د. عبد الحميد فجر سلوم
نعلمُ أنّ دوافع الشباب العربي للوصول بطُرُقٍ غير رسمية للقارة الأوروبية، متعددة: اقتصادية واجتماعية وسياسية ومعيشية وفقر وبطالة، وفساد مُتعدِّد الوجوه، وحروب..الخ..
وهؤلاء لم يُقدِموا على هذه الخطوة الخطيرة بامتطاء مراكب صيد، ليست أساسا مُعدَّة لنقل الركاب، وبهذه الأعداد الكبيرة على متنها، لولا أن كافة الآفاق في بُلدانهم قد سُدّت أمامهم..
حادثةُ القارب، الذي انطلق من ساحل مدينة طبرق الليبية، وانقلب مُقابِل سواحل اليونان مؤخّرا في 14 حزيران / يونيو 2023، ليست المرّة الأولى، ولن تكون الأخيرة..
وللأسف غالبية الضحايا هم من السوريين، مع بعض الفلسطينيين والمصريين..
لسنا الآن بصدد الدخول بالتفاصيل، وكيف غرق ومن المسؤول عن ذلك، فهناك دولٌ تُحققُ في الأمر، ولكن هذه الظاهرة الخطيرة يجبُ مُعالجتها..
فحَسْب إحصاءات المنظمة الدولية للهجرة، فإنّ نحو 3800 شخص من المُهاجرين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لقوا حتفهم في عام 2022 فقط، في مياه المتوسط..
**
فأَلَا يُمكن وضعُ حدٍّ لهذه الظاهرة، أو على الأقل التخفيف منها؟.
الجوابُ ليس سهلا.. وهذا يقتضي العمل بإتجاهين:
الإتجاه الأول يتجلّى في عقد مؤتمر لِكافّة الدول الأوروــ متوسطية، أي بلدان الشمال وبُلدان الجنوب، المُتشاطئة في حوض المتوسط، وذلك في إطار الشراكة الأوروبية المتوسطية، التي نصّ عليها إعلان برشلونة، الذي تمّ اعتماده في تشرين ثاني / نوفمبر 1995 .. بين دول ضفّتي المتوسط، الشمالية والجنوبية.. ومناقشة هذا الموضوع بكافّةِ تفاصيلهِ وجوانبهِ، وبمشاركة كافة ممثلي المنظمات الدولية المعنية في هذه القضايا، والإتفاق على إجراءات مُلزِمة فيما يخصُّ ذلك.. آخذين بعين الاعتبار تطبيق القانون الدولي، وقانون حقوق الإنسان..
وبدلَ هذه الفوضى، فيُمكن للدول الأوروبية، الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وضعُ (غوتة) أي حصّة، لكل دولة من دول جنوب المتوسط، تُحدِّدُ من خلالها كم عدد المُهاجرين (أو اللّاجئين) الذين يمكن قبولهم في كلِّ عام، وفي كل دولة أوروبية، ووفق معاييرٍ وشروطٍ مُتّفقٍ عليها.. ويتمُّ استقبالهم بشكل طبيعي وبدون أي شكل من أشكال التهريب، والمُخاطَرة..
طبعا الأمرُ ليس بهذه البساطة، ولكن يجب القيام بِمبادرات، ومساعٍ، وجهود، ومحاولات، حتى لو لم تُعطي الثِمار المرجوّة كاملا..
**
نعلمُ أنّ هناك حوارٌ إستراتيجي بين الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وبين المُمثلية العُليا للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية انطلَقَ عام 2015 ، ويُناقشُ جميع القضايا لاسيما إدارة الأزمات، والأمن ، والمناخ، ومكافحة الإرهاب، والهِجرة، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والحد من التسلُّح..
وكان آخر اجتماع في 18 حزيران 2023 في القاهرة، ولكن هذا لا يُغني عن مؤتمر شامل يضمُّ كافة الدول الأطراف في إعلان برشلونة.. وهُم ضفّتي المتوسط..
ولا سيما أن كل الدول العربية على الضفة الجنوبية للمتوسط، قد سبقَ وأبرمت اتفاقات شراكة مع الإتحاد الأوروبي، وشملت الشراكة الأمنية والسياسية، والشراكة الاقتصادية والمالية، والشراكة الثقافية والاجتماعية.. ومشكلة المهاجرين تدخل ضمن هذه المسائل..
وسورية، بدورها، توصلت مع الاتحاد الأوروبي إلى اتفاق شراكة (وكنتُ مُهتمّا لمتابعةِ أخبارهِ كوني خدمتُ في سفارة بلادي في بروكسل وحضرتُ اجتماعات عديدة في المفوضية الأوروبية، ولكن ليس حول اتفاق الشراكة، فهذا كان شأن الخبراء الإقتصاديين، إضافة إلى جهات أخرى عُليا في الدولة) ..
ولكنهُ تأجّل ولم يتم التوقيع عليه لأسباب لسنا بواردِ الدخول في تفاصيلها الآن، وهي عديدة، منها ما يتعلق بالخلافات بين التجار والصناعيين السوريين، إذ أن الصناعيين خشيوا أن يتمكن التجار بعد اتفاق الشراكة، من إستيراد البضائع الأوروبية بسلاسة، وهذه سوف تؤثِّرُ على صناعاتهم، وبالتالي تتقلص جدا مبيعاتهم.. فهُم لا يريدون مُنافِسا، وإنما احتكار السوق كاملا، وتحديد الأسعار..
ومنها ما يتعلق بالشروط التي وضعها الاتحاد الأوروبي بمسائل تتعلق بحقوق الإنسان.. الخ..
وهذا ما حصل بعد توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا في أواخر عام 2004، إذ ضربت الصناعات التركية، الصناعات السورية، لأنها كانت مُنافسا قويا.. لاسيما في مجال المفروشات وأثاثات البيوت، وأدّى ذلك لإغلاق مئات ورشات المفروشات السورية.. وخاصة في غوطة دمشق..
**
وأما الإتجاه الثاني الذي يُمكنُ أن يحُدّ من ظاهرة هجرة الشباب العربي، ويُوقِف هذا الاستنزاف، فهو عملٌ عربيٌ خالصٌ، بإقامة مشروع عربي يتوقُ إليهِ كل مواطن في كل الدول العربية.. وذلك بِمُحاكاة التجربة الأوروبية..
أي تطوير مفهوم العمل العربي المُشترك، التقليدي الكلاسيكي، الذي لم يعُد قادرا على مواجهة المشاريع الغريبة (سواء من داخل المنطقة أم من خارجها) ولا مواجهة تحدِّيات الزمن الراهن، ولا الأطماع الأجنبية، ولا ضمان الأمن القومي العربي المُشترَك، ولا تلبية طموحات الشعوب العربية..
وإن كانت إرادة الزعامات العربية قوية، وتطمع بأي يكون للعرب مكانهُم المُميّز بين الأُمم، فيمكنها أن تمضي في هذا المشروع، وتحويل الجامعة العربية، إلى مُفوضية عربية أشبهُ بالمفوضية الأوروبية، أي حكومة تنفيذية، تتمثل فيها كافة الدول الأعضاء.. وتطوير البرلمان العربي بحيث تصبح له صلاحيات شبيهة بصلاحيات البرلمان الأوروبي، ويُنتخَبُ أعضاؤهُ بشكل ديمقراطي ومُباشَر من الشعوب العربية، ويكون عدد ممثلي كل دولة بِحجم عدد شعبها.. وهكذا تتحول الجامعة من جامعة حكومات إلى جامعة شعوب..
والاستفادة من كافة تجربة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته، وهيئاتهِ وهياكلهِ.. كما المجلس الأوروبي، ومجلس الإتحاد الأوروبي، ومحكمة الاتحاد الأوروبي، والبنك المركزي الأوروبي.. والعملة الأوروبية الواحدة.. الخ..
ما الذي يمنع العرب من فِعل ذلك؟. ليس بالضرورة أن يكون ذات الشكل، وإنما شكلٌ مُشابه..
ماذا يمنع أن يكون هناك اتحاد كونفيدرالي شبيه إلى حدٍّ ما بالاتحاد الكونفيدرالي الأوروبي بين 27 دولة أوروبية، مع محافَظَة الدول الوطنية على كامل سيادتها واستقلالها وحدودها وسياساتها، إذ تَمنحُ كل دولة للمفوضية الأوروبية ما تراهُ من صلاحياتها الوطنية، أو القومية؟. أي لا تُنزَع الصلاحيات انتزاعا، وإنما كل دولة هي من تُحدد الصلاحيات التي يمكن أن تتخلى عنها للاتحاد الأوروبي..
