جو غانم
واشنطن لن تيأس أو تتخّلى عن خططها الرامية إلى إيجاد واقع جديد يحمي مواقع نهبها للثروات السورية، ويؤمّن أهدافها في إدخال الجيش السوري وحلفائه الإيرانيين والروس في صراع عسكريّ يشغلهم.
بعد تطوراتٍ سياسيّة لافتةٍ شهدتها المنطقة خلال الأشهر والأسابيع الأخيرة، كانت جلّها على ارتباطٍ مباشر بسوريا وبنتائج الصراع الذي واجهته دمشق وخاضته على مدى أكثر من عشر سنوات، وبالمواقف المتعلّقة من الدولة السورية والعلاقات معها، وهي التطورات التي صبّ أغلبها أيضاً في مصلحة دمشق وحلفها الذي أثبت قدرته على تغيير المعادلات أو صناعتها بالقوة، كان من المتوقّع أن تشرع جميع الأطراف المنتشرة في ميدان الصراع بتظهير أو تثبيت أو زحزحة المخرجات الواقعية لتلك التطورات، كلّ على طريقته أو بحسب أهدافه ومصالحه.
فالولايات المتحدة الأميركية، التي تحتل قواتها العسكرية مساحات من الأراضي السورية في الشرق والبادية، وتسيطر على آبار النفط والغاز في تلك الأنحاء، وتحرم الدولة والشعب في سوريا من أهم الموارد التي ترفد وتدعم الاقتصاد السوريّ وتخفّف معاناة الشعب من الحصار الأميركي – الغربيّ، وتدعم “الإدارة الذاتية” الكردية وتدفعها دوماً باتّجاه رفض التوافق مع الدولة السورية وإنهاء حالة التقسيم غير المعلنة التي تتبنّاها واشنطن، بدأت، بعد مفاوضات غير مثمرة مع دمشق، بتحريك كلّ أوراقها في مناطق سيطرتها في الشرق والبادية، في محاولة منها لإثبات أنّ كل التفاهمات والتطورات السياسية الحاصلة في المنطقة، لا يمكن لها أنْ تُغيّر كثيراً في الوضع السوريّ من دون فرض الإرادة الأميركية وتحقيق مصالح واشنطن.
ومن جهتها، تدرك دمشق، ومعها حليفاها الروسيّ والإيرانيّ اللذان يتصدّران قائمة أعداء واشنطن في الصراع الذي تديره الأخيرة في المنطقة والعالم، أنّ أيّ مفاعيل إيجابيّة واقعية ومؤثّرة تنتج عن التطورات السياسية الهامة الأخيرة التي أنجزها المحور على مستوى الإقليم، لا يمكن لها أنْ تتحقّق أو تُترجم بشكل مؤثّر في الواقع السوريّ، اقتصاديّاً وسياسيّاً على وجه الخصوص، في ظلّ وجود قوات الاحتلال الأميركيّ على الأرض السورية، ومع بقاء واشنطن قادرة على العبث في الميدان السوري وتحريك أوراق الفوضى والعدوان داخل مساحته. لذلك كان لا بدّ من تحريك هذا المسار أيضاً بدفعٍ من دمشق وحلفائها، وأخذه إلى أماكن جديدة قابلة للتطور السريع بهدف إنهاء هذا الوضع العدواني المعرقل لجميع المصالح الوطنية السورية.
بدورها، وبعد إعادة انتخاب رجب طيب إردوغان لولاية رئاسية جديدة، تسعى تركيا إلى تقوية موقفها في الشمال والشرق السوريين، منطلقة ممّا تعتبره “مبرّرات” أمنها القوميّ، آخذةً بعين الاعتبار المضيّ قدماً، ومن موقع القويّ، في “تسوية” مع الدولة السورية، تضمن لها تحقيق أفضل النتائج التي تؤمّن أهدافها على أكثر من مستوى، خصوصاً في ما يتعلّق بملفات ضرورية ومُلحّة مثل عودة اللاجئين، وإضعاف التنظيمات الكردية وإبعادها عن الحدود، وإبقاء نفوذها في الشمال السوريّ من خلال السعي لإدماج بعض التنظيمات والفصائل المسلحة والشخصيات السياسية التابعة لها في مؤسسات الدولة السورية، وإبقائها في المنطقة ليكون لأنقرة النفوذ الأكبر هناك.
وبناءً عليه، لم تتأخّر أنقرة بعد فوز إردوغان في المعركة الانتخابية، وباشرت نشاطها العسكريّ في الشمال السوريّ باتّجاه الشرق. وفي تفاصيل إعادة الحرارة إلى مضمار هذا السباق المحموم نحو تظهير نتائج الصراع ومخرجاته لمصلحة كل طرف، بدأت واشنطن في الأسابيع الأخيرة باستقدام التعزيزات العسكريّة والأسلحة المتطورة إلى الشرق والتنف، وإطلاق التصريحات التي تُهدّد فيها السوريين والإيرانيين على وجه الخصوص، بأنّ أيّ هجمات على مواقعها العسكرية في الشرق ستُواجَه بردٍّ قويّ وحازم.
وبالتزامن مع التعزيزات العسكرية، وخشيةً منها من تصعيد الهجمات على تلك المواقع، نشطت واشنطن على الأرض في محاولة منها لتحريك الرمال في وجه دمشق وحلفائها، حيث عرضت على “قسد” القيام بعملية عسكرية تحت غطاء جوّي أميركيّ، تهدف إلى السيطرة على منطقة غرب الفرات ومدينة “البوكمال” وصولاً إلى “التنف”، بحيث تصبح المنطقة كلها تحت سيطرة أدوات واشنطن الكردية والعربية، أي تحت النفوذ الأميركيّ المباشر، وتقطع أيّ تواصل بين الدولتين السوريّة والعراقية، وبالتالي مع إيران عن الطريق البريّ.
لكنّ “قسد” رفضت القيام بهذا الدور، معتبرةً أنّ من شأن عملية كهذه أنْ تقطع كل الحبال مع دمشق، وسيكون لهذا أثمانه الباهظة عليها في المستقبل. وبعد رفض “قسد” لهذه الخطّة، عمدت واشنطن إلى تجديد خطّـتها “العربية” في الشرق السوريّ، فأعادت التواصل مع جماعات وشخصيات جديدة وعمدت إلى تشكيل وتدريب وتسليح فصائل جديدة تستعملها كقطعانِ حراسة لمواقعها العسكرية، ورأس حربة في الهجوم على مواقع الجيش السوري ومؤسسات الدولة ومواقع تمركز الخبراء الروس والإيرانيين الذين يعملون إلى جانب الجيش السوريّ.
فزار وفد عسكريّ أميركيّ مقرّ قيادة “قوات الصناديد” التي تنشط في منطقة “اليعربية” إلى الجنوب من منطقة “الرميلان” النفطية، قرب الحدود مع العراق، وهي قوات تتكوّن بمعظمها من شبابٍ ينتمون لقبيلة “شمّر” العربية، عملوا خلال سنوات الحرب على تأمين تلك القرى من هجمات تنظيم “داعش” الإرهابيّ. والمعلومات هنا تتحدّث عن طلبٍ أميركيّ لتنشيط تلك القوات في مواجهة الجيش السوري والحلفاء الروس والإيرانيين، وعرض تقديم دعم أميركيّ كبير ومكتسبات سياسية واقتصاديّة لأجل هذا الهدف.
وإذ أكّد مصدر ينتمي لأوساط مشيخة القبيلة العربية لـ “الميادين نت”، أنّ أبناء القبيلة لا يمكن أن يضطلعوا بدور كهذا، وأنّ العلاقة مع دمشق و”الدولة الأم سوريا” جيّدة ، وأنّ أهداف “الصناديد” لا تخرج عن إطار الدفاع عن الأنفس والقرى والأرزاق ضد الفصائل الإرهابية، تحقّق واشنطن فشلاً جديداً على هذا المسار، خصوصاً أنّ “شمّر” هي واحدة من أكبر القبائل العربية في محافظة الحسكة ومنطقة القامشلي الممتدة نحو الحدود العراقية، وأنّها تُعتبر جزءاً من “قوات سوريا الديمقراطية”، ومن هنا تكون لرفض السير في المخطط الأميركيّ، مؤشّرات هامة قد تظهر في المستقبل القريب وتؤثّر على التفاوض مع الكرد وعلى الوضع في الشرق بشكل عام.
وكانت واشنطن قد بدأت خطّتها هذه قبل أشهر قليلة، من خلال عقد اجتماع عشائريّ في محافظتي دير الزور والرقة، عرضت فيه على ممثّلي العشائر الحاضرين تشكيل قوّة “عربية خالصة” مدعومة أميركيّاً للسيطرة على المنطقة، وقد وجدت بعض التجاوب ممّن يريدون الخلاص من سيطرة الكرد الميدانية على مناطقهم، لكن من دون أنْ يتوصّل هؤلاء إلى اتّفاق على قيادة القوة وأهدافها النهائية ودورها الحقيقيّ في مواجهة الجيش السوريّ وحلفائه.
ومن المتوقّع ألّا يصل هذا المشروع إلى نتائج جيدة، نظراً لكثرة الخلافات بين الأطراف المحلية التي خاضت صراعات مريرة بين بعضها البعض خلال سنيّ الحرب. لكنّ واشنطن لن تيأس أو تتخّلى عن خططها الرامية إلى إيجاد واقع جديد يحمي مواقع نهبها للثروات السورية، ويؤمّن أهدافها في إدخال الجيش السوري وحلفائه الإيرانيين والروس في صراع عسكريّ يشغلهم عن التصعيد ضد الاحتلال الأميركيّ، بيد أنّ محاولاتها وخططها تلك قد تنقلب عليها، لأنّ دمشق وحلفاءها قرّروا استهداف الأصيل والتصعيد ضدّه كلّما حاول الوكلاء العبث على الأرض لحسابه.
على الجبهة السوريّة، وبعد إعلان الرئيس بشار الأسد مرّات عديدة، كان آخرها خلال القمّة العربية الأخيرة التي انعقدت في مدينة جدّة السعودية، عن حقّ سوريا وعزمها المقاومة حتى تحرير جميع ترابها الوطني من قوى الاحتلال، وإدراك دمشق أنّ الانتصارات السياسية الأخيرة التي حقّقتها بفضل صمودها وتضحياتها وانتصاراتها الميدانية مع حلفائها، لن تُترجم عمليّاً وتنعكس على الوضع الداخلي ما دام الاحتلال الأميركيّ جاثماً فوق تراب البلاد وثرواتها، وما دامت واشنطن قادرة على التحرّك في هذا الميدان.
فقد كان الإعلان الشعبيّ عن تفعيل المقاومة الشعبية للاحتلال الأميركيّ في الشرق السوريّ، متوقّعاً في أيّ لحظة، حيث بدأت التحركات الشعبية في الشرق من خلال تجمهر عدد كبير من المواطنين حول القواعد الأميركيّة، رافعين شعارات تطالب المحتل بالخروج من البلاد، وتُعتبر هذه الخطوة أولى بوادر عمل شعبيّ مُنظّم ومدروس سوف يتطوّر وفق خطّة وطنية، ويترافق مع استهدافات عسكرية لقواعد المحتل الأميركيّ في الشرق.
ومن المتوقّع ألّا ننتظر طويلاً قبل سماع أخبار الهجمات على تلك القواعد، فالمرحلة المقبلة تقتضي، بحسب أجندة دمشق وحلفائها، العمل الميدانيّ الجدّي والحثيث للضغط على الأميركيين ودفعهم نحو الخروج العسكريّ من البلاد، مهما كلّف الثمن. ولعلّ أخبار سقوط مروحيّة أميركية على متنها 22 عسكريّاً، هي من ضمن هذا المسار، على الرغم من استخدام القيادة العسكرية تعبير “التعرّض لحادث” في نقلها للخبر، وأنّ أيّ أخبار عن استهدافها بشكل مباشر، لم تتأكّد حتى اللحظة.
تركيّاً، بدأت أنقرة بتنفيذ عمليات عسكريّة ضد مواقع “قسد” على جبهات عديدة في ريف حلب خصوصاً، منها “مرعناز” و”مطار منّغ” و”تل رفعت”، وقرى في ريف عفرين، ونقاط في محيط عين العرب، والتي ردّت عليها قوات “قسد” بقصف القاعدة التركية في “كلجبرين” وبعض المواقع والقرى الملاصقة للحدود التركية.
وقد أدت الهجمات التركية إلى سقوط جندي روسيّ وجرح آخرين، بعد تدخّل دورية روسية ومحاولتها الفصل بين الجانبين، كما أدّت إلى تصعيد مقابل من الجبهة السورية، حيث قامت قوات الجيش العربي السوريّ باستهداف مواقع الفصائل التابعة لأنقرة في ريفي حلب وإدلب، خصوصاً في بلدات “أفس” و”مجارز” و”النيرب” و”معربليت” و”حرش بينين” وسان مجدليا” و”الرويحة” و”البارة” وغيرها من المواقع على امتداد جبهة الشمال.
يريد إردوغان إعادة التذكير بأنّ خطّته في “حماية الأمن القومي” لتركيا من خطر المجموعات الكردية التي يصفها بالإرهابية، لا تزال قائمة، ويهدف إلى إدراجها في أيّ تسوية مقبلة مع دمشق، وأنْ يضمن رعاية الحلفاء الروس والإيرانيين لهذا الهدف. والجدير بذكره هنا، أنّ الخارجية الروسية قد أعلنت منتصف يوم الأربعاء الفائت، أنّ “مسودّة خطّة التطبيع بين تركيا وسوريا، باتت جاهزة” بانتظار اجتماع نواب وزراء خارجية الدول الأربع في موسكو قريباً، للإعلان عن الخطوات المقبلة، واستشراف الوجهة التي سيسلكها الوضع في الشمال السوريّ بناءً على ذلك.
نحن أمام صيف سوريّ ساخنّ بكلّ تأكيد، فصراع الأجندات والأهداف سيبلغ ذروته في الأسابيع والأشهر المقبلة في اتّجاهين لا ثالث لهما: تثبيت انتصار الدولة السورية وحلفائها وحصد نتائج مخرجات الحرب ومكتسبات الصمود والتقدّم على الجبهتين العسكرية والسياسية من جهة، ومن جهة أخرى على ضفّة واشنطن وأعداء دمشق وموسكو وطهران: العودة إلى نقطة قديمة في الصراع من خلال خلط الأوراق وتنشيط الفوضى في الميدان، وإيقاف نتائج كل التسويات والتفاهمات السياسية، عند الرقم صفر، ما لم تُحقّق واشنطن أهدافها ومصالحها في سوريا والمنطقة. وتلك عناوين لا يبدو أنّ تحقيقها ممكن عن طريق التفاوض.
سيرياهوم نيوز1-الميادين