محمد عبد الكريم أحمد
مع اختلاط أوراق الأزمة الأخيرة بين مجموعة «فاغنر» والحكومة الروسية، وخصوصاً لجهة مآل نفوذ الأولى في القارة الأفريقية، ووسط سيل من التقارير والتحليلات الغربية، سعى وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى تطمين عدد من الدول الأفريقية (أبرزها مالي، وجمهورية أفريقيا الوسطى) إزاء مواصلة «فاغنر» أداء مهامّها هناك.
ad
مقالات مرتبطة
ما بعد «انقلاب اليوم الواحد»: أيّ مصير ينتظر «فاغنر» وزعيمها؟ خضر خروبي
«فاغنر» في أفريقيا: خريطة الانتشار وامتدادات النفوذ
حضرت «فاغنر» في أفريقيا، في موازاة توسُّع اتفاقات التعاون العسكري التي وقّعتها موسكو مع نحو 20 دولة أفريقية في الفترة ما بين عامَي 2015 و2019. وبخلاف الرواية الغربية عن أنشطة الجماعة، والحديث عن دعْمها سياسات موسكو في هذه القارة لمقارعة النفوذ الأميركي، ترى روسيا أن جهودها في «القارة السمراء» تواجه تحدّيات وعراقيل جمّة، حتى على صعيد العلاقات الديبلوماسية التقليدية، علماً أن صلات «فاغنر» بهذه الدول تقوم على عقود رسمية مع حكوماتها لحفظ الأمن وتدريب الجيوش الوطنية وقوات الشرطة فيها. وينتشر عناصر الشركة في العديد من الدول الأفريقية، أبرزها ليبيا والسودان وموزمبيق ومدغشقر وجمهورية أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو، فيما تتنوّع أنشطتها بين دعم عمليات قوات خليفة حفتر، والذي وصل ذروته إبّان حملة الأخير الفاشلة على العاصمة طرابلس (2019)؛ ومواجهة توسّع حركة «الشباب» الإرهابية في موزمبيق منذ عام 2017، وحماية مناطق وحقول النفط والغاز في شمالي البلاد لغاية وصول قوات رواندية نظامية لقيادة هذه العمليات في المنطقة في صيف عام 2021؛ ودعم جهود عدّة دول في مواجهة الإرهاب وحركات التمرّد وتعزيز قدراتها العسكرية والأمنية، في موازاة اتّفاقات حكومية بين هذه الدول وروسيا، كما في حالتَي مالي وبوركينا فاسو تحديداً.
ad
وكشفت الأزمة الروسية الأخيرة عن تعاظم مخاوف الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، الذين يمتلكون خبرة حقيقية في مجال شركات المرتزقة، وأداروا بالفعل عدداً منها نشطت منذ استقلال أغلب الدول الأفريقية، وانطلقت عملياتها في الكونغو ودول الجنوب الأفريقي وبعض دول غربي القارة للتغطية على انسحاب الجيوش الاستعمارية أو إطلاق انقلابات عدّة، من أنشطة «فاغنر» في أفريقيا. وفي المقابل، تظلّ الاستجابات الأفريقية بعيدة تماماً من هذا الجدل. فعلى سبيل المثال، شهدت الحالة المالية النقاش الأبرز مرحليّاً في الأيام الأخيرة؛ إذ مع إقرار وزارة الخزانة الأميركية (27 حزيران الفائت) عقوبات على بعض أطراف قطاع تعدين الذهب والماس في مالي (وجمهورية أفريقيا الوسطى)، شملت، بحسب بيان «مكتب مراقبة الأصول الأجنبية» OFAC في الوزارة، جهات مالية وموزّعاً في الإمارات و«شركة روسية» تقول الوزارة إنها متورّطة في المشروع لمصلحة إثراء بعض أعضاء «فاغنر» في روسيا والمتعاونين معها في دول أفريقية، جاء قرار مجلس الأمن الدولي إنهاء عمل بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام في مالي (30 حزيران)، وسط إدانات أميركية وغربية لتمدُّد الشركة في الدولة الأفريقية التي يضربها الإرهاب من دون هوادة منذ أكثر من عقد.
ad
ويؤشّر ما تقدَّم، إلى آفاق تمدُّد نفوذ الشركة الروسية في أفريقيا، على خلفية حاجة دولها المعنيّة إلى خدمات المجموعة الأمنية، ومرونة التفاهمات المالية مع الأخيرة على نحو غير مسبوق يتجاوز بكثير الاتّفاقات السابقة بين هذه الدول وأخرى مثل فرنسا والمملكة المتحدة، التي لطالما بخّست المقابل المالي الذي تتحصّل عليه الحكومات الأفريقية من بيع الموارد الطبيعية، لقاء التغاضي عن ممارسات الأخيرة الاستبدادية أو فسادها الاقتصادي.
«فاغنر» ومعضلة الصراع الأميركي – الروسي في أفريقيا
ثمّة ملاحظة أوّلية في إطار ما يُعرف بالصراع الأميركي – الروسي في أفريقيا، والذي بات في جزء كبير منه تجسيداً لتضارب مصالح شركات ورجال أعمال من الجانبَين، من مثل لجوء واشنطن إلى توجيه ضربات استباقية إلى أيّ وجود روسي في القارة الأفريقية حتى على مستوى العلاقات الثنائية الرسمية، أو في صياغة تحالفات دولية تدخل بعض دول أفريقيا طرفاً فيها، كما في حالة تجمّع «بريكس» أو حتى «مجموعة العشرين». وفي المقابل، فإن دوائر حكومية روسية تؤكد باستمرار أن تحرُّكها في أفريقيا يهدف في الأساس إلى تحقيق مبدأ «الفوز للجميع»، عبر صيغ تنموية تلائم الدول الأفريقية وتتّسق – أسلوباً – مع غيرها من المقاربات الدولية المتنوعة تجاه أفريقيا، مثل الصينية والأميركية وغيرهما. وجاءت «فاغنر» وتحرّكاتها أفريقيّاً لتعبّر عن أحد أوجه الصراع وملابساته، ولا سيما أن المجموعة برهنت عمليّاً، وعبر تمكين حكومات الدول المتعاقدة معها من تحقيق استقرار أمني ملحوظ، عدم جدوى المساعدات العسكرية والأمنية الغربية لكلّ من مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو وغيرها، في جهودها لمكافحة الإرهاب والعنف المسلّح وتمدّدهما على نحو بات يمسّ كل أسس الدولة.
ad
تبدو «فاغنر» عامل استقرار مهمّاً لحكومتَي مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، لا يمكن الاستغناء عنه مرحليّاً
وهكذا، تبدو «فاغنر» عامل استقرار مهمّاً لحكومتَي مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، لا يمكن الاستغناء عنه مرحليّاً؛ ذلك أن المجموعة تقوم بدور «تكميلي» عاجل لإسناد العلاقات الروسية مع البلدَين الأفريقيَّين ريثما تكتمل خطوات تفعيل العديد من الاتّفاقات العسكرية والاقتصادية. كما أن أدوار «فاغنر» في الأزمة الروسية – الأوكرانية، وتشابكاتها، تتّسق بشكل كبير مع تفاعلات العلاقات الدولية وحضور مصالح شركات دولية ومتعدّدة الجنسيات مباشرة في متن هذه العلاقات وتوجيهها في أفريقيا: من مثل الصلة الأميركية – الصينية التي تحدّث الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، عن جانب «محتمل» منها (24 يونيو، في سياق تعليقه على صدام «فاغنر» وموسكو)، في إشارة إلى «تواطؤ» إدارة جو بايدن مع سياسات الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وتراجع واشنطن عن التعامل مع روسيا والصين على أنهما «عدوّان طبيعيان» على خلفية ما رصده ترامب بخصوص استفادة بايدن من علاقات لأعمالٍ خاصة به مع شركات أوكرانية وصينية، إضافة إلى أدوار الشركات الفرنسية والبريطانية المختلفة في استغلال الموارد المعدنية الثمينة في دول الساحل الأفريقي منذ استقلال هذه الدول. ويعزّز كلّ ذلك سيناريو استمرار دور «فاغنر» في أفريقيا وتعمّقه بوصفه داعماً بشكل كامل للدور الروسي بعيداً من خيارات صفرية وضعتها الميديا الغربية، من مثل ثنائية ترويض موسكو لـ«فاغنر» أو تدميرها في أفريقيا («نيويورك تايمز»، 29 حزيران).
ad
وعلى رغم دأب الإعلام الغربي وظهيره في أفريقيا، على وصف أنشطة «فاغنر» بأنها تهديد لـ«العالم الديموقراطي» وقيمه («ديلي مافريك»، 30 حزيران)، وما يعنيه ذلك من استحضار أجواء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو في أفريقيا، فإن الدول الأفريقية التي تستعين بخدمات المجموعة الروسية، ووقّعت بالفعل اتّفاقات تعاون ثنائي مهمّة مع موسكو (مثل «اتفاق باماكو» لتدريب مئات العناصر الأمنية والعسكرية المالية في موسكو بالتزامن مع نشر نحو 1000 جندي من قوات «فاغنر» بعد محادثات بدأت نهاية عام 2021) تولي أهميّة كبيرة لاستمرار عمليات المجموعة، كما اتّضح من مخاوف بانجي من تأثّر الشركة بهذه الأزمة، ما دفع وزير الخارجية الروسي إلى تطمين حكومة هذا البلد إلى استمرار عمل «فاغنر» في جمهورية أفريقيا الوسطى.
خلاصة: مستقبل «فاغنر» في أفريقيا
ad
أثارت تعهّدات الإدارة الأميركية لدول أفريقية، مثل مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، بتقديم مساعدات عسكرية مقابل خروج قوات «فاغنر» من هذه الدول، تكهّنات عدّة بقرب خروج المجموعة من ساحات عملها في العديد من مناطق الأزمات في القارة. واتّضحت تلك التكهنات بشكل أكبر في حالة جمهورية أفريقيا الوسطى، مع تكثيف واشنطن اهتمامها بإقامة علاقات عسكرية مع بانجي بهدف مباشر هو طرد الجماعة الروسية وإعادة النفوذ الفرنسي إلى الجمهورية بالغة الفقر، إلى سابق عهده. وعلى سبيل المثال، أقرّت واشنطن، في نيسان الماضي، برنامجاً بقيمة 10 ملايين دولار تنفّذه شركة فرنسية لإقامة وحدات عسكرية متنقّلة تابعة لجيش جمهورية أفريقيا الوسطى. وبادرت، في نهاية حزيران، إلى شمول شركتَي تعدين مملوكتَين لبريغوجين تعملان في الجمهورية ضمن لائحة عقوباتها، على خلفية اتّهام «فاغنر» بـ«الضلوع في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان»، وتزامَن ذلك مع تعهّد واشنطن بتقديم دعم عسكري لبانجي حال تراجعها عن عقودها مع «فاغنر». ولم تحظَ مطالب واشنطن، حتى الآن، باستجابة بانجي، فيما لا يُتوقّع أن تكون الأخيرة إيجابية مرحليّاً في ضوء تعقُّد عملية تقديم المساعدات العسكرية الأميركية (وربّما عدم جدواها وفق ما أظهرته تطوّرات إقليم الساحل في العقدَين الأخيرَين)، وكذلك ارتباط هذه المساعدات المرتقبة بمشروطيات سياسية ستخصم كثيراً من منجزات نظام الرئيس الحالي، فوستين أرشانغ تواديرا، الذي استقدم «فاغنر» بعد زيارته المهمّة إلى موسكو في تشرين الأول 2017. وعلى نقيض التدافع الإعلامي الحالي في شأن قرب نهاية «فاغنر» في أفريقيا من بوابة الضغوط الروسية، يبدو أن استجابة القادة الأفارقة تجاه المسألة ستظلّ حاكمةً لمستقبل هذه المجموعة، وهي استجابة لا تمثّل أيّ قدْرٍ من القلق لموسكو وسياساتها الأفريقية مستقبلاً.
سيرياهوم نيوز 1_ الاخبار اللبنانية