| موفق محادين
تحاول وسائل الإعلام الأميركية المختلفة، وامتداداتها في الفضائيات والمواقع والمنابر العربية التابعة وغيرها، إحياء صورة الإمبريالية الأميركية، كقوة أبدية قادرة على تجديد هيمنتها وإخضاع العالم كلّه لها، وبما يذكّرنا بالمحاولات المماثلة للإمبريالية البريطانية التي اعتقدت أنها إمبراطورية أبدية وأن الشمس لن تغيب عنها وراحت صحفها تسخر من التحذيرات المتصاعدة التي بدأت نذرها بعد إبادات بالجملة لعسكر بريطانيا في آسيا وأفريقيا، ومنها معركة أم درمان وممر خيبر والزولو في أفريقيا.
وبالرغم من هزيمة المحور المضاد لبريطانيا وتحالفاتها في الحرب العالمية الأولى، استمرت التحذيرات المختلفة بالتزامن مع الأزمة الاقتصادية للرأسمالية عام 1929 ومع تصاعد المقاومة ضد الاحتلالات البريطانية في كل العالم، وخسارة درّة التاج البريطاني في الهند، والثورة الصينية، والفشل الكبير في السويس 1956 ضد عبد الناصر، وصولاً إلى الانحسار الكبير لصالح الشقيق الأميركي الأكبر الوافد في التحالف الأنكلوسكسوني كما لصالح الصعود السوفياتي.
صحيح أن تشرتشل اتخذ مقعداً ثالثاً إلى جانب ستالين وروزفلت في يالطا، إلا أنه كان أقرب إلى جائزة الترضية التي لم تحصد شيئاً يذكر مقارنة بالحصة الأميركية وخاصة هيمنة الدولار على النظام النقدي العالمي ومقارنة بالحصة الحمراء لموسكو، شرق أوروبا كاملاً.
اليوم، ثمة مؤشرات موضوعية على أن الشمس التي انتقلت من سماء العصر الفكتوري البريطاني إلى سماء مانهاتن الأميركية، دخلت طور الانحسار كما هي دورات التعاقب التاريخي للقوى الكبرى التي تحدّث عنها استراتيجيون معروفون، مثل: فوكو، جيبون، توينبي، بريجنسكي، وبول كينيدي.
ولا تجري هذه الدورات عشوائياً أو بمعنى الحتمية العمياء، بل وفق قوانين اجتماعية اقتصادية تختلف من مرحلة وتشكيلة إلى أخرى، حافظ فيها الشرق الأوسط على مكانته ودوره كساحة سياسية مهمة في أفول الإمبرياليات في كل مرة، كما وفق اعتبارات أخرى من أبرزها:
1- ابتداء، فإن البعد البنيوي العميق للتشكيلة الرأسمالية هو العامل الاقتصادي الأساسي في هذه التحوّلات، ومن ذلك الإشارة المبكرة لكارل ماركس في القرن التاسع عشر، حين قال إن الرأسمالية تحفر قبرها بنفسها كلما تقدّمت تكنولوجيا، فمن سمات الرأسمالية الثورة التقنية المتصاعدة وصولاً إلى الثورة الرابعة التي تقذف في كل مرة ملايين العمال من الياقات البيضاء والزرقاء خارج سوق العمل، مما يحوّل الرأسمالية إلى رأس تقني-ورقي متضخم مقابل جسد صناعي يتضاءل باستمرار.
وهو الأمر الذي لاحظه المفكّر المصري اليساري، سمير أمين، بمقارباته حول المركز والمحيط، حيث تتخلّص المتروبولات الرأسمالية من خطوط الإنتاج الصناعي الأقل تطوراً وتدفعها إلى بلدان المحيط، التي تتحوّل قواها الكبرى مثل الصين، إلى بديل متصاعد للمتروبولات نفسها.
2- الملاحظات المهمة الأخرى من قلب النظام الأميركي نفسه، كما وردت عند بول كينيدي وبريجنسكي وتوفلر:
– الأول، بول كينيدي في كتابه (نشوء وسقوط القوى الكبرى، 1987) عندما حذر من تباعد الخطوط الاستراتيجية عند الإمبراطورية البرية – البحرية الأميركية، وهو ما تعيشه الولايات المتحدة اليوم.
– الثاني، بريجنسكي في كتابه (أميركا بين عصرين) كما في أعماله اللاحقة التي جمع فيها بين أكثر من قراءة لدور الثورة التقنية وتباعد الخطوط داخل الإمبراطورية البرية – البحرية، فقد توقّع عام 1970 الانهيار السوفياتي في غضون عقدين بالنظر إلى تأكّل الجيل الأخير من البيروقراطية السوفياتية، كما توقّع مصيراً مماثلاً للولايات المتحدة الأميركية في غضون العقود التالية للانهيار السوفياتي وذلك بالنظر إلى دور الثورة المعلوماتية في إنهاء السمة الصناعية لصالح رأسمال تقني مقابل جسد صناعي متأكّل.
– الثالث، توفلر في مجمل أعماله (الثورة الرابعة، صدمة المستقبل، تحوّل السلطة)، عندما توقّف عند المسافة التي تزداد اتساعاً بين الشكل السابق للسلطة كما تأسس وفق نموذج وستفاليا 1648 وبين الشكل الجديد لعلاقات الإنتاج في بعدها الإمبريالي العولمي.
