بقلم: عبد المنعم علي عيسى
نشرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية يوم الأحد في 18 من تشرين الأول الجاري، تقريراً مطولاً يرسم من حيث النتيجة، مسار تقاطر أميركياً، يبدو أنه لم ينقطع، نحو دمشق منذ أن غادر روبرت فورد منصبه كآخر سفير لبلاده فيها العام 2012.
يقول تقرير الصحيفة: إن مسؤولاً أميركياً رفيعاً، زار دمشق في الأيام القليلة الماضية، وفيها التقى بمسؤولين في الحكومة السورية، لم تسم أياً منهم، وذاك تسريب هام له دلالاته التي يرسمها في السياسة، وهو يرصد تحولاً أميركياً يبدو أنه لم يتبلور تماماً بعد، لكن يصح اعتباره من دون أدنى شك، انقلاباً في طريقة التعاطي الأميركية مع الأزمة السورية التي استحقت توصيف الصراع الأعقد مما شهده العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والذي سترسم النهايات التي يمكن أن يفضي إليها حدوداً جديدة للتوازنات الإقليمية والدولية، بل وسوف تشتق من بين ثناياها نظاماً دوليا جديداً يبدو آخذاً بالتبلور بفعل تحولات أخرى عديدة على امتداد هذا العالم جنباً إلى جنب الصراع الدائر في سورية وعليها.
وسّعت صحيفة «الوطن» عدسة المشهد السابق في تقرير لها نشرته في اليوم التالي مباشرة أي في 19 من الشهر نفسه، وفيه ذكرت نقلاً عن مصادرها أن كلاً من المبعوث الخاص للرئيس الأميركي لشؤون المخطوفين روجر كاستينس ومساعد الرئيس الأميركي ومدير مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض كاش باتل، زارا دمشق في شهر آب الماضي، والتقيا فيها رئيس مكتب الأمن الوطني اللواء علي مملوك، ثم أضافت في تقريرها آنف الذكر، أن ثلاثاً على الأقل من الزيارات كانت قد سبقت الزيارتين السابقتين المشار إليهما في تقريري «الوطن» و«وول ستريت جورنال».
اللافت في الموضوع أن كلا التقريرين كانا قد خلصا للنتائج نفسها من حيث المآلات التي أفضى إليها التقاطر الأميركي نحو دمشق، فهذي الأخيرة برغم سني الحرب، التي اقتربت من أن تتم عشريتها، بقيت تتمترس عند ثوابتها التي أعلنتها منذ أن انطلقت شرارتها الأولى ربيع عام 2011، وكخلاصة قالت دمشق: إنه لا حوار في الملفات التي حملها المسؤولون الأميركيون في جعابهم يمكن أن يسبق الملف الأهم المتمثل بانسحاب تنفذه القوات الأميركية المرابطة في الشرق السوري.
وفي تراجم ذلك يمكن القول إن الرهان على لعبة عض الأصابع التي اختارتها واشنطن في التعاطي مع دمشق قد خسر، فهذي الأخيرة أعلنت بأنها لن تكون أول من يصرخ من الألم.
دلالات التقاطر الأميركي على طرقات دمشق عديدة، لكن أبرزها هو أن ذاك التقاطر في أحد أوجهه يمثل اعترافاً بفشل الخيارات الأميركية المتبعة على امتداد عمر الأزمة السورية، كما أنه في مقلب آخر يمثل مؤشراً على قرب الرحيل الأميركي بضفتي وجوده السورية والعراقية، وذاك أمر لا يرتبط بتوجهات الجمهوريين أو الديمقراطيين، على الرغم من أن فوز دونالد ترامب بولاية ثانية، سيكون حدثاً من شأنه، على الأرجح، أن يسرع من عمليات طي السفن الأميركية لأشرعتها إيذاناً برحيلها، لكنه مرتبط أكثر بانزياحات بدأت تباشيرها تظهر شيئاً فشيئاً في بنيان وتوجهات القوة الأميركية، وهي تتمظهر، وتفرض في آن واحدة، إعادة ترتيب الأولويات، ومعها إعادة ترتيب أوراق القوة في مواجهة العديد من التحديات التي يفرضها الصعودان الروسي والصيني، وعليه فإن الوجود الأميركي في كل من سورية والعراق بات بلا أفق، فيما الرحيل بات مسألة وقت يطول أو يقصر تبعاً للترتيبات التي تسعى واشنطن إلى إنضاجها.
بقي أن نقول للمراهنين على الوجود الأميركي، وهو قول لا يخطئه تقدير حول من هو المقصود فيه، أن ذلك الرهان بات أشبه برهانات لعبة «الروليت» الروسية الشهيرة، التي كانت تعتبر فيما سبق دلالة على الشجاعة، لكنها باتت اليوم تعبر عن الرغبة في الانتحار، أو هي وسيلة لتصفية الحساب بين طرفين راغبين بتلك العملية، قد لا تصبح الطلقة عند مدخل غرفة الانفجار من المرة الأولى بعد دوران الاسطوانة، ولا من المرة الثانية، بل قد يطول الوقت لأن تصبح في تلك الوضعية، لكن المؤكد أنها ستكونها في إحدى المرات لكي تنتهي اللعبة.
سيرياهوم نيوز 5 – الوطن 28/10/2020