شاعر الشاهر
إذا كان سلاح القرن الماضي هو السلاح النووي الذي سعت الدول التي تمتلكه إلى تكريس فكرة احتكارها له، فإن من يمتلك سلاح المستقبل (الذكاء الاصطناعي) لن يشذ عن تلك القاعدة.
لم يعد الحديث عن الذكاء الاصطناعي حواراً علمياً وتقنياً فقط بقدر ما هو شأن سياسي يرسم المتحكمون فيه مستقبل العالم وتوازنات القوى الدولية واللاعبين الدوليين وقياس دورهم ومكانتهم.
وإذا كان سلاح القرن الماضي هو السلاح النووي الذي سعت الدول التي تمتلكه إلى تكريس فكرة احتكارها له ومنع غيرها من الدول من الانضمام إلى “النادي النووي”، فإن من يمتلك سلاح المستقبل (الذكاء الاصطناعي) لن يشذ عن تلك القاعدة.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت هناك حرب باردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أدى فيها السلاح النووي دور الردع ومنع المواجهة بين القطبين الدوليين.
وخلال الحرب الباردة، سادت النظرية الواقعية التي تؤمن بالقوة؛ القوة وحدها في طريقة التعاطي بين الدول، فكرست الهيمنة الأميركية، انطلاقاً من أن من حق القوي أن يفعل ما يريد ويأخذ ما يشاء، فكانت أميركا “شرطي العالم”، لكنه الشرطي الذي يقلب الحقيقة ويخالف القانون، بل ويطوعه خدمة لمصلحته وهواه.
واليوم، يشهد العالم حرباً باردة جديدة، طرفاها الولايات المتحدة والصين، وسلاحها الأقوى هو الذكاء الاصطناعي الذي يتسابق البلدان إلى امتلاكه والتحكم في تطوره، لأن هذا السلاح سيشكل “اقتصاد المستقبل”، فمن يمتلك أسراره سيحقق تفوقاً اقتصادياً نوعياً يوصله إلى مستوى القمة، وبقارق كبير بينه وبين من يليه مباشرة.
وتشكل الروبوتات أبسط أشكال تلك التقنية، إذ يسيرها ويتحكم فيها إنترنت الأشياء الذي يعتمد على تقنية 5G التي امتلكت الصين أسرارها، وهو ما أدخلها في مواجهة مع الولايات المتحدة الأميركية، فكانت العقوبات الأميركية على شركة هواوي الصينية، والحملة التي قادتها الولايات المتحدة لتحذير دول العالم وتخويفها من التعامل معها.
وقد وجهت واشنطن اتهامات إلى الصين بقدرتها على التجسس على دول العالم من خلال تلك التقنية، وبالتالي تهديد الأمن القومي لتلك الدول.
من جهتها، تسعى الصين بقوة للمضي قدماً في نشر تلك التقنية التي ستكون عماد “إنترنت الأشياء”، الذي من المتوقع أن يصل عدد مستخدميه إلى 100 مليار مستخدم، بمعنى أن الآلات في المستقبل سيكون عملها محكوماً بإنترنت الأشياء الذي يوجه عملها ويجعلها قادرة على المبادرة والفعل، بمعنى أنها ستصبح “آلات ذكية”. ويقدر العائد الاقتصادي للذكاء الاصطناعي بـ16 تريليون دولار، أي ما يعادل اقتصاد الهند والصين مجتمعين.
تلك الأرقام زادت حدة المنافسة بين أميركا والصين، فبات سقف التصعيد بينهما هو حدوث تطور في أحد التطبيقات الصينية عبر استخدامه تقنية لا تملكها الولايات المتحدة، وبالتالي ازدياد عدد مستخدميه، كما حدث مع تطبيق “تيك توك” الصيني، فالاقتصاد الحقيقي المستقبلي هو اقتصاد المعرفة، والمنافسة الحقيقية تكمن في إحراز تقدم في هذا المجال.
يبدو أن الصين حققت تقدماً سريعاً في هذا المجال، وخصوصاً لجهة تطوير صناعة الرقائق الإلكترونية المتطورة التي تشكل عصب الذكاء الاصطناعي.
لذا، زادت الاتهامات الأميركية لبكين بشن العديد من الحروب السيبرانية على عدد من الدوائر والمؤسسات الأميركية، بما فيها وزارتا الخارجية والدفاع وعدد من الشركات الاقتصادية المهمة، وهو ما كانت بكين تنفيه بشكل مستمر، حتى إن شركة مايكروسوفت الأميركية لصناعة التقنيات التي يرأسها بيل غيتس تعرضت لهجوم سيبراني وتهكير كبير استمر لمدة شهر كامل من دون أن يعرفوا بذلك.
من جهتها، تبقى الصين الدولة الأقل عرضة لمثل تلك الممارسات، لكونها تستخدم تطبيقات خاصة من صنع الشركات الصينية، كما أن لديها إنترنتاً خاصاً يجعلها قادرة على الاستغناء عن شبكة الإنترنت الدولية.