3- عودة الأهمية الاستراتيجية للجيوبوليتيك في السياسة العالمية، وهي الاستراتيجية التي أطلقها مفكّرون ألمان وإنكليز مثل: راتزل وماكندر، وتحدّثا فيها عن تقسيم الصراع العالمي التاريخي بين إمبراطوريات برية، مثل الصين وروسيا، وبين إمبراطوريات بحرية، مثل إسبانيا والبرتغال ثم بريطانيا ثم الولايات المتحدة.
ومن محدّدات هذه الاستراتيجية التي تعود اليوم إلى واجهة الصراع الدولي، السيطرة على آوراسيا وتحديداً على قلبها، المجال الحيوي الروسي بما في ذلك أوكرانيا، الأمر الذي وضع هذه الدولة على رأس الاهتمامات الأميركية والناتو منذ 20 عاماً على الأقل.
في ضوء ذلك، فإن الصراع على آوراسيا وقلبها كما حول طريقي الحزام والحرير الصينيين، بات يشكّل عاملاً محدّداً في إنهاء النظام الإمبريالي الغربي وتأسيس نظام متعدد الأقطاب والمراكز الدولية والإقليمية، وتذهب كل المؤشرات إلى أن التحالف الروسي–الصيني هو الأقرب موضوعياً للانتصار في هذه الحرب.
4- انطلاقاً من الجيوبوليتيك أيضاً، فقد ظل الشرق الأوسط بمناطقه المتعددة، العربية والإيرانية والتركية، من العوامل الحاسمة الأساسية في تقرير مصير القوى الكبرى، فالنظام الإقطاعي الأوروبي وممالكه وإماراته بدأ بالتفسّخ على خلفية تداعيات ما عرف بالحروب الصليبية التي جوبهت بمقاومة عنيفة من شعوب المنطقة، والنظام الاستعماري الرأسمالي التقليدي بدأ بالترنح أيضاً انطلاقاً من الشرق الأوسط وخاصة بعد السويس 1956 والمقاومة الناصرية، وها هي الإمبريالية الأميركية تتوّج هزائمها في فيتنام والحرب الكورية وأفغانستان بأزماتها المتصاعدة في العراق وسوريا، إلى جانب أزمة أداتها الصهيونية التي دخلت طور الأفول فعلاً مع تراجعاتها الاستراتيجية أمام المقاومة.
5- انعكاس الأزمة البنيوية الرأسمالية على النظام المالي والنقدي ومحوره الدولار الأميركي، فعلى خطورة هذا النظام وآلياته التي مكّنت الرأسمالية من تجديد نفسها في مرات سابقة، فإن ضغط الأزمة البنيوية يتضاعف يوماً في إثر يوم، وخاصة مع اتساع التبادل العالمي خارج الدولار مما يتركه رهن خيارات القوة الأميركية البحرية، أكثر من البنية الرأسمالية الداخلية، أي رهن تجديد متأكّل لابتزازات القوة العسكرية الأميركية التي تواجَه اليوم بتطور بحري عالي التقنية وخاصة عند الصين التي راحت تستعيد تقاليدها البحرية القديمة وتبني أسطولاً حديثاً موازياً للأسطول الأميركي.
6- الانحسارات الأميركية القارية: لم يعد هناك مجال للشك في أن الإمبريالية الأميركية ومعها المتروبولات الرأسمالية الأخرى في الاتحاد الأوروبي، بدأت تنحسر عن العديد من مناطق نفوذها السابقة التقليدية وتخسرها بالتدريج لصالح علاقات أوثق مع الصين وروسيا:
– عن طريق صناديق الاقتراع واللعبة الديمقراطية نفسها وخاصة في أميركا اللاتينية التي كانت توصف بالحديقة الخلفية لواشنطن وفقاً لمبدأ مونرو.
– تصدّع النافتا وخاصة المكسيك جارة الولايات المتحدة الأميركية.
– آسيوياً، إضافة إلى الصين وروسيا والقوى الإقليمية حولهما مثل فيتنام وكوريا الشمالية ولاوس وكمبوديا وماينمار وحزام الجمهوريات السوفياتية السابقة، فإن المحور الإيراني – السوري وتحالفاته يمسك بزمام المبادرة في غالبية الملفات الأساسية شرق المتوسط، كما أن قوى إقليمية معروفة كانت مصنّفة ضمن معسكر واشنطن، مثل الباكستان والهند وماليزيا وتركيا تتلمّس طريقاً ثالثاً أكثر استقلالية.
يشار كذلك إلى أنه حتى أسواق المال في الخليج باتت شديدة الصلة بتطوّر الاقتصادات الآسيوية من الصين إلى إيران.
– أفريقياً، بات واضحاً أن الإمبرياليات الغربية تنحسر شيئاً فشيئاً عن مناطق نفوذها التقليدية، مقابل حضور متسارع للقوى الدولية الجديدة ونزعات الاستقلال الوطني بعد عقود من التبعية وأوهام التنمية على طريقة البنك وصندوق النقد الدوليين، التي لم تجلب لهم سوى الفقر والمهانة والجوع والفتن والحروب الأهلية.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين