مرةً جديدة، يستهدف الاحتلال الإسرائيلي مدينة جنين ومخيمها في الضفة عن طريق عملية عسكرية واسعة أطلق عليها اسم “بيت وحديقة”، وأقحم فيها أكثر من 1000 جندي، وعدداً كبيراً من الآليات العسكرية والطائرات الحربية، بهدف “إحباط البنى التحتية المسلحة واعتقال عناصرها” في المخيم، في عدوان سيستمر لـ 72 ساعة، بحسب ما أعلن “جيش” الاحتلال.
وبحسب ما تناقل الإعلام الإسرائيلي، فإنّ ما دفع في اتجاه تنفيذ هذه العملية، هو الكمين الأخير الذي تعرّضت له قوات الاحتلال في مخيم جنين، الذي أسفر عن مقتل 7 جنود إسرائيليين. وهنا، تبرز رغبة الاحتلال في الانتقام، وفي فصل مخيم جنين عن محيطه من خلال تجريف الطرقات وإقامة السواتر الترابية، في وقتٍ يشهد هذا المخيم تطوراً استراتيجياً وعسكرياً في مواجهة الاحتلال، وصفه الإعلام الإسرائيلي بأنّه “يشبه ملامح لبنان”.
تختلف تسميات “العمليات العسكرية” الإسرائيلية في مخيم جنين منذ عام 2002، حين ارتكب الاحتلال الإسرائيلي مجزرة شنيعة تحت اسم عملية “السور الواقي”، كما تختلف أشكال الاعتداءات الإسرائيلية التي يتعرّض لها هذا المخيم وأهله بشكل متواصل وشبه يومي، لكن الهدف من ذلك بديهي وواضح، “القضاء على العمل المقاوم والمتنامي في المخيم”، فيما يبقى السؤال: لماذا جنين بالتحديد؟
لماذا “جنين”؟
على مرّ التاريخ، كانت جنين المدينة الولّادة للممّيزين، حيث أتقنت صنع أجيال لا يهنأ لهم العيش من دون مواجهة المحتل بكل شراسة، شكّلوا نواةً للفعل المقاوم في مراحل كثيرة.
في البدء، شهدت جنين آخر معارك الشيخ السوري عز الدين القسام الذي كان قد خرج من سوريا، وأقام في حيفا، ثم اعتصم في جنين، وتركت مقاومته أثراً كبيراً في اندلاع الثورة الكبرى والإضراب الكبير عام 1936.
بقي لمخيم جنين، منذ ذلك الحين، هذه السمعة البطولية في أذهان الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء، فيما مثّل عام 2002 نقطة تحوّل بارزة في تاريخ المقاومة في المخيم، الذي كان على موعد مع معركة كبيرة ضد “جيش” الاحتلال الذي اقتحمت آلياته المخيم ودمّرته، لكن المقاومة حينها شكّلت واحدة من أبرز محطات الصمود والانتصار في التاريخ الفلسطيني المُعاصر.
وفي تفاصيل العملية التي أطلق عليها الاحتلال “السور الواقي”، فقد فرض جيش الاحتلال طوقاً عسكرياً على المنطقة، واجتاح مدينة جنين، وحاصرت آلياته المخيم من جميع الجهات، مدعومة بالطائرات المروحية، وآلاف الجنود المشاة الذين كانوا يتهيئون للمعركة، في أرجاء المخيم.
وجاء حصار مخيم جنين ضمن العملية التي نفّذها رئيس وزراء الاحتلال آنذاك أرئيل شارون، عقب تصاعد انتفاضة الأقصى، حيث كان يدرك الاحتلال أنّ المخيم كـ “بركان النار”، الذي قد ينفجر في أي لحظة.
آنذاك أطلق شارون على شهر آذار/مارس “آذار الأسود”؛ إذ قتل فيه 105 من الإسرائيليين بينهم 26 جندياً، في إثر العمليات الاستشهادية للمقاومة الفلسطينية، فما كان منه إلّا أن أعطى الضوء الأخضر لاجتياح الضفة، فيما كان لجنين ومخيمها دور بارز في قيادة المعركة، فقتل مقاوموها 40 جندياً إسرائيلياً، وأصابوا 140 آخرين، 13 منهم في 9 نيسان/أبريل في كمين محكم للمقاومة في المخيم.
“مخيم جنين” في العقل الإسرائيلي
وبالرغم من الضربات التي وجّهها الاحتلال للمقاومة منذ الاجتياح حتى يومنا هذا، فإنّ الاحتلال لم ينجح في القضاء على حالة المقاومة. وعدا عن أنّ مخيم جنين ظلّ ولّاداً للمقاومين وحاضناً للمقاومة، فقد أعاد اسم هذا المخيم الرعب في ذهن الاحتلال مع تنفيذ 6 أبطال من مخيم جنين عملية تحرّر فريدة من نوعها من سجن “جلبوع” في أيلول/سبتمبر من عام 2021. وهي عملية وصفها الإعلام الإسرائيلي بحجم عملية خطف جندي، حيث نجح الفلسطينيون في مباغتة “إسرائيل” وإحراجها.
وبعد ذلك، بدأت تطفو على السطح الأمني الإسرائيلي معضلة مدينة جنين ومخيمها. وازدادت الأزمة الأمنية الإسرائيلية مع معركة “سيف القدس”، التي أنتجت تشكيل كتيبة جنين التابعة لـ”سرايا القدس”، الجناح العسكري لحركة “الجهاد الإسلامي”، كأول حالة عسكرية علنية منظَّمة في الضفة الغربية، وكتيبة حزام النار التابعة لكتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة “فتح”، الأمر الذي ساهم في ميلاد حالة مقاومة جديدة غير معتادة على الأجهزة الأمنية الإسرائيلية منذ انتهاء انتفاضة الأقصى عام 2005.
هذه التطورات في العمل المقاوم في المخيم، كانت تترافق مع حياة اجتماعية مميزة فيه، تجعله مختلفاً عن غيره، وتمنح المقاتلين قضايا وروابط تقرّبهم من التّجمع وتبعد عنهم احتمالات التفرق. هذه الروابط التي تتجاوز الاختلافات الفكرية إلى الاتفاق على مواجهة الاحتلال حتى تحرير فلسطين.
فمنذ سنوات انتفاضة الأقصى، جمعت كوادر سرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى، في جنين ومخيمها وريفها، روابط وثيقة في العمل العسكري والميداني، بقيت إلى هذه اللحظة صمام أمان اجتماعياً حمى مجموعات المقاومة، من سياسات التفرقة الإسرائيلية.
وبقيَ مخيم جنين خلال الانتفاضة وما بعدها، متمسكاً بتقاليده الراسخة، أولاً في شكل المجموعات الكبيرة، وثانياً، في الوحدة التي تربط هذه التشكيلات العسكرية، إذ تحضر في جنين حالة من التنسيق والانفتاح بين الفصائل المختلفة، وكذلك حالة من التنسيق مع أبناء “فتح” وموظفي الأجهزة الأمنية، وهذا ما يشكّل حزام حماية، وخصوصاً أنّ لهؤلاء مساهمات مكشوفة وأخرى مخفيّة لدعم المقاومين.
إذاً، حفرت معركة مخيم جنين في نيسان/أبريل عام 2002، وقبلها أيضاً خلال سنوات انتفاضة الحجارة (1987-1994) مع مجموعات “الفهد الأسود” وغيرها، وصولاً إلى المواجهات المباشرة خلال العامين الماضيين، وحتى الأيام الآخيرة، عميقاً في ذاكرة الاحتلال الإسرائيلي، الذي بات يعاني من “صداع جنين” المستمر، ويخشى من أن يدفع تنامي المقاومة في هذا المخيم إلى التوسّع نحو مدن الضفة الأخرى، خصوصاً وأنّ ذلك هو ما شهدناه في الآونة الأخيرة مع ظهور كتائب ومجموعات جديدة منها كتيبة نابلس ومجموعة “عرين الأسود”، التي مثّلت امتداداً لفكرة “مخيم جنين” وكتيبته.
وإنّ أكثر ما تخشاه “إسرائيل” أيضاً، هو استمرار تناقل أسماء المقاومين والشهداء وحكاياتهم البطولية بين أهالي المخيم لتصل إلى الجيل الحالي الذي تتشكّل منه هذه الكتائب، والذي تقارب أعمارهم عمر اجتياح 2002. وعلى الرغم من أنّهم ربّما لا يذكرون ما جرى، لكنّهم يستلهمون من سير المقاومين السابقين طريقهم نحو الحرية والعمل المقاوم، ويعملون على تطويره، ثأراً لشهداء الاجتياح وغيرهم من الشهداء.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين