نبيه البرجي
لم يعد هناك من مرجعية عسكرية «فذة» في الكانتونات الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، سوى الماريشال منير المقدح. الرجل آدمي، بعيد عن ضوضاء الدم ومتعب. تكاد عيناه تقولان «من يقيم في مخيم عين الحلوة كمن يقيم في جهنم». ذات مرة سألناه «هل فكرت باللجوء السياسي الى لبنان»؟ ضحك. لعل رده… «يا ريت»!
المقدح عاش الأوديسه الفلسطينية في لبنان. خارت قواه مثلما خارت صدقية وشرعية وجدوى الوجود العسكري في المخيمات. هذه المسألة، عل حساسيتها، لا تهز أهل السيادة (أو ببغاءات السيادة). كثيرون من هؤلاء يعتبرون أن كل من يعادي «اسرائيل»، ويصادق سوريا أو ايران يضرب المفهوم الفلسفي للسيادة. هل باستطاعة أحد أن يقول لنا متى كان لبنان يتمتع بالسيادة؟
ألم يبدأ الصراع الفرنسي ـ البريطاني حول رئاسة الجمهورية منذ بشارة الخوري واميل ادة، ومنذ كميل شمعون وحميد فرنجية؟ أكثر من مرة ذكرنا، وعلى لسان ضابط كبير في سلاح الجو، أن الطائرات «الاسرائيلية» كانت تختال في سماء بيروت منذ الخمسينات من القرن الفائت، وكانت الدبابات «الاسرائيلية» تدخل الى قرى الجنوب، وتعري منازلها، دون أن يرف جفن للساسة أو للعسكر عندنا.
تلك الدولة الهشة سلمت مفاتيح لبنان الى ياسر عرفات، الذي ما لبث أن سلمها الى آرييل شارون، قبل أن يذهب الى أوسلو ويدفن القضية، بقضّها وقضيضها، تحت الثلوج والورود الاسكندنافية. هو مَن أراد دفن لبنان بالدم. حسابه في أحد مصارف بيروت، وقد حمله معه عند الرحيل من لبنان، كان 14 مليار دولار، بدولار تلك الأيام!
صيف عام 1983، حضرتُ اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر. زرتُ وزير الاعلام. قبل حلول الموعد تحادثتُ مع مدير مكتبه. قامة مهيبة، وقد بترت ثلاثة من أصابع يده اليمنى ابان الثورة ضد الفرنسيين. قال لي، وهو يستعرض بعضأ من الويلات التي أتى بها رجال الاستقلال، «ليت أصابعي قطعت كلها لأني كنت ضابطاً في جيش التحرير». كم ضابط في منظمة التحرير يتمنى لو قتل برصاصة «اسرائيلية»؟
حين سألت وزير الاعلام الجزائري عن وضع الفدائيين الفلسطينيين الذين تم ترحيلهم (عام 1982) الى بلاده، أجاب «طلبوا سجائر المارلبورو التي لا يدخنها حتى رئيس الدولة عندنا، فأحضرناها لهم، ثم طلبوا الويسكي، وكنت أنا رئيس الهيئة المولجة رعاية شؤونهم، سألتهم: ألا تريدون أن نأتيكم ببريجيت باردو»؟
هكذا كان حال أبو الزعيم، وأبو الهول، وأبو الجماجم في ليالي بيروت، ليالي ألف ليلة وليلة، كما لو أن تحرير فلسطين لا يمر بجونية، بل بساقيّ شهرزاد.
في فيتنام، كان «هو شي منه» يأكل العشب مع رجاله. هؤلاء الذين كانوا يسقطون يومياً (أجل يومياً) قاذفة أميركية عملاقة من طراز «بي ـ 52» التي بعث بها دونالد ترامب الى الشرق الأوسط لاثارة الرعب لدى آيات الله.
ثورة بالمعالق الذهبية. وكنتُ قد استعدت واقعة حدثت معي حين كانت الطائرات الاسرائيلية تلقي بالمنشورات فوق شارع الحمراء. كان الناس يهرعون للجوء الى مدخل أي مبنى، في حين كان الفدائيون الأفاضل يحتضنون الغانيات في أحد فنادق الدرجة الثالثة.
الكوميديا الفلسطينية السوداء (على اللبنانيين والفلسطينيين سوية). هل كان باستطاعة امرأة أن تظهر وحيدة في بعض قرى الجنوب؟
استراتيجية الكاتيوشا. بالرغم من تجنيد عشرات آلاف الفلسطينيين واللبنانيين، آلاف الباكستانيين والبنغال والأفغان واليمنيين والسودانيين، هل تمّ، وعلى مدى 13 عاماً من توقيع اتفاق القاهرة، تحرير حبة تراب؟
ماذا يفعل السلاح داخل المخيمات سوى أن يقتل الفلسطينيين (وهم ضحايا الأهل)، وسوى أن تدار الفصائل وحتى الأفراد، من عشرات أجهزة الاستخبارات (اسألوا منير المقدح). الاسلاميون الآتون من الكهوف يحاولون تحويل مخيم عين الحلوة الى نسخة عن تورا بورا…
الآن الورقة الفلسطينية. غداً الورقة السورية. من يرفضون قيام الكانتونات اللبنانية في لبنان، كيف يرتضون وجود كانتونات فلسطينية في لبنان؟ أكثر من قنبلة في الخاصرة لتفجيرها حين تدق الساعة!!
(سيرياهوم نيوز-الديار)