رشا سلوم:
ما من شاعر سوري أو عربي حمل القلم وكتب شعراً أو نقداً منذ منتصف القرن الماضي وحتى مطلع القرن الحالي، إلا ويعرف من هو مدحت عكاش وماذا تعني مجلة الثقافة الأسبوعية أو الشهرية، ويعرف ما قدم الملتقى الأدبي في بيته ومجلته ( عكاش ) الذي صار الآن مكانه فندق أكل الأخضر واليابس، شعراء سوريون وعرب، كانت مجلة الثقافة منبرهم، كبار عظماء، مبتدئون يعرفون قيمة الحرف يعانقون حبر المجلة، إلى أن توقفت المجلة وانتهت رحلة الحياة الزمنية للشاعر والناشر والناقد مدحت عكاش عام 2011م، وبذلك طويت آخر صفحة من مجلات الثقافة الخاصة في سورية، ليبقى الخلود للشاعر والناشر والإنسان مدحت عكاش .
كتب الكثير عنه، وعن مجلته ودوره في المشهد الثقافي السوري والعربي، وما أدته المجلة من تخصيص أعداد لملفات الأدب العربي في معظم أقطار الوطن العربي، تقول الناقدة وداد جرجس سلوم:
نادراً ما تبحث عن سيرة قاص أو شاعر أو روائي سوري أو عربي من الجيل الذي بدأ مسيرته الأدبية في النصف الثاني من القرن الماضي إلا وتطالعك عبارة “كانت بداية منشوراته في مجلة الثقافة لصاحبها مدحت عكاش”.
مدحت عكاش ابن مدينة حماة، المحامي ومدرّس اللغة العربية في مدارس دمشق، متسلحاً بمخزون ثقافي غنيّ ومتنوع وبحسّ عال بالمسؤولية، قرر امتهان الصحافة، مهنة المتاعب، صاحبة الجلالة والسلطة الرابعة، بعد أن قدم من حماة في زمن ثورتها ضد الفرنسيين، فكان أحد المناضلين ضدهم شعراً وفعلاً، يقول عكاش “ما أزيز الرصاص إلاَّ أغانٍ/ يتبارى بشدوها منشدوها/علمتنا أم الطماح حماةٌ/ كيف يلقى منونَهم ظالموها”.
فتمّ سجنه أكثر من مرة، وعذّب بالسياط في كل مرة، ولكنه صمد ضد المحتلين، وتابع قيادة التظاهرات، وكتابة القصائد الحماسية والمقاومة، وبعد أن انتصر الشعب السوري وتحقق الجلاء ترك الدراسة لإعالة أسرته، وبعد سنوات تقدم من جديد إلى فحص الشهادة الثانوية “الفرع الأدبي” مباشرة مجتازاً سنوات من مقاطعة المدرسة ونال الشهادة الثانوية بدرجة تفوق.
ثم رحل إلى دمشق ودرس في كلية الحقوق وفي عام 1950 تخرج فيها، إلا أن العمل القانوني لم يستهوه فرفض أن يكون محامياً أو قاضياً، وتابع تدريس مادة اللغة العربية كما كان يفعل وهو طالب في كلية الحقوق، وقد درس على يديه صفوة الشباب من سائر المحافظات السورية، وصاروا فيما بعد بين ضابط كبير أو وزير أو مسؤول في الدولة لهم مكانتهم المرموقة، كما يقول هو عنهم.
حبر الصحافة
كان العام 1958 منعطفاً مهماً في حياته كما في الحياة الثقافية السورية بشكل عام، حيث أسس مجلته “الثقافة” بعد حصوله على ترخيص مزدوج لتأسيسها من قبل شكري القوتلي وجمال عبد الناصر رئيس دولة الوحدة بين مصر وسوريا آنذاك.
عبر مشروع ثقافي مستقل كان استثناءً في زمانه ومكانه واستمراريته أسهم عكاش في ترسيخ تقاليد الصحافة الثقافية السورية، وانطلاقاً من إيمانه بأن الثقافة وحدها هي التي تميّز وتبني وتصنع كرامة، وبأن التنمية الثقافية هي الأصل، استمرّت مجلته أكثر من خمسين عاماً في الظروف الصعبة التي توقفت فيها عدة مجلات كمجلة “الحديث” و”عصا الجنة” و”الصباح” و”النقاد” وغيرها.
مجلة \’الثقافة\’ يعرفها السوريون مثلما يعرفون أي معلم من معالم دمشق، حين كانت تصدر من مكتب في بيت دمشقي قديم جمع الأدباء والمثقفين والفنانين وغيرهم من المهتمين بالشأن الثقافي على مدى أكثر من ثماني سنوات في مرحلتها الأولى، فكان يعيش في مكاتبها أصدقاء عكاش المقربون مثل بدوي الجبل والرصافي وعمر أبو ريشة.
استمرت “الثقافة” بهمّته وهمّة أصدقائه وعشاق الثقافة رغم الظروف الاستثنائية في كل مناحي الحياة التي مرّت بها سوريا في فترة الانفصال، وبإنجازه لعشرات الدراسات والكتب والتحقيقات الأدبية والشعرية في الترجمة والأدب المقارن والتراث تعجز مؤسسات عن إنجازها تربّع على عرش الصحافة الثقافية متسلحاً بجهد ومثابرة وعمل دؤوب كان محط إعجاب كل من عرفه عن قرب أو بعد.
على مدى عشرات السنين، في شارع الأرجنتين منطقة زقاق الصخر بدمشق، كان مكتب وإدارة مطبعة المجلة معلماً من معالم المدينة، يعطيك صورة مصغرة عن البيت الدمشقي القديم الذي كان حول بركته الجميلة يجتمع كبار الكتّاب الذين يرفدون المجلة والجريدة بمقالاتهم، ولكن في العام 2000 قامت السلطة بمصادرة المنطقة برمتها بحجة تجديدها، فهدمت الأبنية القديمة والمساجد والأضرحة، ودخلت الجرافات تشلع القلوب والذكريات كما تشلع الشجر والحجر، ما اضطر عكاش لنقل مكتب مجلته “الثقافة” إلى بناء إسمنتي ضيق في برج دمشق وسط العاصمة.
تم إصدار أعداد منها خاصة بكبار الشعراء والأدباء العرب، أذكر منهم الشاعر القروي وإلياس فرحات وعمر أبو ريشة وبدرالدين الحامد، وعن أدباء الأردن والعراق والسعودية والجزائر وليبيا والمهجر، وصدرت كتب كثيرة مثل كتابه عن ابن الرومي ورسائل الجاحظ، و”من روائع الأدب الأندلسي”، “القصائد الأولى لبيتر تومبست” ترجمة عن الإنكليزية، وغيرها.
بقي مدحت عكاش في مكتبه ذاك حتى أيامه الأخيرة يعمل على قراءة وتحرير الأعداد الأسبوعية والشهرية من المجلة، تاركاً فيه أرشيفاً جامعاً لمعظم أدباء سوريا والوطن العربي عبر خمسين مجلداً ضخماً، أشرف مدحت عكاش على إعدادها وتصنيف أوراقها في مكتبه، مضيفاً بذلك وثيقة مهمة من وثائق الأدب العربي المعاصر، قبل أن يغيّبه الموت عن عمر يناهز الـ88 عاماً في العام 2011، ولكن المشهد الأدبي في المشرق العربي اليوم يشكو ندرة الذين يسيرون على نهج عكاش في صناعة الثقافة ودعم المواهب والمضي في عجلة التنمية الفكرية، وإن كانت لا تخلو منهم الساحة في كل جيل.
(سيرياهوم نيوز-الثورة)