّنة، تجبرك على إدخال ابداعاتٍ تنظيمية وفكريّة ومؤسسية قد لا تحصل في حالة الوفرة، حلولٌ تستنبطها لمواجهة واقعك، ولكنها تتحوّل مع الوقت إلى امتيازك الفعليّ. سوف نناقش هذه المسألة اليوم اعتماداً على تجربة إيران.
تحدّي الحداثة
ذكرنا في الماضي، عرضاً، كتاب المؤرّخ رودولف ماتي عن مفهوم «الانحدار» في إيران، ولكني أعتقد أنه موضوعٌ يحتاج إلى بعض التوسّع. يقول ماتي أنّك، إن سألت إيرانيّاً أن يصف لك «إيران» التي يعرفها، فهو قد يقدّم لك وصفاً قريباً إلى لبنان: جبالٌ وغابات، بردٌ وثلجٌ في الشتاء، سهول زراعية وبساتين وساحل. في الحقيقة، يقول ماتي، فإنّ «إيران» هذه التي تسكن صورتها الرومانسية في رأس الكثيرين من أهل البلاد لا تمثّل إيران حقّاً، بل هي تصف شريطاً جغرافيّاً صغيراً في الشمال، يمتد حول ساحل قزوين والجبال التي تحيط به، طهران وجيلان ومازندران مثلاً، وهي منطقة لا تمثّل نسبةً بسيطة من مساحة إيران التي، في المجمل، لا تشبهها في شيء.
ad
الفكرة، باختصار، هي أنّه منذ أعاد الصفويّون تكوين «إيران»، اكتشفوا بسرعةٍ أنها بلدٌ من شبه المستحيل أن يُحكم. فلنتذكّر أنّ «إيران» أو «فارس»، وإن استمرّت كفكرةٍ أو كمفهومٍ نظريّ، إلا أنها فعلياً قد زالت واختفت ككيان سياسي منذ الفتح الإسلامي، ولمدّةٍ تقارب الألف سنة. هذا حتى أعاد الصفويون تأسيس دولةٍ في مجالٍ يشبه جغرافيا فارس القديمة، وأعطوها مجدّداً طابعاً إمبراطورياً، مع شاهٍ هو ملك العالم، وعقيدة دينية جديدة تربط الناس بمؤسسة الحكم (في وسعك أن تخرج بسهولة بنظريّة أن أكثر متاعب إيران في القرون الماضية قد جاءت من أطرافها التي لم تتشيّع: الأفغان والأوزبك والأكراد، عدا عن العداء الممتدّ مع العثمانيين، والعراق الذي خسره الصفويون لأنّه ظلّ بغالبية سنّيّة).
المسألة تبدأ من الجغرافيا، فالهضبة الإيرانية هي من أكثر بقاع الأرض وعورة وجفافاً، والوصل بين أرجائها عملية صعبة ومعقّدة. خلال الحرب العالمية الأولى، أرسلت الحكومة الألمانية وفداً إلى كابول لمفاوضة أمير أفغانستان ومحاولة جذبه إلى جانب برلين. ولأنّ البعثة لم تكن تقدر على السفر عبر البحر، فهي اضطرّت إلى عبور إيران، من غربها إلى شرقها، للوصول إلى هدفها. وكانت هذه الرحلة، يومها، شبيهة بأن تقطع غابات الأمازون أو تصل إلى القطب الشمالي: بين كرمنشاه وكابول سوف تمرّ بجبالٍ بالغة الوعورة، ومناطق جافّة تمتدّ لمئات الكيلومترات، بينها أكثر الصحاري حرارةً في العالم، وأحياناً تكون في صحراء وجبل في آنٍ واحد، وصولاً إلى عتبات جبال الهملايا. وسوف تسافر عبر أقاليم كاملة ليس فيها طريقٌ أو قانون أو سلطة من أي شكل، وستلاقي في طريقك أيضاً كلّ أصناف الأقوام البدويّة المسلّحة – ونحن هنا، بالمناسبة، في القرن العشرين.
