آخر الأخبار
الرئيسية » تحت المجهر » تركيا في مئوية «لوزان»: ندوب «الجمهورية» لا تندمل [1/2]

تركيا في مئوية «لوزان»: ندوب «الجمهورية» لا تندمل [1/2]

| محمد نور الدين

لم يرتبط تأسيس دولة في العصر الحديث بمعاهدة، مثل ارتباط “الجمهورية” التركية بـ”معاهدة لوزان”؛ حتى إذا ذُكرت إحداهما، تداعت الأخرى إليها. فهي بامتياز “الوثيقة المؤسِّسة” لتركيا الحديثة، والمعاهدة الأشهر في تاريخ البلاد وربّما من بين المعاهدات الدولية الأهمّ في التاريخ الحديث.

في مثل هذا اليوم، الـ 24 من تموز من عام 1923، كانت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، توقّع مع تركيا معاهدةَ اعتراف بالدولة الجديدة التي ستصبح، بعد حوالي ثلاثة أشهر، وتحديداً في الـ 29 من تشرين الأول، “جمهورية”، رئيسها مصطفى كمال، ورئيس حكومتها عصمت إينونو، الذي سيرتبط اسمه بـ”لوزان” كونه رأس الوفد التركي المفاوض بصفته وزيراً للخارجية. وقد ظلّت تركيا تحتفل سنوياً بـ”لوزان” على أنها عيد، إلى أن ألغيت تلك الفعاليات في عهد رئيس الحكومة التركية الأسبق، عدنان مندريس، في عام 1955.

انتهت الحرب العالمية الأولى إلى تمزيق الدولة العثمانية إرباً بين الدول المنتصرة، ولا سيما بريطانيا وفرنسا. ولكن مصطفى كمال، الضابط في الجيش العثماني، كان له أن يبدأ ما سُمّي بـ”حرب التحرير الوطنية”، في عام 1919، قبل أن تفاجئ الدول الكبرى، تركيا، بـ”اتفاقية سيفر”، في آب 1920، مقسّمةً البلاد إلى دولة أرمينية في شرق الأناضول، وحكم ذاتي كردي في جنوبها الشرقي، ومناطق نفوذ لكلّ من إيطاليا واليونان وفرنسا وبريطانيا. لكن “أتاتورك” الذي تمرّد على السلطان في إسطنبول، نجح في تأسيس برلمان تركي جديد في عام 1920، وتوقيع اتفاقات سلام مع الاتحاد السوفياتي وفرنسا، في العام التالي”، رسمت حدود تركيا مع القوقاز وسوريا. ونجح أيضاً في دحر القوات اليونانية في صيف عام 1922، ليحرّر إزمير وساحل إيجه، وصولاً إلى تراقيا الشرقية وتوقيع “اتفاقية مودانيا”؛ حتى صارت الدول تتداعى لعقد مباحثات مع القوّة الجديدة بزعامة مصطفى كمال في مدينة لوزان، بدءاً من 20 تشرين الأول 1922، حتى الـ 4 من شباط 1923، لتستأنف من جديد في 23 نيسان.
رسمت “معاهدة لوزان” حدود تركيا الجغرافية، وثبّتت الحدود التي رسمتها الاتفاقات الثنائية التي عقدها مصطفى كمال، سواء بالوسائل الديبلوماسية أو العسكرية، مبقيةً على مسألة الموصل معلقّة، علّ “عصبة الأمم” تجِد حلّاً لها، إلى أن اتّفقت بريطانيا وتركيا والعراق لاحقاً، في عام 1926، على إبقاء الموصل تحت سيادة العراق وتخلِّي تركيا عنها، فيما كان لواء الإسكندرون مدار مساومات وتواطؤات بين أنقرة وباريس حتى عام 1939، عندما أُلحق بتركيا بشكل كامل.
لكن “معاهدة لوزان” رسمت أيضاً حدود توازنات/ لاتوازنات القوى الاجتماعية والدينية والمذهبية والعرقية والفكرية في الداخل، في ما تسبّب في إثارة خلافات وسجالات ونقاشات وصراعات وصدامات فكرية دائمة، ودموية أحياناً، استمرّت على مدى العقود اللاحقة ولم تنتهِ بعد مرور مئة عام على توقيع المعاهدة.
اعترفت المعاهدة بانقسام الأتراك على أساس ديني، أي بوجود فئات مسلمة ومسيحية/ أرمينية ويهودية، فبات يشار في الإحصاءات الرسمية إلى: مسلم أو مسيحي أو يهودي. لكن المعاهدة لم تشر، على أيّ حال، إلى وجود فئات مذهبية داخل كلّ دين، وهو ما مثّل أحد أسباب انفجار واحدة من أكثر المشكلات حساسيّة وتفرقة، وهي المشكلة العلوية (خُمس السكان بين أتراك وأكراد)، إذ إن عدم إشارة المعاهدة إلى وجودهم كان ذريعة لاعتبارهم “غير موجودين” أو أنهم “فئة ضالّة” من المسلمين، علماً أنهم كانوا يصنَّفون في الإحصاءات ضمن خانة “مسلم”. ومع أن العلويين دعموا “ثورة أتاتورك” على أساس أنها تشكّل تحوُّلاً عن النمط العثماني، غير أن العلمانية الكمالية لم تستطع، لدى تعاملها مع العلويين، أن تَخرج من “عمقها السنّي”.

لم تستطع تركيا «اللوزانية» أن تحافظ على حيادها الذي ظهر نسبياً في عهد أتاتورك

المشكلة البنيوية الثانية التي تجاهلت “لوزان” الإشارة إليها، هي وجود فئة من السكان تنتمي إلى العرق الكردي (سدس السكّان) الذي كانت نخبه وزعاماته تطالب بالهوية الكردية وبما لا يقلّ عن حكم ذاتي. وهذا كان مدعاة لاعتبار الأكراد “أتراكاً”، ووصفوا أحياناً بـ”أتراك الجبال”. لكن ما تقدَّم، أسّس لأكبر مشكلة اجتماعية وأمنية عانت منها تركيا كما الأكراد على امتداد مئة عام، ولم تُحلّ إلى الآن. أمّا المعضلة الثالثة التي أسّست لها “لوزان”، فهي أنها فتحت الباب أمام تنشئة المجتمع على أساس العلمانية وخارج أيّ تأثير للشريعة الإسلامية، حتى بدا كما لو أن الأمر مقايضة بين اعتماد العلمنة، في مقابل الاعتراف بحدود الدولة الجديدة، وهو أمر شائع لدى أوساط متعدّدة من المؤرّخين والباحثين والمفكّرين.
على أيّ حال، أُلبست الدولة الحديثة العلمانية في كل المجالات، وفي مقدّمها اعتماد قانون الأحوال المدنية وفصل الدين عن الدولة؟ وبما أن تركيا كانت حديثة التعوّد على المبادئ العلمانية، فقد تخلَّل تطبيقها الكثير من الخلل المقصود وغير المقصود. وفيما كانت النخب العلمانية تحاول استنساخ الحضارة الغربية، كانت ترى أن منْع التيار الديني من التعبير عن نفسه يقع في صلب تطبيق العلمانية التي تحوّلت إلى معاداة الدين بدلاً من الوقوف على الحياد بين مختلف التيارات الفكرية. من هنا، انقسم المجتمع التركي، في العقود اللاحقة، عمودياً، بين التيارَين العلماني والديني، ما أسّس لصراعات سياسية ولانقلابات عسكرية، وأيضاً لثنائية الخلاف العلماني – الإسلامي. ومع ذلك، لم يمنع هذا الشرخ العمودي الفئات العلمانية – وهنا المفارقة – من محاولة توظيف النزعة الدينية لحسابات سياسية داخلية.

وقد أظهرت الانتخابات النيابية والرئاسية الأخيرة، في أيار الماضي، التداعيات المزمنة للانقسام الفكري والعرقي والمذهبي الذي بدأ مع “معاهدة لوزان” ولا يزال، من دون أيّ تقدُّم في اتّجاه الحلّ، حيث صوّت نصف المجتمع (52%) المكوَّن من التيار القومي – الديني للرئيس رجب طيب إردوغان، وصوّت تقريباً كل الأكراد والعلويين والعلمانيين (48%) للمرشّح المنافس كمال كيليتشدار أوغلو.
في الذكرى المئوية لـ”لوزان”، أَمكن تركيا أن تحقّق مكتسبات كثيرة، بدءاً من محاولة التماهي مع مسارات المجتمعات الغربية، ولا سيما البدء بمسار التقارب مع الاتحاد الأوروبي الذي فرض شروطاً “حديثة” تتعلّق بنمط الحياة والحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان. غير أن تركيا أخفقت في تحقيق تقدُّم ملموس في هذه العناوين.
ولكن تركيا “اللوزانية” لم تستطع أن تحافظ على حيادها الذي ظهر نسبياً في عهد “أتاتورك”، تحت شعار “سلام في الوطن سلام في العالم”، وأصبحت، بعد الحرب العالمية الثانية، جزءاً مهمّاً من المعسكر الغربي – الأطلسي، في مواجهة الاتحاد السوفياتي والشيوعية، واستمر الوضع على هذه الحال حتى بعد انتهاء الحرب الباردة.
ومع أنه يُعاد استذكار “لوزان” كل عام على أوسع نطاق، باعتبارها مكسباً لتركيا، غير أن تورّط الأخيرة في مجريات “الربيع العربي”، منذ عام 2011، أيقظ النزعات التوسعية والعثمانية تحت شعار العودة إلى حدود “الميثاق الملّي” لعام 1920، والذي كان يضمّ شمال سوريا وشمال العراق وبعض القوقاز وجزراً متعدّدة في بحر إيجه. لذلك، بات، مع التدخّل التركي العسكري في شمال سوريا والعراق، الحديث سلباً عن لوزان “لازمة” للخطاب القومي – الإسلامي الذي حمله “حزب العدالة والتنمية”، ولا سيما منذ عام 2016، مع أول عملية عسكرية تركية في شمال سوريا، حيث رأى الرئيس التركي أن “القوى الاستعمارية أرادت أن تقنعنا بأن لوزان انتصار لتركيا، فيما هي هزيمة ويجب تصحيح الوضع”. ويقول إردوغان إن “أتاتورك” تخلّى عن حدود “الميثاق الملّي”، وتخلّى عن الجزر في بحر إيجه. فما كان من أثينا، عام 2016، إلّا أن ردّت على أنقرة بالقول إنه “إذا كان يجب إلغاء لوزان، فالبديل جاهز: العودة إلى اتفاقية سيفر”. ولم يكن إردوغان وحده في هذه المنازلة، إذ عرض زعيم “حزب الحركة القومية”، دولت باهتشلي، في 11 تموز من العام الفائت، خريطة تُظهر “حدود الميثاق الملّي في البحر”، وتشمل عدداً كبيراً من الجزر اليونانية، ومنها كريت ضمن الحدود البحرية التركية.

 

سيرياهوم نيوز3 – الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الذهب يتجه لتسجيل أفضل أداء أسبوعي في عام

    اتجهت أسعار الذهب اليوم إلى تحقيق أفضل أداء لها في عام مدعومة بالطلب على الملاذ الآمن، بينما يترقب المستثمرون مؤشرات عن تخفيضات الفائدة ...