حسن صعب
“إسرائيل” تعيد النظر في علاقاتها الدولية في ضوء مصالحها السياسية والأمنية وتقديرها المستقل لطبيعة تلك المصالح وآليات تفعيلها.
تمكّنت “إسرائيل” من نسج شبكة علاقات وثيقة، وربما استراتيجية، مع قوّتين عظميين على الصعيد العالمي خلال العقود الأخيرة، هما الصين والهند، وهي تتابع هذا المسار مع هاتين الدولتين على الرغم من وجود اختلافات بشأن قضايا سياسية وغير سياسية بين الأطراف الثلاثة، لا تشكّل قضية فلسطين واحدة منها!
في كتاب “العلاقات الإسرائيلية-الصينية والهندية: منظور جيوبوليتيكي ورؤية مستقبلية” للمؤلف معين أحمد محمود، الصادر عن مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية في بيروت، يعرض المؤلّف لتطوّر العلاقات بين الكيان الإسرائيلي وكل من الصين والهند في مختلف المجالات، مع تقديمه رؤية مستقبلية لهذه العلاقات ومدى تأثيرها في مصالح الدول العربية والإسلامية من منظور جيوبوليتيكي، وتحديده الوسائل الممكنة أو المتاحة في مواجهة الاستراتيجيات الإسرائيلية الخطرة تجاه الصين والهند.
ضمن بابين وفصول عديدة، يتعرّض المؤلّف لتطور العلاقات بين “إسرائيل” وكل من الصين والهند خلال العقود الأخيرة في مختلف المجالات الدبلوماسية والعسكرية والتجارية والثقافية والسياحية وغيرها، وتداعياتها على العلاقات الإسرائيلية – الأميركية والعلاقات العربية الصينية والهندية، وعلى مجريات الصراع العربي – الإسرائيلي وتحولاته.
يقول المؤلّف إنه منذ اغتصاب فلسطين في العام 1948، وإعلان قيام الكيان الصهيوني، سعت “إسرائيل” لتأكيد وجودها غير الشرعي عن طريق فرض الاعتراف بها من قِبل الدول الأخرى. ولكونها تحتل فلسطين الواقعة في قلب آسيا، ركّزت اهتمامها على تفعيل البعد الآسيوي لها. من هنا، جاء قول رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق، إسحاق رابين، بعد إعلان قيام العلاقات الدبلوماسية الكاملة بين كيانه والصين (مطلع العام 1992) إن عزلة “إسرائيل” الدولية انتهت الآن، على اعتبار أنها أقامت علاقات دبلوماسية كاملة مع الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن.
وفي هذا السياق، جاء تطوّر علاقات “إسرائيل” الدولية، وخصوصاً مع الدول الفاعلة في آسيا، ومع الصين والهند على نحوٍ خاص، كمقياس للديناميكية الإسرائيلية والصهيونية في تعزيز علاقات الكيان الدولية، وقدرته على فتح آفاق واسعة لعلاقات جديدة ونوعية تُضفي على هذا الكيان المزيد من شرعية الأمر الواقع، وتُحرّره من قيود الارتباط الأحادي بالولايات المتحدة الأميركية، وتوسّع في الوقت ذاته هامش المناورة السياسية والدبلوماسية أمام الكيان، وتمنحه أوراقاً مهمة للضغط على العالم العربي، وتُمكّنه من كسر العزلة العربية والإقليمية حوله.
استطاعت “الدولة” العبرية تحقيق اختراقات استراتيجية على صعيد القارّة الآسيوية، إذ نجحت في إقامة علاقات مع العديد من دولها، أبرزها الصين والهند وتركيا واليابان وتايلاند، وذلك عبر استراتيجية الطرْق المتواصل على أبواب آسيا، التي كانت، كما يبدو، مُحكمة الإغلاق في وجه “إسرائيل”، بسبب التعاطف الآسيوي المعروف مع القضية الفلسطينية، والعلاقات التاريخية التي ربطت العرب بآسيا عبر حركة التضامن الأفريقي-الآسيوي وحركة عدم الانحياز وغيرهما.
في ما يخص الهند تحديداً، يقول حمود إن “إسرائيل” لم تستسلم أمام الرفض الهندي لإقامة علاقات معها، إذ بذلت على مدار العقود الماضية جهوداً مضنية لتحقيق هذا الهدف، ولا سيما بعدما أصبحت الهند القطب الثالث في آسيا بعد الصين واليابان، وعضواً في النادي النووي عام 1998، وتملّكت نظاماً متقدماً للصواريخ المتوسطة والبعيدة المدى القادرة على حمل رؤوس نووية.
في المقابل، كان هناك غياب شبه كامل لأي مبادرات عربية تجاه الهند تنطوي على إحياء الأطر المؤسسية للعلاقات التاريخية بها، أو خلق مؤسسات جديدة تدعم المصالح المشتركة العربية – الهندية، أو تقدّم للهند مزايا نسبية مقارنة بعلاقتها مع الكيان الصهيوني، ما عزّز من التوجّه الهندي الجديد حيال “إسرائيل”.
وفي ما يتعلق بالصين، كان المسار مشابهاً، إذ بدأت العلاقات الصينية – الإسرائيلية في مجال التسلّح والتكنولوجيا العسكرية وأنظمة التسليح الغربية المتقدمة، وخصوصاً في مجال الطيران، لإعادة تشكيل موازين القوى في جنوب آسيا لمصلحة الصين في نزاعها مع تايوان والهند والمنافسة التقليدية مع اليابان.
وقد أفضى هذا التعاون والتقارب إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة وتبادل السفراء بين البلدين في 24 كانون الثاني/يناير 1994. يُضاف إلى ذلك أن تقارب الصين و”إسرائيل”، من وجهة النظر الصينية، قد يُمكّن الدبلوماسية الصينية من الاستفادة من وجود اللوبي اليهودي الموالي للكيان الصهيوني في مؤسسات صنع القرار الأميركي، وخصوصاً في مجال حقوق الإنسان في الصين، وتعزيز موقف الصين إزاء تايوان، وتسهيل انخراط الصين في المجتمع الدولي.
أما من جهة الكيان الإسرائيلي، فالصين هي قطب عالمي مؤثّر في القرن الحادي والعشرين، بحكم ثقلها الاقتصادي والجغرافي والعلمي والسكّاني، وهي تحظى بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي، واستثمار الفرص المتاحة لتطوير العلاقات معها سيكفل للكيان دعماً سياسياً ودولياً، وسيترتّب على ذلك تخفيف الضغط على “إسرائيل” فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، الأمر الذي سيعزّز الموقف الإسرائيلي في مواجهة العرب.
كما أن تطوير علاقة “إسرائيل” بالصين سيدفع الأخيرة إلى مراجعة سياساتها العربية، وسيُمكّن “الدولة” العبرية من تقليص الصفقات ونوعية الأسلحة التي قد تقدّمها الصين للدول العربية.
وفضلاً عن هذه المزايا الاستراتيجية النسبية التي تستثمرها “إسرائيل” في علاقتها بالصين، هناك السوق الصيني الكبير، باحتياجاته التكنولوجية، والذي يُمكّن الكيان من عقد صفقات بمليارات الدولارات، ويؤكد قدرته على بناء نموذج للعلاقات مع الدول التي كانت تتّخذ من “إسرائيل” مواقف سلبية، وبما يشجّع تلك الدول على تغيير سياستها تجاه الكيان الإسرائيلي.
واستكمالاً لهذه المعطيات التي وردت في الكتاب، وفي السنوات الأخيرة، وخلال فترة حكم رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو”، وقَّع البَلَدان اتفاقية “شراكة الابتكار الشاملة” (آذار/مارس 2017). ومضت الصين، رغم اعتراضات إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب القوية آنذاك، واستثمرت في البنية التحتية الإسرائيلية في إطار مبادرة “الحزام والطريق”، وشيَّدت شركات صينية مملوكة للدولة مرافق في ميناءي أسدود وحيفا، وخطاً للسكّة الحديدية الخفيفة في “تل أبيب”.
كما استثمرت الشركات الصينية، مثل “هواوي” و”علي بابا”، في نحو 463 شركة إسرائيلية، وأنشأت مراكز للبحوث والتطوير في “إسرائيل”. ورغم ذلك، استجابت حكومة رئيس الوزراء السابق نفتالي بينيت لبعض الضغوطات الأميركية، مثل انتقاد “إسرائيل” انتهاكات حقوق الإنسان في الصين للمرة الأولى، كما أوقفت “تل أبيب” التعاون مع شركة “هواوي” في تدشين شبكات الجيل الخامس.
