ميخائيل عوض
لم ينجح الكثير من المهتمين بالوضع الروسي في التنبؤ بتصرفات الرئيس بوتين. واخفقوا في فهم روسيا، وطبائع شعبها وردود فعلها. تعامل “الخبراء” والمخططون والاستراتيجيون مع روسيا على انها دولة متخلفة، لا تجيد الا بيع ثرواتها الطبيعة كمواد خام، وشعبها مفكك، وهرم، وزعموا انها بالكاد تكون دولة اقليمية وجزموا بانها لن تستطيع استعادة مكانة عالمية او الظفر بوحدتها وتامين عناصر استقرارها وتنميتها. وكثيرا ما اتهم نظام بوتين بالفردانية والدكتاتورية، وبوجود كتل مجتمعية وازنه ترفضه وبتخلف الجيش الروسي وبيروقراطيته وعجزه، واتهم السلاح الروسي بالتقادم وتخلف صناعته اشواطا عن الغرب ومنتجاته، وقيل كثيرا عن انقلاب وعن انهيار سلطة بوتين، وعن تمردات وعن انهيار اقتصادي واجتماعي، وذهب اخرون الى تحميل بوتن ونخبته مسؤولية سوق روسيا الى افغانستان جديدة في اوكرانيا…
التعامل مع روسيا وتقزيم مكانتها لا تخلوا من تأثير حملات الغرب و حرب الاعلام والحرب الناعمة التي انفقت امريكا وحلفها مبالغ طائلة لتحقيق غاياتها.
غير ان الواقع وحقائق الحياة اصدق انباء.
فقد صمدت روسيا وتمكنت اقتصاديا وحققت غاياتها العسكرية في الحروب وظفرت في المواجهات في سورية وكازخستان وبيلاروسيا وقره باخ وافشلت المخططات الاطلسية في العديد من الساحات والمسارح. وحولت الاطلسي والسلاح الغربي الى خردة في مكبات النفايات في اوكرانيا. واستثمرت بالحرب الاوكرانية كعملية عسكرية روسية خاصة، وعندما تحولت الى حرب شاملة نجحت في التكيف وادارتها بحكمة واقتدار وطول نفس، وطورت واستعرضت عضلاتها وجديدها من السلاح المتفوق في شتى المجالات والقطاعات.
وبذلك حسمت الوقائع المعاشة واكدت ان الحقائق اثبت واصدق من التنظيرات واحلام اصحاب الغايات.
دللت الوقائع ان روسيا دولة قطبية عالمية وقائدها بوتين شخصية عصرية ومتنورة يقودها برؤية واستراتيجيات مستقبلية، وبتحالفات متقنة وراسخة.
قائد عارف ونخبتها تعرف قيمة روسيا وخاصياتها، كما درست بهدوء وموضوعية تجربة الاتحاد السوفيتي واسباب انهياره وهزيمته في الحرب الباردة، وتجربة افغانستان المريرة، وتجربتها في العلاقة مع الدول والحركات التحررية، وتعرف الواقع الملموس ونجحت بصياغة خطط ومشاريع لتغير الواقع في صالحها، واقعها وواقع بيئتها ومداها الاستراتيجي والواقع العالمي وتحولاته وقررت عن سبق تصور وتصميم محكم وسائل ووسائط فرض مشيئتها والاسهام في استنهاض قوى العالم الجديد الجارية ولادته من الخاصرة الاوكرانية بعد ان استعصت حالة المخاض المديد والقاسي في بلاد العرب والمسلمين ومعهم في حرب اكتسبت صفة العالمية العظمى لشدتها ومدتها وكلفتها ولما اختبر فيها من سلاح وتشكيلات جيوش وفروع حروب، وقد انخرطت فيها روسيا عمليا في المسرح السوري وفي اسيا الوسطى خاصة في افغانستان وبإسناد ايران ومحور المقاومة وتصليب صموده ومقاومته ولم تتجاهل الجاري في امريكا الجنوبية والكاريبي وعظمت دورها في افريقيا .
اللغز الروسي العصي عن الاستيعاب عند الكثيرين، اين يكمن؟ في بوتين سر روسيا ؟؟ ام روسيا هي سر بوتين؟؟
روسيا الاصل، فالأشخاص مهما كانوا واي منصب تبوؤوا هم في خلاصة الامر مقولات وتعبيرات موضوعية عن بيئة وعن حالة، وليس في تجارب الشعوب اشخاص او احزاب او حكومات نجحت في صناعة دول وشعوب وانتاجها او تعظيم امرها ودورها ما لم تتوفر الاسباب والشروط الموضوعية، فالدول والشعوب والامم هي التي تنتج وتصنع القادة، والمبدعين.
روسيا عبر تاريخها دأبت على انتاج عظام فأنتجت لينين وتجربة الاشتراكية، وستالين والتنمية المكثفة، وهزمت النازية وانقذت العالم من خطر الابادة وانتجت اندروبوف الذي حرمها منه القدر او المؤامرة سريعا وقبل ذلك انتجت كاترين العظيمة وبطرس الاكبر، وانتجت ثقافة وادب مشهود وفنون عظيمة، وتميزت تاريخيا بوصف شعبها عنيد ومحارب، واشتقت لنفسها دور محوري في تاريخ اوروبا والعالم، وتميزت بنيتها الانثربيولوجية التي جعلتها دوما قادرة على الصمود والانتصار، وامتلكت جرأة الانقلاب على العالم الرأسمالي وقيمه وانماطه في الثورة البلشفية ومشروعها الاشتراكي، كجديد في النظم والتشكيلات الاجتماعية والانماط الاقتصادية من خارج النص والسائد.
تجربتها البلشفية الاشتراكية وسمت الحياة البشرية، ومازالت بصماتها ثابته ومقررة في تطورات الحياة الانسانية. وتقدمت وتتقدم في مجالات العلوم الفيزيائية والكيميائية وعلوم الحياة والطب والاهم السلاح والفضاء والنووي.
وروسيا على هذه الاهمية العظيمة والدور الفاعل في تاريخ ومسارات البشرية، ضربتها عاصفة الانهيار لأسبابها ولتكلس تجربتها وشيخوخة نخبتها وانهارت إمبراطورتيها السوفيتية فخال الغرب والقوى الليبرالية القائدة انه بات قادرا على اخضاعها والسيطرة على ثرواتها وجغرافيتها الهائلة، وضربت في دولتها واقتصادها وبنيتها الاجتماعية الليبرالية والفساد والاولغارشية والنهب الفاجر، وتبديد القدرات والامكانات واشتغلت الايدي الخفية لتقليص عدد سكانها وخصي رجالها وتعقيم نسائها وفقدت الملايين من البشر جوعا ومرضا في عشريتها السوداء، وانخفضت حديا نسبة خصوبة النساء، وتراجع التعليم، ودمرت الصناعات الوطنية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وقيادتها من سكير مخمور” يلتسن” الذي فرط بكل شيء وقدم السلطة في روسيا على طبق من ذهب للغرب الليبرالي.
ثم انتجت بوتين ونخبتها الحاكمة والاهم انها انتجتهم بعد ان اختبرت الليبرالية وادواتها وفلسفاتها، وحالة الفوضى والتدمير الذاتي واكتشفت مؤامرات تفكيك الدولة وتدمير المؤسسة العسكرية، لتفكيك روسيا ونهب ثرواتها وتبديد قدراتها وتحويلها الى جمهوريات موز. واكتشفت بالتجربة انها مستهدفة وان وصفات الليبرالية والاولغارشيا لا تفيدها وليست من طبائعها، والمثلية والتحلل من القيم والايمان وصفات اسقطت عليها عنوة ولمحاولة اغتصابها وانهاء ظاهرتها.
فلم تتأخر كثيرا، فأنتجت بعد تجربة ومعاناة شديدة وعدوان سافر، البوتينية ونخبتها الجديدة، لأنها روسيا وشعبها العنيد والمقاتل، لم يقبل ذل وهوان ولا فرط بسيادتها وبروحه القومية المتوثبة التي تعزز لحمتها الوطنية الارثوذكسية، فنهضت مؤسستها العسكرية واختارت بوتين مندوبا لتصحيح الخلل وكما قدمت نموذج انهيار الامبراطورية السوفيتيه بلا ثورات حقيقية من تحت كذلك انجزت ثورتها من فوق على تقاليدها العريقة وتسلم بوتين السلطة ليلة رأس السنة ١٩٩٩- ٢٠٠٠ باتفاق جنتلماني مع يلتسن والاولغارشيا ومن لحظتها بدأ انفاذ خطط واستراتيجيات استعادة روسيا ووضعها في مكانتها التي تليق بها وبتاريخها وقدراتها وثرواتها الهائلة ومساحتها الجغرافية الكبيرة جدا، وقد اضاف عليها بوتين ما يقارب المليون كيلو متر مربع من القطب الشمالي الذي يختزن ثروات هائلة الاهمية.
ثلاثة وعشرون سنة استعادت روسيا مع بوتن روحها، وعززت استقلالها وسيادتها، عملت بدأب وبتقانة وبجدول اولويات، وعادت لاعبا عالميا من الطراز الاول، بل تقود اوراسيا والجنوب في حقبة المخاض القاس لتوليد العالم الجديد من رحم القديم، وتسريع دفن العالم الانكلو ساكسوني العدواني والاستعماري الذي استنفذ مشروعياته وشاخ ولم تعد البشرية تتحمل صلفه وليبراليته الناهبة والتدميرية.
روسيا وشعبها وقيمه وبنيته الانثربيولوجيه هي السر، وبوتين يقودها بصفته كاشف وحافظ سرها لأنه عرف طبائعها وقيمها ودرس تاريخها وادرك ما العالم عليه من حقبة وتحولات ولبى حاجات روسيا وتمثل روحها المتوثبة ليكون لها دورا رائدا في ولادة العالم الجديد وتصميم القواعد والقوانين الناظمة للحياة البشرية وبين الامم والقارات والشعوب ايضا على طبائعها وببصماتها.
وفي حقائق ودروس وتجارب الشعوب والحياة، تنهض امة وتصنع مصيرها وتسهم في صناعة مستقبل البشرية عندما تنتج قيادتها ونخبتها العارفة بقيمها وقدراتها فتمكنهم ويصبحون رموزها وقادتها ويجسدون روحها فيشتهرون كتعبيرات عن اسرارها وكوامنها.
روسيا امة عظيمة، فاعلة ومبادرة، صلبة ومقاومة، شاهدة وصانعة في تاريخ اوروبا والامم، جربت الليبرالية والفوضى الانهيارية، سلمت نفسها لمغتصبيها، فأعادت اكتشاف نفسها، وتفعيل كوامنها، انتجت عظماء في تاريخها، وتستمر في انتاجهم، هي السر وبوتين والنخبة القائدة يجسدون سرها وتستعصي ونخبتها تعصى على فهم الاخرين.
(سيرياهوم نيوز1-الكاتب)