دعوات دولية لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي وحوكمته
أثار موضوع الذكاء الاصطناعي مخاوف دول العالم، فعقدت الأمم المتحدة 3 مؤتمرات لمناقشة التحديات والمخاطر المتوقعة من استخدام تلك التقنية، وسعت دول الاتحاد الأوروبي إلى صياغة القوانين الناظمة لعمل تلك التقنية وتطوراتها.
وبات السؤال المطروح اليوم: هل نطرح تقنية الذكاء الاصطناعي، ثم نسعى لصياغة القوانين الناظمة لها أم أن إيجاد البيئة القانونية يجب أن يكون سابقاً على استخدام تلك التقنية “الخطرة”، وهي خطرة من منطلق أن الإنسان عدو لما يجهل. لذا، باتت المخاوف كبيرة قبل ظهور هذه التقنية واستخدامها على نحو واسع!
لا تشذّ عن تلك القاعدة المخاوف التي سبقت ظهور الإنترنت والبروباغندا الكبيرة التي رافقت ظهور فكرة “الاستنساخ”، والحديث حينها عن مدى خطورة تلك الاكتشافات على البشرية كلها. ولم تقلّ الحوارات التي رافقت ظهور العولمة والمخاوف التي نجمت عنها عما يجري اليوم من مخاوف وتحذيرات.
لقد بات من المؤكد أن تقنية “الذكاء الاصطناعي” ستكون قادرة على إحداث تغييرات كبيرة في المفاهيم التي تكونت لدينا عن فكرة الدولة ومقوماتها وأركانها.
ومن المؤكد أن مفهوم “السيادة” لن يبقى ذاته الذي تحدث عنه كبار المنظرين لهذه الفكرة، وخصوصاً هوبس ولوك وجان جاك روسو؛ فإذا كانت الدول بعد ظهور شبكة الإنترنت لم تعد قادرة على التحكم في شعوبها وصياغة ثقافتهم وتوجهاتهم، فما هي الحال بعد ظهور الذكاء الاصطناعي؛ تلك التقنية القادرة على التلاعب بالعقول، ودغدغة المشاعر، وتوجيه المواقف والأهواء!
تلك التقنية ستؤدي حتماً إلى تغير في العديد من المفاهيم والتوجهات السياسية، فستوظف للتلاعب في استطلاعات الرأي، وعدد الناخبين، وتحقيق المطالب الشعبية، وغير ذلك من الأفكار التي لطالما كرستها “الديمقراطية الغربية” وسعت إلى عولمتها لتكون قيماً للعالم أجمع.
لقد بات من المؤكد القدرة على استخدام الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي للتلاعب بالرأي العام وتوجهاته، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تمتلك القدرة على معرفة التوجهات السياسية لمستخدميها وربطهم بنظرائهم ممن يتقاطعون معهم في تلك التوجهات، فلم يعد الرأي العام هو رأي الأغلبية الواعية والمدركة لأبعاد المسألة وخفاياها، بل بات رأي الأغلبية الشعبوية التي تسيطر عليها الغرائز ويحركها منطق القطيع.
لم تعد تلك الأمور مجرد تكهنات، بل هي حقائق تحدثت عنها الولايات المتحدة حين جرى استخدام حسابات وهمية في الانتخابات الأميركية عام 2016 لنشر شائعات سياسية وأخبار زائفة وتوجيه الناخبين إلى روابط تتضمن أخباراً سياسية تؤثر في سلوكهم وميولهم السياسية.
على سبيل المثال، حين وصل ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة الأميركية، استعان بكامبريدج أنالتكا التي استطاعت التأثير في الناخبين عن طريق معلومات فيسبوك. كما جرى استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي في كتابة الخطابات السياسية بطريقة فاعلة ومؤثرة وقادرة على إقناع الناخبين والسيطرة على توجهاتهم وميولهم. وقد وظفت في عملية استجواب الحكومات ومحاسبتها، عبر قراءة برامج تلك الحكومات وقياس نسب تنفيذها على أرض الواقع، بعيداً عن التأثيرات الشخصية والولاءات الحزبية.
لقد أدركت الصين أهمية الذكاء الاصطناعي، ليس سياسياً واقتصادياً فحسب، بل وحتى عسكرياً وأمنياً أيضاً؛ فدعا الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى توظيف تقنية الذكاء الاصطناعي في خدمة توجهات السياسة الخارجية الصينية وتعزيز القوة الناعمة للصين.
وانطلاقاً من ذلك، سعت بكين إلى إخضاع أدوات الذكاء الاصطناعي لإجراءات “تدقيق أمني” في مدى التزام محتوياتها بـ”القيم الاشتراكية الأساسية” وعدم مساسها بأمن الدولة.
وأدى الذكاء الاصطناعي دوراً كبيراً في مساعدة السلطات الصحية في مواجهة انتشار “كوفيد 19″، من خلال قدرته على معالجة البيانات الضخمة وتوجيه الأشخاص والسلطات وإرشادهم إلى ما يتوجب عليهم فعله.
ولعل التطور الكبير للصين في هذا المجال أثار حفيظة أعدائها وجعلها عرضة لحملة كبيرة من الانتقادات، إذ اتهمت الولايات المتحدة السلطات الصينية بسعيها لمراقبة المواطنين من خلال سيطرتها على تلك البيانات.
هذه الهجمة على الصين لم تكن نابعة من الحرص على “حرية المواطن الصيني”، بل لأن ذلك زاد “مأزق الديمقراطيات الغربية” التي لم تعد قادرة على التحكم في تلك التقنية والتخفيف من أعبائها وتداعياتها على الأفراد والمجتمع.
في الواقع، يبدو أن كل اختراع هو سلاح ذو حدين، ولا يشذ الذكاء الاصطناعي عن تلك القاعدة، فعلى الرغم من الإيجابيات الكبيرة التي يمكن أن يحققها للإنسان، من المؤكد أنه سيترك انعكاسات سلبية أيضاً. ويبقى الإنسان الناجح والحكومة الرشيدة هما القادرين على تعظيم الإيجابيات وتقليل المخاطر والسلبيات.
وعلى الرغم من المساعي الصينية للاستثمار في تقنية الذكاء الاصطناعي، فإن ما تنفقه الولايات المتحدة على الاستثمار في هذا القطاع يعادل 3 مرات ما تنفقه الصين.
الجماعات الإرهابية والذكاء الاصطناعي
قد تبدو الجماعات الإرهابية وجماعات الجريمة المنظمة الأكثر استفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي، نظراً إلى قلة تكلفتها وعظيم أثرها. منذ العام 2015، بدأت دول العالم بالانتباه إلى خطورة استخدام الجماعات الإرهابية منصات التواصل الاجتماعي في سعيها لتجنيد المقاتلين في صفوفها.
وإذا كان تنظيم القاعدة قد استفاد من اختراع الإنترنت في حينه، فإن ما يسمى بتنظيم “داعش” وظف الذكاء الاصطناعي في تجنيد عناصره وتحويل الأموال والتهرب من رقابة السلطات وسوى ذلك من أعمال.
هذا الأمر جعل التنظيم ينجح في تجنيد أكثر من 40 ألف مقاتل من أكثر من 100 جنسية، وفي السيطرة على أراضٍ في سوريا والعراق تتجاوز مساحتها مساحة المملكة المتحدة، فالدولة لم تعد هي الفاعل الوحيد، بل تطور ذلك بصورة لم تبقِ حتى استخدام القوة غير التقليدية حكراً على الدولة، فظهرت أسلحة أكثر فتكاً وأقل تكلفة في الوقت ذاته، وكانت هدفاً للجماعات الإرهابية التي باتت تسعى لامتلاك بعض أنواع الأسلحة الكيميائية والطائرات المسيرة.
وقد وفر الذكاء الاصطناعي لتلك المنظمات إجابات وافية حول كيفية تصنيع تلك الأسلحة والتدريب على استعمالها. ولعل المعضلة الأكبر التي كانت تواجه تلك التنظيمات هي تأمين من يوافق على تفجير نفسه بسيارته المفخخة وسوى ذلك، وهي المشكلة التي وجد لها الذكاء الاصطناعي حلاً عبر تأمين السيارات ذاتية القيادة والطيارة من دون طيار، وسوى ذلك من التقنيات التي ستشكل عبئاً مستقبلياً يسهم في إضعاف قدرات الدولة الوطنية في تأمين أمنها القومي.
كما أتاح الذكاء الاصطناعي إمكانية تزويد تلك المسيرات والسيارات بكاميرات قادرة على التعرف إلى بصمة وجه الشخص الذي يراد تصفيته، ليتم التخلص منه عبر تقنية الإطلاق الذاتي التي زودت بها تلك الآلات، بمعنى أن العمليات الإرهابية بات من الممكن تنفيذها -من الألف إلى الياء- عبر تقنية الذكاء الاصطناعي، وهو ما يزيد مسؤولية الحكومات ويدفعها إلى العمل على قوننة تلك التقنية وحوكمتها قبل استخدامها في جرائم لم يلحظها القانون ولم يجرمها.
يُشار إلى أن تلك المنظمات الإرهابية لم يكن لها أن تمارس عملها واستخدامها لتقنيات العصر من دون تغطية ومباركة من الدول التي تتحكم في تلك التقنيات. وقد تم تدريب عناصرها من قبل أجهزة استخبارات تلك الدول.
ختاماً
كلّ المؤشرات تشير إلى أنَّ الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي دوراً في تعزيز “صناعة الكراهية” ونشر الأحقاد وتأجيج الصراعات أكثر من كونه أداة لحل تلك المعضلات، وهذا ناجم عن شرور النفس البشرية التي تقف خلفه وتسعى لتوظيفه في إيذاء الآخر والتخلّص منه بدلاً من العمل على إيجاد حلول للمشكلات المشتركة التي تتعرض لها البشرية جمعاء.
سيرياهوم نيوز1-الميادين