| أحمد الدرزي
السوريون يعيدون النظر في خطاباتهم السياسية، رغم إصرار البعض على خطابه التقليدي، فالجميع يدرك بأنّ المركزية الشديدة في الحكم لا يمكنها الاستمرار بهذه الصيغة المانعة لعودة التعافي، ثمّ الانطلاق بنهضة سوريا.
على الرغم من مُضي شهر ونيف على “مبادرة الإدارة الذاتية لحل الأزمة السورية”، فإن حجم التجاوب معها لم يكن ضمن المستوى المطلوب الذي توقّعته هذه الإدارة، من إمكانية أن يتحوّل ما طرحته من رؤية للحل السياسي إلى مجال لإثارة الحوار بين السوريين حول مستقبل بلادهم.
من الطبيعي أن يتم طرح مشروع هذا النموذج السياسي الذي ينبع بالأساس من فكر عبد الله أوجلان، بعد أن وُضع في سجن أمرالي، في إثر اعتقاله من قبل الاستخبارات الأميركية والموساد “الإسرائيلي” في كينيا في 15 شباط/فبراير من عام 1999، وهذا السجن أتاح الفرصة لأوجلان للانكباب على قراءة الكتب، ومراجعة الأفكار السياسية له، مما دفعه إلى طرح مشروع “الأمة الديمقراطية”، الذي يستند إلى مبدأ أخوة الشعوب، وبناء نموذج للدولة معادٍ للدولة القومية التي يعتبرها من مُخرجات الرأسمالية العالمية.
يمثّل حزب الاتحاد الديمقراطي الذي تأسس عام 2004 القسم السوري من حزب العمال الكردستاني، وهو من الناحية الفعلية يمثّل العمود الفقري والفاعل السياسي شبه الوحيد في تأسيس مشروع سياسي جديد في المناطق التي انسحب منها الجيش السوري مبكراً في الشمال السوري عام 2013، ليتم الإعلان عن الإدارة الذاتية في مطلع عام 2014 قبل عام من دخول قوات الاحتلال الأميركي للتموضع في شمال شرق سوريا، بحجة محاربة تنظيم “داعش” الذي اصطنعته.
شكّل وجود القوات الأميركية، في منطقة شمال شرق سوريا وبناء قواعد عسكرية فرصة مهمة لحزب الاتحاد الديمقراطي لتثبيت أمر واقع جديد، في ظل الوجود الأميركي، مقابل الوجود العسكري الروسي، وخاصةً بعد ارتفاع أسهمه لدى الطرفين اللذين عملا على استقطابه في لعبة الصراع بينهما، مما جعله في موقع الاستثمار الأكبر لهما، في محاولة منه لأخذ الاعتراف بالوضعية السياسية الجديدة ضمن كونفدرالية سورية، ثم الانسحاب إلى وضعية الاتحاد الفيدرالي، مصاحباً لإطلاق مصطلح جديد لمناطق الشمال السوري الممتد على المناطق الشمالية كافة، بعنوان “روج آڤا”، الذي يعني إقليم كردستان الغربية.
لم يدم زمن الشعور بفائض القوة طويلاً، فالموقف الروسي المؤيد لفيدرالية سورية بدأ بالتراجع بشكل جزئي، بعد إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية في أواخر شهر تشرين الثاني/نوفمبر من عام 2015، وفرض العقوبات على تركيا، والتي انتهت بمصالحة الرئيسين إردوغان وبوتين، وبدء مسيرة تحالفهما مع بعضهما البعض، انطلاقاً من لقائهما في سان بطرس بورغ في شهر آب/أغسطس من عام 2016، والذي نجم عنه دخول الجيش التركي إلى منطقة جرابلس، لتبدأ عملية تقطيع أوصال الكيان السياسي الجديد، في محاولة لفصل منطقة عفرين عن مناطق شرق الفرات.
وعلى الرغم من محاولة روسيا لاسترضاء الكرد من خلال ما قدّمته من مقترح دستور جديد لسوريا عام 2017، الذي صاغه ڤيتالي نعومكن، واعتماده الفيدرالية كمبدأ للاتحاد السوري، فإنّها سرعان ما تراجعت عنه بعد الرفض السوري العام له، كما أن تركيا ليست ببعيدة عن رفضه أيضاً، ثم تقوم في شهر آذار/مارس من عام 2018 بإعطاء الضوء الأخضر لإردوغان باجتياح عفرين، بعد رفض القيادات الأوغلانية لدخول الجيش السوري إليها، لتبدأ رحلة الانحسار باتجاه شرق سوريا.
لم يقرأ القادة الكرد مجمل التحوّلات الدولية، بما في ذلك الموقف الأميركي الذي لم يعترض على احتلال الجيش التركي لمنطقة جرابلس، ثم منطقة عفرين، بحجة التفاهم الروسي الأميركي على حصر وجودهما بين شرق الفرات وغربه، ولكن ذلك لم يتوقّف في عام 2019، بعد التسهيل الأميركي لاجتياح المنطقة الواسعة بين تل أبيض ورأس العين من قبل الجيش التركي، والوصول إلى القرب من الطريق الدولي M4، ليضع الكرد في موقف حرج جديد.
ارتفع مستوى التقاء المصالح بين الرئيسين بوتين وإردوغان، وخاصةً بعد فشل محاولة الانقلاب العسكري الأميركي الخليجي، في تركيا عام 2016، ودور روسيا وإيران الاستخباراتي في إفشاله، مما دفع بالدول الثلاث إلى البدء بإنشاء ملتقى أستانة الثلاثي، لإيجاد حل سياسي في سوريا، ابتداءً من شهر شباط/فبراير 2018، ليظهر أن هذا التنسيق الثلاثي غايته دفع الولايات المتحدة للخروج من منطقة شرق الفرات، كمقدمة للخروج من كل منطقة غرب آسيا.
لم يتوقّف الأمر عند الدول الثلاث، فما كشفته الحرب في أوكرانيا عن انزياح جديد في القوى الإقليمية العربية، الداعمة للكرد في ما تبقّى من مناطق سيطرتهم في شمال شرق سوريا، وخاصةً السعودية والإمارات اللتين دعمتا إردوغان لتثبيت وضعه في الانتخابات التركية، إضافة إلى دعمهما روسيا في إفشال العقوبات الأميركية والغربية عليها، ثمّ الاتفاق الإيراني السعودي على المصالحة بينهما، من البوابة الصينية.
وهذا ما زاد من حراجة موقف الإدارة الذاتية، التي أدركت متأخّراً طبيعة النظام الإقليمي الجديد، الذي يتم العمل على بنائه، وأن الرهان على الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب سياسية تُقرّ بمشروعهم الذي بنوه مع بدء الحرب في سوريا لم يكن في محله، على الرغم من كل تجاربها السابقة بالتخلي عن حلفائها، وهي بالأساس لم تعترف بهم كحلفاء سوى في محاربة إرهاب تنظيم “داعش”.
أتت مبادرة الإدارة الذاتية في سياق تحوّلات دولية، قد تكون فيها الطرف الأكثر خسارة بين السوريين، رغم أن الجميع في موقع الخسارة، وهي جاءت في رحلة طويلة من العودة إلى الانتماء السوري كمظلة جامعة، بدأت من التراجع عن الكونفيدرالية ثم عن الفيدرالية، والاكتفاء بمصطلح الإدارة الذاتية لشمال شرق سوريا، بعد إلغاء مصطلح روج آڤا، وهي في مبادرتها تطرح مشروعها كمقترح للحل السياسي في سوريا، وليس كمخرج نهائي للحل، وتركّز على تدخّل الدول العربية للمساعدة بتفاوضها مع دمشق.
لا شكّ أن هناك تحوّلاً في الرؤية السياسية للإدارة الذاتية والقادة الكرد، فهم أصبحوا أكثر واقعية بتعاطيهم السياسي مع الوقائع الإقليمية والدولية، رغم المخاوف والهواجس المتصاعدة من جرّاء حدوث تقارب سوري تركي برعاية روسية إيرانية، وبدفع صيني، مع قبول واضح لكل من السعودية والإمارات، وبعدها مصر، ضمن خطة زمنية للحل السياسي تسحب فيها الولايات المتحدة قواتها من شرق الفرات لتحل محلها قوات عربية، مقابل عدم دعم السعودية لدونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
بدأ جميع السوريين بإعادة النظر في خطاباتهم السياسية، رغم إصرار البعض على خطابه التقليدي، فالجميع يدرك بأنّ المركزية الشديدة في الحكم لا يمكنها الاستمرار بهذه الصيغة المانعة لعودة التعافي، ثمّ الانطلاق بنهضة سوريا، كما أن الإدارة الذاتية بهذه الاستقلالية السياسية والعسكرية لا تمنح سوريا القوة للتوازن مع قوى إقليمية كبرى، بل تشكّل تهديداً لمزيد من التدخل الإقليمي في الحياة السياسية السورية، وخاصةً تركيا التي تسعى لإنشاء إدارات ذاتية مشابهة في مناطق شمال غرب سوريا وغيرها من المناطق.
هناك فرصة أخيرة للسوريين لتعزيز أوراقهم التفاوضية حول ما يجري حولهم، فهل يستثمرونها لصالحهم جميعاً؟
سيرياهوم نيوز3 – الميادين