وقد تُثير الغرابة معرفة أن الولايات المتحدة نظرت بقلق إلى رسالة دعائية في شبكات التواصل الاجتماعي تستهدف المواهب التكنولوجية الإسرائيلية بعروض عمل مُغرية في الصين. وكذلك، تحفَّظت على تبرُّع الملياردير الصيني لي كاشينغ بمبلغ 130 مليون دولار لفرع من معهد أبحاث “تكنيون” الإسرائيلي.
في الواقع، تَعتبر واشنطن نفسها في خطر عندما يتعلق الأمر بأي نوع من الشراكة بين حليفها الرئيس في الشرق الأوسط “إسرائيل” والصين. ومع تزايد التوتّر والخلاف مع الصين، أخذت واشنطن تُظهِر تشدداً غير مسبوق تجاه الشراكات الصينية-الإسرائيلية، وتطالب حليفها بتبنّي مواقف أكثر انحيازاً إليها وأشد حرصاً على متانة التحالف الاستراتيجي بين واشنطن و”تل أبيب”.
وكانت “إسرائيل” قد رفضت اقتراحاً أميركياً بإجراء فحص أمني شامل في ميناء حيفا، على خلفية تخوّفات واشنطن من ضلوع شركات صينية في توسيع الميناء. وقالت صحيفة “هآرتس” إن الاقتراح الأميركي قُدّم العام الماضي، وتمثّل بأن ينفّذ الفحص الأمني فريق من حرس السواحل الأميركي.
وتعالت في الإدارة الأميركية، وبشكل خاص في وزارة الدفاع (البنتاغون)، انتقادات شديدة ضد “إسرائيل” بسبب ضلوع الصين في مشروع توسيع ميناء حيفا، على خلفية احتمال أن تشكّل هذه الأعمال الصينية ثغرة لتنفيذ مراقبة تكنولوجية أخرى لما يحدث في الميناء، وجمع معلومات عن نشاط سلاح البحرية الإسرائيلية وأنشطته المشتركة مع سفن أميركية.
وأضافت الصحيفة أن الولايات المتحدة حذرت “إسرائيل” من استمرار تعاونها مع الصين، وحذّرت، خلال لقاءات عديدة، من توقّف سفن الأسطول الأميركي عن الرسو في ميناء حيفا بسبب الأعمال الصينية.
ولا شك في أن تأكيد “استقلالية” القرار الإسرائيلي عن الولايات المتحدة الأميركية ليس غائباً عن هذه التوجهات نحو الصين والهند وغيرها من الدول. والرسالة واضحة بأنّ “إسرائيل” تعيد النظر في علاقاتها الدولية في ضوء مصالحها السياسية والأمنية، وتقديرها المستقل لطبيعة تلك المصالح وآليات تفعيلها، وهذا هو مغزى تطوير العلاقات بين الكيان الإسرائيلي و”التنّين الصيني” و”الفيل الهندي”، الذي قد يكون أحدهما أكثر قدرة من أي “جواد” على جرّ العربة الإسرائيلية عندما يصل “الجواد” الأميركي الحالي إلى حالة لا يفيد معه فيها سوى رصاصة الرحمة!
ويمكن التوقف هنا عند التعاون النووي الإسرائيلي مع الصين والهند كمؤشّر على خطورة العلاقات بين الكيان وهاتين القوّتين النوويتين، ومدى تأثيرها في الأمن الدولي والأمن القومي العربي والإسلامي تحديداً؛ فالعديد من المحلّلين والمراقبين في أجهزة المخابرات الغربية يعتقدون أن التعاون العسكري بين الكيان والصين لا يقتصر على تطوير الأسلحة التقليدية والصاروخية، بل يتعدّاه إلى المجال النووي الذي تمتلك فيه “إسرائيل” خبرات واسعة، وخصوصاً في مجال إجراء التجارب تحت الأرض باستخدام تكنولوجيا (Decoupleds) التي يصعب على أجهزة تسجيل الزلازل رصدها، كذلك لناحية استخدام المحاكاة في إجراء التجارب النووية في المعامل من أجل تصغير الرؤوس النووية لتحميلها في الصواريخ ودانات المدفعية، بدلاً من إجراء عشرات التجارب الميدانية. من هنا، مغزى إصرار الصين على الحصول على أجهزة سوبر كمبيوتر التي تفيد في إجراء هذه التجارب المعملية.
وفيما يخص التعاون النووي بين الهند و”إسرائيل”، يتحدث المؤلّف عن جهود إسرائيلية حثيثة لاستخدام المدخل النووي سبيلاً إلى علاقات استراتيجية مع الهند. وقد شملت هذه الجهود إغراء الهند بالاستفادة من القدرات والخبرات النووية الإسرائيلية، وتوظيف نفوذ “الدولة” العبرية وعلاقاتها بدول غربية لدفع البرنامج النووي الهندي وتطويره، والتنسيق النووي الاستخباراتي لمحاصرة النشاط النووي الباكستاني وتدمير منشآته وقدراته.
ولاحقاً، شمل التعاون النووي بين الهند والكيان الإسرائيلي مجال تصغير الأسلحة النووية، وهذا يعني إنتاج أسلحة نووية من أعيرة صغيرة (من 1 إلى 15 كيلو طن)، ويمكن إطلاقها من رؤوس صواريخ تكتيكية وتعبوية استراتيجية ومواسير مدافع وراجمات صواريخ متعددة الفوهات.
وشمل هذا التعاون أيضاً مجال تطوير القنبلة الاندماجية (الهيدروجينية)، إذ نجحت “إسرائيل” خلال ثمانينيات القرن الماضي في تطوير قنبلة هيدروجينية، طبقاً لشهادة الخبير النووي الإسرائيلي فانونو لصحيفة “صانداي تايمز” في 15 تشرين الأول/أكتوبر 1986، فيما أُجريت أول تجربة هندية لقنبلة هيدروجينية يوم 13 أيار/مايو 1998.
ولأن “إسرائيل” لم تستطع أن تُجري تجربة ميدانية لهذا السلاح الاندماجي في أراضيها، فقد سعت للاستفادة من التجارب الهندية بأنها خصّصت لنفسها تجربتين لمصلحتها في الهند، حضرهما مسؤولون إسرائيليون.
أما في مجال التعاون العسكري، فقد شهدت أواخر عام 2021 زيارة أجاي كومار، المدير العام لوزارة الدفاع الهندية، إلى “إسرائيل”، للقاء نظيره أمير إيشيل، المدير العام لوزارة الدفاع الإسرائيلية، في “تل أبيب”، ليتم الاتفاق على تشكيل فريق عمل بين “إسرائيل” والهند يضع خطة تعاون مدّتها 10 سنوات، لتحديد مجالات التعاون العسكري الجديدة بين البلدين.
وتتضمّن مجالات التعاون الدفاعي بين “تل أبيب” ونيودلهي بشكل أساسي:
1. قدرات الحرب الإلكترونية.
2. أقمار التجسس والرادارات الحديثة.
3. تكنولوجيا الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية.
4. إصلاح المعدّات العسكرية مثل الدبابات والطائرات.
5. تقنيات الاستخبارات ومكافحة الإرهاب.
وتسعى حكومة الهند الحالية بقيادة حزب بهاراتيا جاناتا، وعلى رأسه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، إلى تعزيز مكانة نيودلهي العالمية لكي تُبقي على التوازن العسكري مع باكستان، وتحافظ على مصالحها أمام التوسع الصيني الكبير في القارّة الآسيوية.
لذا، تسعى حكومة مودي إلى معالجة أوجه القصور في القوات العسكرية الهندية. لهذا، قامت ببرنامج تحديث عسكري ضخم بين عامي 2014 و2015 لشراء الأسلحة والمعدّات بقيمة 14.9 مليار دولار من ميزانية عسكرية قدرها 45.2 مليار دولار. وشمل التعاون العسكري كُلًا من روسيا والولايات المتحدة الأميركية والبلدان الأوروبية و”إسرائيل”، ليستحوذ الجيش الهندي على حصّة قدرها 15% من السوق العالمية للسلاح، وتحتل “تل أبيب” ثالث أكبر مورّدي السلاح له بعد موسكو وواشنطن.
أخيراً، وفي خاتمة الكتاب، يتساءل المؤلّف: في غياب التقنية العسكرية العربية في مقابل التقنية المتقدمة لكيان الاحتلال، التي تُفتح لها أبواب دول عديدة، كبرى وصغرى، هل يمكن للعرب أن يعيدوا بناء علاقات دبلوماسية وتجارية على أسس استراتيجية تضمن خلق تحالفات جديدة لهم مع الدول الفاعلة، ويمكن أن تكون بديلاً من الصناعة العسكرية الإسرائيلية التي تشكّل مفتاح اللعبة الدبلوماسية للكيان في الخارج، وكسب تلك الدول إلى جانب القضايا العربية؟
سيرياهوم نيوز1-الميادين