وتُحترمُ بداخلهِ (أي الاتحاد الكونفيدرالي العربي) كل العقائد والمذاهب والأديان والأعراق والقوميات واللغات، والاختلافات.. وحقوق الجميع.. كما الحال في دول الإتحاد الأوروبي.. وتنتهي النزعات الإنفصالية..
**
الإتحاد الأوروبي العملاق الذي نراهُ اليوم، بدأ بِفكرةٍ بسيطة عام 1955 بتأسيس جمعية الفحم والفولاذ الأوروبية، ثم تطور وتطور، وكان الأعضاء يزدادون عاما بعد الآخر، إلى أن وصل لهذا المستوى.. وباتت الجُغرافية الأوروبية هوية وطنية، وينتقل مواطنيه في كافة دوله بلا تأشيرة..
هل توجد روابط بين شعوب أوروبا أكثر من الروابط بين الشعوب العربية؟.
**
الكونفدرالية العربية لن تنتقص من مكانة أية دولة، بل تُقوِّيها وتُعزِّزها، وتُكامِل بين دولها..
حُلُم كل مواطن عربي من المحيط للخليج أن يرى هكذا مشروع عربي يتحقق، وأن يُصبِح للعرب هيبتهم، وتنتهي هذه الشرذمة وتقوقُع كل دول عربية حول ذاتها، فهذا لن يبقيها إلا ضعيفة وعاجزة عن مواجهة ما يُحيط بها من تحدّيات خارجية، مهما حقّقت من تنمية وتطوير على الصعيد الداخلي..
العرب يمتلكون مقومات هائلة، اقتصادية، وبشرية، وثروات باطنية، وموارد طبيعية، ومساحات جغرافية شاسعة ومتنوعة، وسواحل طويلة، وتحَكُّم بمضائق بحرية حيوية وهامة جدا.. الخ..
ولكن كل هذا لن يمنحهم القوة والمنَعَة والحصانة، مهما خطّطوا ونفّذوا وطوّروا مشاريعا تنموية داخلية، على المستوى الوطني، ما لم يتّجهوا حالا لتأسيس مشروعهم العربي المُشترَك..
أي تحويل الجامعة العربية إلى اتحاد كونفيدرالي.. ولا نتحدّثُ عن وحدة شاملة، كما كانت الطروحات في الماضي، فهذه أبعد من الأحلام، وفوق الخيال والتصورات.. ولا وحدة فيدرالية كما في الولايات المتحدة، وإنما اتحاد كونفدرالي يُبقي على سيادة واستقلال كل دولة..
الإتحاد الأفريقي اليوم أفضل بأضعاف المرات من الجامعة العربية..
فهل سيتحقق هذا الحُلم؟. ويتوقف الشباب العربي عن هِجرةِ أوطانهم بشتى السبُل؟.
إن تحقّقَ هذا المشروع، فلا حاجة لهُم للهجرة خارج الوطن العربي، لأنهُ حينها سيحصلُ تكامُلا بين كافة البُلدان العربية، وسوف تجِدُ العمالَة العربية، والخِبرات العربية، مكانا لها داخل الدول العربية.. ولا حاجة حينها لإستيراد ذلك من الدول الآسيوية، أو غيرها..
**
بداية الألْف ميل تبدأ بخطوة.. فمتى سنرى أول خطوة؟.
أم مكتوبٌ على العرب أن يبقوا ضعفاء، ومطموع بهم، وأقصى ما يجمعُهم مؤتمر قمّة، يصدرُ عنهُ بيانا ختاميا، ويُعيدون فيه التأكيد على ذات القرارات التي طالما أكّدوا عليها من عشرات السنين؟..
طموحات الشعوب العربية أكبر من ذلك بكثير.. كلها تنظر للتجربة الأوروبية بإعجاب وتحلُم بأن تتكرّر هذه التجربة بين دولها.. فلماذا طموحات الحكومات العربية ليست بمستوى طموحات الشعوب؟
هل أجمل من أن يتنقّل المواطن العربي من البحرين وقطَر إلى المغرب وموريتانيا بِلا تأشيرة دخول، وإنما على جواز سفرهِ فقط، كما يتنقّل المواطن الأوروبي من فنلندا والسويد في الشمال إلى أسبانيا والبرتغال في الجنوب، بِلا تأشيرة؟.
ماذا ينقصنا كعرَب حتى لا نكون كما بقية الأمم؟؟
… سنبقى محكومون بالأمل..
دبلوماسي سوري وزير مفوّض سابق
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم