- ليا القزي
- الجمعة 23 تشرين الأول 2020
قد يبدو من «العيب» الإضاءة على انهيار الطبقة الوسطى في لبنان، في وجود إحصاءات عن نسبة فقر تبلغ 55%. ولكن أهمية هذه الطبقة تكمن في أنّها «مُحرّك» الاقتصاد، اندثارها يعني تراجع الطلب والاستهلاك والنموّ، وتأثّر الدوائر المُحيطة بها سلباً مع إقفال الشركات وتسريح العمّال. أما الأخطر لديها فهو قدرتها على الهجرة، ما يُفقد لبنان رأس المال البشري
في التقرير الذي أنجزته «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا – إسكوا» في آب الماضي، خُصّصت فقرة لـ«الآثار المترتبة على أصحاب الدخل المتوسط والطبقة الوسطى»، لتكشف النتائج عن «تحدّ كبير أمام لبنان ليُحافظ على طابعه السكّاني الذي يغلب عليه ذوو الدخل المتوسط… التحدّي الحقيقي هو أنّ أصحاب الدخل المتوسط الأعلى والدخل المتوسط الذين يمثّلون الجزء الأكبر من رأس المال البشري في البلاد، لن يكون أمامهم خيار سوى الهجرة». وبحسب الأرقام التي نُشرت، فإنّ الطبقة الوسطى (يكسب الفرد بين 14$ و27$ في اليوم) انخفضت من 45.6% في الـ2019 إلى 35.2% في الـ2020، والطبقة الوسطى العليا (يكسب الفرد ما بين 27$ و34$ في اليوم) تدنّت من 11.5% في الـ2019 إلى 4.5% في الـ2020. من يجنون أكثر من 34$ في اليوم، انخفضت نسبتهم أيضاً من 15% في الـ2019 إلى 5% فقط في الـ2020.
لماذا «الاهتمام» بوضع الطبقة الوُسطى في مُجتمع لامست نسبة الفقر فيه الـ55%؟ «لأنّها أساس الحيوية في الاقتصاد، على المستوى الثقافي والتعليمي والسكن والاستهلاك، إضافةً إلى أنّها تنخرط في العمل السياسي وتُغذّيه، في مقابل طبقة غنية مُتحالفة مع قوى السلطة»، يقول أستاذ السياسات والتخطيط في الجامعة الأميركية – بيروت، ناصر ياسين، مُستشهداً بالدور الذي لعبه المهنيون والأساتذة والأطباء والمُحامون في «17 تشرين». بالنسبة إلى ياسين، «صحيح أنّ الطبقات المُتدنية تُعاني جدّاً، ولكن اضمحلال الطبقة الوسطى يعني خسارة جزء من هوية لبنان».
المدير التنفيذي لمؤسّسة البحوث والاستشارات في بيروت، كمال حمدان يُشير أيضاً في حديثه مع «الأخبار» إلى دور الطبقة الوسطى كـ«الركن الأهمّ في النموّ الاقتصادي، كلّما كانت دائرتها واسعة شاملةً عدداً كبيراً من الأفراد، ارتفع الإنتاج والطلب على الاستهلاك واختلفت نوعية الحياة». إذاً هل نعتبر أنّ أعضاء الطبقة الوسطى هم المُنتجون في المجتمع؟ يردّ حمدان بأنّ الطبقة الوسطى تتحدّد «بحسب مُستوى الدخل، الذي قد ينتج عن أجرٍ ثابت، أو عمل حرّ، أو تحويلات من الخارج، أو ادخارات وفوائد. نسبة غير المُنتجين بسيطة من مُجمل الطبقة الوسطى».
قبل انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار، كان يُدرج ضمن الطبقة الوُسطى «الأسرة التي تملك دخلاً يراوح بين 2500 دولار و7000 دولار، بمعدّل وجود 1.6 ناشط داخلها»، يقول حمدان ويشرح أنّ الأزمة طالت الجميع: العاملون لحسابهم، رؤساء المصالح، الأساتذة الجامعيون، القضاة، الأطباء، المُهندسون… وصولاً إلى أصحاب المؤسسات التي إما أقفلت فنتجت عن ذلك بطالة العمّال لديها، أو تتعرّض لخسائر تفرض تعديلات جوهرية على السوق، سيتأثّر بها كلّ من يرتبط مصلحياً بالطبقة الوسطى. باختصار، «كلّ أصحاب المداخيل بالليرة هم بحالة هشاشة، بتفاوت الدرجات بينهم». الصدمة الاجتماعية ستحدث عندما يُرفع الدعم عن السلع الرئيسية غير المواكب باستراتيجية حماية اجتماعية من قبل الدولة، «فترتفع نسبة الفقر إلى 60%. هذه الزيادة ستأتي من الطبقة الوسطى الدنيا التي تقع مباشرةً فوق الخطّ الأعلى للفقر».