ad
حين نتحدّث عن أنماط الدّولة والاقتصاد في المنطقة، قلّما تجد أحداً يشير إلى المثال الإيراني (خارج إطار البروباغاندا الايديولوجية)، مع أنه نموذجٌ فريد ومختلف يستحقّ أن تراقبه
سأعطيكم مثالين حديثين، من الواقع المعاصر، لتوضيح هذه النقطة. هناك بين العاصمة طهران وساحل قزوين مسافة بسيطة، مئة كيلومتر أو أكثر قليلاً، ولكنّ هذا الطريق الحيوي يمرّ عبر جبال ألبورز، وهو كان قديماً، ضيّقاً، ومتعرّجاً بسبب الطوبوغرافيا، وقد قرّر الإيرانيون استبداله بطريقٍ حديثٍ واسع اسمه طريق «طهران-شومال» (كلّ شيء بين طهران والساحل، من البضاعة والتجارة إلى حركة المصطافين، كان يمرّ عبر هذه الطريق القديمة، وهي أكثر تعرجاً وضيقاً وخطراً من أي طريق جبلي في لبنان). نحن هنا نتكلّم على طريق سيّار بسيط، وليس خطّ قطارٍ أو ما شابه، ولكنهم يعملون عليه منذ أكثر من عشرين عاماً، وقد أنهوا مرحلتين من أصل أربعة فحسب، وهم على وشك افتتاح الثالثة، ولم يبدأوا العمل بالأخيرة بعد. السّبب هو أنك هناك، حتى تشقّ عشرين كيلومتراً من الطريق، فأنت تحتاج لأن تحفر عشرين نفقاً وتبني عشرة جسور في الجبال (وهذه ليست مبالغة).
ad
مثال آخر: في شمال غرب إيران، خطّ القطار الذي يصل طهران بتبريز سيتفرّع شمالاً ليصل إلى مدينة أردبيل (مسقط رأس الصفويين ومدفن جدّهم الأكبر). لو نظرت إلى الخريطة، فإن أردبيل قريبة للغاية من مدنية استرا على ساحل قزوين وحدود إيران مع أذربيجان، لا أكثر من خمسين كيلومتراً كما يطير الطّير، ولكنّ الفارق في الارتفاع بينهما يقارب الألف وخمسمئة متر. لهذا سيضطرّ الإيرانيون إلى سلوك الطريق الطويل لوصل شبكتهم مع أذربيجان – وبعدها روسيا – وبناء خطّ قطارٍ مكلف من طهران إلى قزوين، ثمّ رشت، وصولاً إلى استرا على الحدود إن أرادوا تحقيق الوصل الحيوي مع روسيا. جنوب إيران، مثلاً، كان أكثر الشاهات لا يعرفون عنه شيئاً ولا يزورونه، فالمسافة كبيرة والطبيعة مختلفة بالكامل عن موطنهم، والجفاف هناك لا يناسب جيوشهم وخيّالتهم؛ والساحل نفسه، بالمناسبة، أكثره عبارة عن شريطٍ ضيّق ترتفع حوله الجبال الشاهقة، بالكاد يمكنك أن تمرّر فيه طريقاً.
ad
من هنا صعوبة أن تبني سوقاً وطنية متصلة في مكانٍ كهذا. كان غرب إيران، «عراق العجم»، أكثر اتصالاً وتواصلاً، بالتجارة والمجتمع والناس، مع العراق منه مع مدن إيرانية بعيدة. ومشهد كانت أكثر اندماجاً مع خراسان ووسط آسيا منها مع تبريز، وهكذا دواليك. كما يكتب رودولف ماتي، كانت كلّ حاضرة إيرانية، اصفهان أو تبريز أو شيراز، هي عبارة عن «جزيرة اقتصادية» مستقلّة بذاتها وتتبادل القليل مع باقي أرجاء البلاد. بل كانت في كلّ مدينة إيرانية كبيرة عملة خاصّة بها تستخدم محليّاً فقط، تسكّ من معدنٍ رخيص وتصدر باسم والي الناحية، ولا يتمّ استعمال الفضّة إلا في الصفقات الكبيرة أو التجارة بعيدة المدى (وهي كانت نادرة). كما أن الرقعة الزراعية في إيران محدودة للغاية، لا سهول رسوبية ضخمة ولا أنهر عظيمة، بل شريط زراعي هنا وبقعة مرويّة هناك؛ فإيران هي من أفقر دول العالم في حصة الفرد من المياه. فوق ذلك كلّه، فإنّ الهضبة الإيرانية تحوي عدداً كبيراً من القوميات واللغات، من دون وجود غالبية اثنية واضحة، ولكل قومٍ رقعة جغرافية خاصّة بهم، ما يسهّل دوماً ظهور نزعاتٍ قوميّة وانفصاليّة. الخلاصة هنا هي أنّه، من جهة «الاستعدادات الطبيعية»، فإنه من المفترض أن تكون إيران من أكثر بلاد المنطقة ميلاً للتفكّك والفقر والفشل في بناء الدّولة، وهي بالفعل كانت كذلك لمدّة تقارب الثلاثة قرون، فما الذي حدث؟
ad
نموذج مختلف
حين نتحدّث عن أنماط الدّولة والاقتصاد في المنطقة، قلّما تجد أحداً يشير إلى المثال الإيراني (خارج إطار البروباغاندا الايديولوجية)، مع أنه نموذجٌ فريد ومختلف يستحقّ أن تراقبه. أين لديك، في أكثر العالم اليوم، دولٌ كبيرة الحجم لا تزال تصنع أكثر استهلاكها (على طريقة نظام احلال الواردات القديم)، ولديها مع ذلك تصدير متنوّع ومستوى حياة مرتفع وتنمية حقيقية؟ فكرة أنّ بلداً من العالم الثالث يقع تحت حصارٍ مطبق، يسبّب له خسائر هائلة، ولكنه يقدر على تحقيق نموّ ويستمرّ في تطوير قطاعاته الانتاجية، بدلاً من أن يصارع لكي يسدّ حاجاته، فهذا في حدّ ذاته لغزٌ يعاكس المنطق. على الهامش: السلعة الأساسية التي يستوردها الإيرانيون بمبالغ كبيرة، وتؤثّر على ميزانهم التجاري، أصبحت الهواتف المحمولة، فهي غالية الثمن وعالية التقنية والجميع يريدها، وهم لا يقدرون على انتاجها محلياً؛ أمّا عدا ذلك، فإنّ أكثر استيراد إيران – الهزيل – هو عبارة عن مواد أولية وماكينات للصناعة، وحبوب وأعلاف للحيوانات. المسألة هي أنّ إيران اليوم، ولو لم تصدّر برميل نفطٍ واحدٍ، فهي أصبحت قادرة على تغطية كامل قيمة استيرادها تقريباً من عائدات صادراتها غير النفطية (من الفولاذ والبتروكيمياويات وصولاً إلى السجّاد والزعفران)، وهذا في ظروف حصارٍ تحدّ من التصدير والتعامل مع أكثر أسواق العالم؛ ومن دون أن يكون على البلد أيّ ديونٍ خارجية.
ad
من آثار القوّة على تفكيرنا هو أنّها تحدّد لك المكان الذي تنظر إليه، ومن أين تتعلّم وأي دروسٍ تعتبرها دروساً وأيّاً لا تراها من الأساس. كما يقول بورديو، فإنّك حين تحترم شخصاً ما أو رأياً ما، فأنت لا تفعل ذلك لأنك عقدت جلسةً عقلية بينك وبين نفسك، وقرّرت بشكلٍ موضوعيٍّ مستقلّ أنّ هذا الشيء له قيمة، بل أنت تفعل ذلك لأنك ترى من حولك أناساً يقدّرون شيئاً معيّناً، فتصدّق بسببهم أنّه يستحقّ التقدير. هذا الأمر ينطبق على السياسة والفكر كما على المجتمع، ولهذا السبب فإنّ ظهور الأفكار الجديدة والمقاربات التي لا تقلّد الموجود هو نادرٌ كندرة التغيير في البنى الاجتماعية.
يتكلّمون في لبنان، مثلاً، طوال الوقت عن «الاقتصاد الانتاجي» – بدرجات مختلفة من اللاوقعية – فهل نظرتم إلى إيران؟ القطاع الصناعي في إيران يوظّف قرابة ثلث اليد العاملة، وهذا معدّل مرتفع جدّاً، حتى بمقاييس الدول الصناعية. هذا يعني فعلياً قرابة السبعة ملايين عامل، أو عائلة، أين كنت ستوظّفهم لولا «الاقتصاد الانتاجي»؟ وأكثر العمّال ليسوا في الصناعات «الكثيفة رأسمالياً» – كالبتروكيمياويات والصّلب – فهذه لا تحتاج إلى يد عاملة كبيرة؛ أكثر وظائف القطاع الصناعي هي في الصناعات الاستهلاكية، الأدوات المنزلية، البرادات والغسالات، الثياب، السيارات، الخ. وهذه الشركات التي توظّف الناس بأعدادٍ كبيرة موجّهة أساساً لتلبية الطلب الداخلي (وهي، بحسب تقارير أخيرة، تنمو بمعدل أسرع من الصناعات الثقيلة). الزّراعة، في بلدٍ يعاني من أزمة مياه مستمرّة، تصدّر منتجاتٍ بخمسة مليارات دولار سنوياً وتوظّف 18% من اليد العاملة في ريفٍ منتج. أمّا الخدمات، بما في ذلك النقل والبناء، فلها نصف اليد العاملة تقريباً.
ad
هذا المسار هو الذي أوصل اليوم إلى دولةٍ تصنع الصواريخ والمعامل الضخمة، وتعيل ثمانين مليون انسان مع أنها في حالة قطيعةٍ مع أغلب النظام الاقتصادي الدولي
بمعنى آخر، الحصار لا يشلّ عملية التنمية في البلد، بل يبطئها. لا يعود في وسعك أن تستثمر في كلّ شيءٍ في الوقت ذاته (قطارات وصناعات وبنية تحتية وطاقة)، بل عليك أن تقرّر أولويّات وتؤجّل الباقي: ركّزوا أوّلاً على الصناعات التصديرية التي تجلب عائداً بسرعة (مثل البتروكيمياويات التي تعتمد على الغاز) وعلى القطاعات الحيوية التي على البلد أن يكتفي فيها وإلا وقع في أزمةٍ تحت الحصار (مثل المصافي وتقنيات استخراج الغاز وتوربينات الكهرباء). في الوقت نفسه، ترك الإيرانيون خط القطار الذي يصل بأذربيجان، وتكلمنا عنه أعلاه، واقفاً عند مدينة رشت بلا استعجال، في انتظار أن يأتي أجنبيّ ليموّل الباقي. معامل البتروكيمياويات الضخمة، ومصافي النفط والغاز، هي من أكثر الانشاءات في العالم تعقيداً وكلفةً. الأمثولة هنا ليست في أن إيران قد بنت الكثير منها في السنين الماضية، بل أنّ ذلك قد تمّ بكامله، من التصميم إلى التنفيذ إلى التشغيل، بقدرات ذاتيّة. وهذا ينطبق على كلّ شيء آخر بني في البلاد في السنوات الماضية، من سكك الحديد إلى السدود إلى أنظمة المترو. حتّى المكوّنات، هم يصنعون أكثرها في الداخل ويجدون وسائل لاستيراد الباقي. البلد الوحيد في الشرق الأوسط الذي يقدر على تنفيذ مشاريع من هذا الحجم بشكلٍ محليّ كامل هو تركيا (مع فارق الوصول إلى التقانة ورأس المال بين البلدين). المسألة هي أنه من السهل أن تحتفل بافتتاح معمل بتروكيمياويات ضخم، وتقصّ الشريط، فيما ما فعلته حقيقةً هو أنّك أرسلت مليارات الدولارات – رزمةً واحدة – إلى الشركات الأجنبية التي نفّذته، فيما هنا فإنّ أكثر قيمة الاستثمار تذهب إلى شركات ومهندسين وأبحاثٍ في داخل البلد.
ad
هذه القدرات قد بنيت في العقود الماضية، لا وسط جوٍّ من العقوبات فحسب، بل مع حربٍ كاسحة استمرّت ثماني سنوات، كانت أسوأ حربٍ شهدتها إيران في تاريخها المعاصر، وحرب سياسية واقتصادية مستمرّة من أكبر قوة في العالم. هذا لا يعني، بالطبع، أنه لم يكن ممكناً للأمور أن تكون أفضل، ولكن الايديولوجيا تطغى على النسبة والتناسب. يتكلّم المثقّف العربي اعتياديّاً عن الثورة الإيرانية باعتبارها كانت فشلاً ومصيبة، «نكبة». فأقول لهم أنّ المقارنة العلميّة تجريها بين وضعك في الماضي ووضعك اليوم، وليس بينك وبين سويسرا. ولو أننا لو عقدنا مقارنة بين حالة إيران اليوم، من جهة القاعدة العلمية أو مستوى الفقر أو العدالة الاجتماعية أو الاستهلاك أو السيادة، الخ، وبين وضعها طوال القرون الثلاث الماضية، فمتى كان حال إيران أفضل؟ هل تعرف كيف كان الريف الإيراني في الستينيات؟ أم تفضّل القرن التاسع عشر، حين كان البلد يخسر إقليماً أو خانة كلّ عقدين أو ثلاثة؟ الوضع بعيدٌ بالكامل عن المثال، ولكن بأي مقياس يمكن أن تراه «نكبة» على الشعب الإيراني؟ ثمّ تكتشف أنّ المسألة عندهم ليست هنا ولا نحن نتكلّم لغة واحدة، فالمعيار الأساسي عند المثقّف هو غطاء الرأس، والمقارنة التي يعقدها البرجوازي هي مع رواتب واستهلاك دبيّ، فالاثنان لن يجدا شيئاً يهمّهما.
ad
خاتمة : صواريخ الإمام
المؤسف هو ليس في الصياغات الايديولوجية التي ينشرها الأعداء، فهذا طبيعي. ما يؤسفني هو أنك – على حدّ علمي – لن تجد نصّاً يشرح بشكلٍ متكامل ولكنّه بسيط، وبرؤية تاريخية، معنى الخميني وثورته. أنت هنا لا تحتاج إلى عملٍ ضخمٍ بالضرورة، كتاب قصير من مئة صفحة أو أكثر قليلاً، يربط بين العناصر الفقهية والتاريخية والسياسية التي نسجت مشروع «ولاية الفقيه» الذي يتكلّم اليوم عنه الجميع. القصّة التي يجب أن تروى مثيرة، تبدأ قبل ستة قرونٍ في الحلّة، حين كانت مركز تعليمٍ رئيسي في العراق. وهي تسرد كيف أن جدالاً بدأ فقهيّاً، سؤال «أكاديمي» بالكامل، عن مصادر التشريع وأصول الفقه، قد صنع ديناميةً أوصلت – بعد قرون – إلى أكبر تحوّلٍ اجتماعي وسياسي في الشرق الأوسط الحديث. وأنا أظنّ أن أكثر العرب – وأولهم المثقفون – يعرفون القليل عن هذه السلسلة التاريخية (على الهامش: الصورة النمطية عن الشيعة والاجتهاد ليست صحيحة، فأكثر الشيعة لم يمارسوا الاجتهاد لأكثر تاريخهم، وحتى فترة تاريخية قريبة نسبياً).
ad
يمكن القول، إن اعتمدنا نظرة خطّيّة بعض الشيء إلى التاريخ، أنّ هذا التيّار، الذي أطلقه تلامذة الطوسي والعلامة الحلّي، كانت «نهايته المنطقيّة»، في نهاية المطاف، هو شيءٍ يشبه ثورة الخميني في إيران وصعود ولاية الفقيه كمصدرٍ جديدٍ للشرعيّة السياسية (لن أتكلّم عن دور أجدادي اللبنانيين في هذا المسار، ولكن يكفي أن نقول أنه قصّةٌ في ذاتها، وأنّه كان أكبر وأكثر تأثيراً من أيّ دورٍ لعبه «لبنان» في المنطقة منذ أيام الفينيقيين). ما أقصده هو أنه عام 1720، مثلاً، في أواخر أيام الدولة الصفويّة، اتفق أغلب شيوخ المدينة على فتوى مثيرة، تقضي بما معناه أنّ الحاكم لا يكفي أن يكون مسلماً أو شيعياً أو من سلالة حاكمة، بل عليه أن يكون مجتهداً – فكيف يمكن لرجلٍ لم يتمّ اعداده حتّى يفهم نيّة الإمام أن يقود الناس؟ وهذا كان قبل الثورة في إيران بقرنين ونصف.
لدى حسن الخلف نظريّة بأنّ الانجاز الأهمّ لـ«ولاية الفقيه» هو أنّها قطعت، للمرّة الأولى منذ قرونٍ طويلة، مع ما يسمّيه «النمط السلالي» في الشرق. ماذا نقصد هنا؟ منذ سقوط العباسيين فعليّاً، لو أنك نظرت إلى أي سلطة تكونت بين المغرب وأفغانستان، ستجدها تتبع النمط السلالي ذاته: عائلة أو سلالة تجمع حولها عصبيّة، وقد تتشارك مع حركة أو دعوة دينية، وتقيم نظاماً شبه إمبراطوريّ متوارث في الحكم والادارة. حتّى في عصرنا الحالي، وحين وصل علمانيّون وحزبيّون وحداثيّون إلى الحكم في الدول العربية، فما النمط الذي انتهوا إليه؟ أسسوا سلالات. والفكرة هنا هي أنّ البحث عن شرعية بديلة وشكل مختلف للسلطة أصبح، في سياق القرون الثلاثة الماضية، بمثابة «ضرورة تاريخية» بالنسبة إلى مجتهدي الحوزة، وليس مجرّد استيلاء على السلطة. نظريتنا هي أن هؤلاء الناس قد اقتنعوا بأنّ النمط السلالي/الإمبراطوري لم يعد قادراً على مواجهة العالم الحديث. فكرة الشاه الذي يحكم اسميّاً من العاصمة، فيما كلّ إقليم له سلطته الخاصة، أو يدير الأمور من بعيدٍ عبر عمّالٍ جورجيين؛ هذا لن يقدر على مواجهة روسيا وبريطانيا وحاجات الحداثة. وهذا الدرس كان واضحاً، ببساطة نظراً إلى ظروف حقبتهم التاريخية: دولة القاجار أصبحت بسرعة مثالاً عن «الدولة الفاشلة»، التي لا تقدر على التحديث ولا على الدفاع عن نفسها، وهي دوماً تحت في حالٍ من الاستدانة والافلاس – وبشكلٍ يفوق تراجع السلطنة العثمانية بكثير. كانت إيران قد خسرت القوقاز وآسيا الوسطى وهرمز، وفهمت نخبة الحوزة (طبقة «المثقفين» في المجتمع) أنه من دون نمط حكمٍ جديد ومصدرٍ جديدٍ للشرعية السياسية يستند إلى الإسلام، ستقع البلد بسهولة فريسة للاستعمار، ولن يكون أمام شعبها بديلٌ عمليّ عن الايديولوجيا الغربية المستوردة. سؤال الشرعية هذا هو الذي نحتار فيه جميعاً في بلادنا منذ قرنين: من أن يأتي القانون؟ لماذا أطيعه؟ علام تستند شرعيّة الحاكم؟ ما هي الرموز المؤسّسة «المقدّسة»؟ والاجابة هنا كانت في منظومة تجمع، في وقتٍ واحد، بين الأساس الإسلامي ومفهوم الشرعيّة الشعبيّة (فالوليّ الفقيه، نفسه، منتخب).
ad
هذه الأفكار الثورية قد جاءت تحديداً بسبب (أو كردة فعلٍ على) سياقٍ من الصعوبات والفشل والهزائم، ومن الصعب أن تتخيلها تتطوّر في حالةٍ من الوفرة. هذا المسار هو الذي أوصل اليوم إلى دولةٍ تصنع الصواريخ والمعامل الضخمة، وتعيل ثمانين مليون انسان مع أنها في حالة قطيعةٍ مع أغلب النظام الاقتصادي الدولي – والعلماني العربي يعتبر أن تجربته التاريخية تخوّله أن ينظر إليهم بفوقيّة باعتبارهم «متديّنين متخلّفين». أنت تقاتل وتقدّم تضحيات وتصنع ثورة لا لمجرّد أن تعلن الانتصار في نهاية الأمر، أو ترفع علماً على تلّة. هذا لا يمكن أن يكون في ذاته هو الهدف. الهدف هو أن تحفر لنفسك مكاناً يخصّك في العالم، وتقيم فيه تجربتك، التي ستطعم الناس وتعلّمهم، وتحميهم ممّن يريد استغلالهم في الداخل والخارج، لكي يعيشوا حياةً كريمة؛ ولكي تستثمر في بلادك وتوحّدها وتجمّلها وتربط أطرافها ببعض. هذا هو الهدف الحقيقي ولكن، هنا، فإنّ الثروة وحدها لا تكفي – مهما عظمت – فما تحتاجه أساساً وقبل كلّ شيء يتجاوز الموارد الماديّة بكثير.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية