| خالد ابراهيم
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما عُرِفَ بـ«الكتلة الشرقية» مطلع عقد التسعينيات من القرن الماضي، عاش العالم، ولا يزال، مرحلة من المخاض العسير وعدم التوازن، ومالت موازين القوة إلى مصلحة القطب الأميركي الذي خرج منتصراً من «الحرب الباردة» وأصبح الآمر الناهي. ودفعت الشعوب العربية، وقضيتها المركزية، أثماناً باهظة ومؤلمة نتيجة الهيمنة الأميركية وهذا التحول، ولا سيما بعد أن اتخذ النظام العربي والقيادة المتنفّذة في منظمة التحرير من هذا الانهيار والتغيير السلبي النوعي ذريعةً واهية ليبرّرا عجزهما وهزيمتهما، مُتكئيْن على «الظرف الدولي الجديد» وتنازلا عن أكثر من 78% من أرض فلسطين، ووقّعا اتفاقية أوسلو التصفوية وسوّقاها على أنها «إنجاز تاريخي» في ظل هيمنة نظام القطب الواحد.
واليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على مؤتمر مدريد التصفوي وفشل اتفاقيات أوسلو، بدأنا نشهد ولادة عالم جديد تسوده التعددية القطبية، وتظهر ملامحه واضحة مع بروز الصين وروسيا كقطبين وحليفين، فضلاً عن نشوء تكتلات اقتصادية كبرى منافسة-رافضة للسياسات الأميركية. كما نشهد تصاعد دور العديد من القوى الإقليمية الوازنة في منطقتنا والعالم. وفي هذه اللحظة التاريخية نعجب كيف هرولت بعض الأحزاب العربية والفصائل الفلسطينية إلى الصين لتكرر من جديد وصفة «حل الدولتين». بل وقّعت على بيان يتضمّن حرفياً موقف الولايات المتحدة واليسار الصهيوني وما جاء في صكوك مؤتمر مدريد لـ«السلام» عام 1991.
لم يتجاوز بيان بينتشوان ما نقرأه من عبارات يومية تصدر عن البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي وبعض المؤسسات الحقوقية منذ 30 عاماً. عبارات فارغة مثل «وقف النشاطات الاستيطانية» و«الأعمال الأحادية الجانب» و«احترام الوضع التاريخي القائم للقدس» و«إيجاد حل شامل وعادل ودائم للقضية الفلسطينية»، وغيرها من عبارات مخادعة ومضلّلة لم تعد تنطلي على أحد.
هل هذا ما يناضل الشعب العربي الفلسطيني من أجل تحقيقه منذ هبّة البراق 1929 والثورة الكبرى 1936 – 1939 حتى يومنا هذا؟ نسأل الأحزاب العربية والفلسطينية التي شاركت في تلك الحفلة: ما هو الفرق بين ما ورد في بيان الدورة الرابعة لاجتماعكم مع الحزب الشيوعي الصيني وما يطرحه اليسار الصهيوني؟ لا، بل إن مواقف بعض الأعضاء في الكونغرس الأميركي من الحزب الديموقراطي أفضل وأوضح ألف مرّة.
هل تكرّست قناعة عند هذه الأحزاب بأن القدس والناصرة واللد وحيفا ويافا وعكا وصفد والنقب وغيرها أصبحت جزءاً من «أرض اسرائيل»؟ وكيف تبرّر التخلي عن مليوني فلسطيني تحت الاحتلال منذ عام 1948؟ أين تبخّر حق العودة والقرار الدولي 194 في بيانكم المشترك مع «الرفاق» في الحزب الشيوعي الصيني؟ إنّ القرارات الصادرة عن الأمم المتحدة، على علّاتها وسخفها، تضمن لنا حقوقاً أكثر من بيانكم العجيب.
لا تعرف الأحزاب العربية وفصائل منظمة التحرير التي شاركت في المؤتمر كيف تتصرّف كطرف يحترم ذاته وله حضور وموقف. لو كانوا كذلك لكانوا في موقع الند. وتذكّروا أن الصين لا تقبل التخلي أو التنازل عن شبر واحد من أرض «الصين الواحدة» أو شارع من شوارع تايوان، فلماذا هذا الاستسهال والانبطاح أمام صديق؟ كيف يكون حالكم أمام عدو؟
يقول الشهيد غسان كنفاني: «إذا كُنّا مدافعين فاشلين عن القضية فالأجدر تغيير المدافعين لا أن نغير القضية»، ويبدو أن أحزابنا العربية التي ذهبت إلى الصين لا تعرف ألف باء العلاقات الدولية. ينسى البعض أننا في هذه اللحظة السياسية والتاريخية التي تقترب من صراع عالمي مؤهّلين أكثر للدفاع عن فلسطين. هذه القوى العربية والفلسطينية فشلت في توظيف نتائج مرحلة تاريخية كاملة، فشلت في تحسين علاقاتها مع الصين الصاعدة، وتحويل هذا المنبر إلى قوة دفع تصبّ في مصلحة نضال الشعوب التي تقف في وجه الهيمنة الأميركية.
كان المطلوب من القوى العربية والفلسطينية التي شاركت في اللقاء المذكور تظهير خطر الكيان الصهيوني على العالم، وخطر العلاقات الصينية الإسرائيلية على العرب والصين أيضاً. حتى لو بلغ حجم التبادل التجاري مع الكيان 30% من الدخل «القومي الإسرائيلي» فالعدو الصهيوني لم يتردّد لحظة واحدة في إلغاء صفقات طائرات وأسلحة وقّعها مع الصين لمصلحة وعيون حليفته أميركا. هذا الكيان المؤقّت لا يستطيع أن يقايض مصالحه وعلاقاته الاستراتيجية مع ربيبته أميركا بعلاقات عابرة وصفقة تجارية مع الصين.
كان من الأجدر بأحزابنا وفصائلنا الفلسطينية التي شاركت في اللقاء مع الحزب الشيوعي الصيني التمسك بحق الشعب الفلسطيني في «فلسطين الواحدة» وتذكير الأصدقاء في بكين بفشل ما يُسمى «مسيرة السلام» وتذكيرهم بالمرة بمقولات القائد التاريخي ماو تسي تونغ: «نحن دعاة إلغاء الحرب…لكنّ الحرب لا يمكن إلغاؤها إلا بالحرب… من يقوم بنصف ثورة كمن يحفر قبره بيده».