من يجنون أكثر من 34$ في اليوم، انخفضت نسبتهم من 15% عام 2019 إلى 5% فقط عام 2020
لا يوجد حتّى الآن، بحسب حمدان، دراسة «بالمعنى العلمي تُحدّد نوع وأحجام المسارات الإنهيارية»، ولكن يُمكن تلمّس التغييرات من أمثلة «بسيطة»، كأن يُصبح مُمكناً «التخلّي عن زيارة طبيب الأسنان، وصيانة السيارة، واستبدال الهواتف النقالة في حال تعطّلها»، كما يذكر ناصر ياسين، تدرّجاً صعوداً نحو «الانتقال من المدرسة الخاصة إلى الرسمية، واستبدال المستشفى الخاص بالطبابة على حساب وزارة الصحة، والنزوح المُعاكس من المدينة إلى الريف مع ارتفاع أسعار العقارات مبيعاً وإيجاراً». يظهر ذلك في بعض جوانبه، في عدم انطلاق أعمال الترميم وإصلاح المنازل المُتضرّرة من انفجار مرفأ بيروت، لأسباب مالية وغياب التسهيلات من المصارف، رغم إعلانات «حملات التضامن» الكثيرة من جانبها.
ليست المرّة الأولى التي يُحكى عن «انهيار الطبقة المتوسطة» في لبنان، فعند كلّ أزمة تكون هي في صُلب العاصفة. في عدد 25 آذار 2019 من «ملحق رأس المال»، كتب رئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية – الأميركية، غسّان ديبة عن «تراجع هذه الطبقة لصالح تركّز الثروة والدخل في أيدي القلّة.
الطبقة الوسطى (يكسب الفرد بين 14$ و27$ في اليوم) انخفضت من 45.6% في الـ2019 إلى 35.2% في الـ2020
فمنذ عام 1996 تمّ تجميد الأجور لفترة طويلة ودخل الاقتصاد في فخّ الأجور المتدنية، ولم تنمُ القطاعات العالية الإنتاجية، وأصبح نموّ المداخيل المتأتية من الربح والفوائد والريع أعلى بكثير من نموّ المداخيل الناتجة عن العمل، وارتفعت أسعار الأصول العقارية والسكنية، طاردةً الطبقة المتوسطة من مراكز الثقل الاقتصادي إلى الضواحي». ولكن عملياً، تُعيد هذه الطبقة إنتاج نفسها كما فعلت بداية التسعينيات، وقد يكون ظهورها الجديد اليوم على شكل «طبقة الدولار» التي تضم كلّ أصحاب المداخيل بالورقة الخضراء، أكانوا موظفي الشركات الأجنبية العاملين في لبنان، أم المنظمات الدولية وغير الحكومية، أم تحويلات المغتربين. لا يزال التثبّت من ذلك بحاجة إلى بعض الوقت، بسبب تسارع الأحداث والانهيارات المتتالية، «الأكيد هو وجود خطر كبير يرتبط بانهيار الطبقة الوسطى، يُدعى الهجرة»، بحسب حمدان. فهذه الطبقة «تملك الإمكانات التعليمية والمادية لترحل. هذه الثروة ونقطة قوتنا في المنطقة، إذا غادرت هذه الفئة وبقي ذوو المهارات المُتدنية، فعلى الدنيا السلام». كلام حمدان يتلاقى مع حديث ناصر ياسين عن «تدنّي الترقّي الاجتماعي». المؤسف بالنسبة إليه «أن لا تُناقش أي جهة، حكومية أو من الانتفاضة، التحديات اليومية وتطرح البديل الحقيقي. كلّ النقاش يجري لسدّ ثغرات مُعينة، سيأتي وقت ينفجر فيه الخزّان بكامله».
البنك الدولي لا يُساعد الطبقة الوسطى
موازنة البنك الدولي لمساعدة الفقراء في لبنان تبلغ قرابة 206 ملايين دولار، هناك توجّه لأن تتوسّع قاعدتها، فتشمل أكبر قدر من العائلات اللبنانية. طُرح مع البنك الدولي أن تضم المعايير عائلات من الطبقة الوسطى، ولا سيّما المُتدنية، نظراً إلى أنّ الأزمة ستمتد إلى ما لا يقلّ عن 10 سنوات، مع غياب مؤشرات استعادة العافية الاجتماعية والاستهلاك، في مقابل تركّز الثروة في أيدي القلّة التي لن تتأثّر بالانهيار الحاصل، بل يمكن أن تُراكم أرباحها. إلا أنّ «البنك الدولي» رفض الطرح، مُفضّلاً حصر «مساعدته» بالفئة المُصنّفة فقيرة.