| محمد ناصر الدين
كيف حالك يا بيروت بعد سنوات ثلاث من الانفجار؟ أما زلتِ تفاحة البحر، ونرجسة الرخام، وذاكرة البحر الذي يشيخ على الجبل المنسال فيه، كما تنسال قصائد الشعراء في سمائك التي أدماها اللهب؟ أما زلت امرأة جميلة حتى لو احترقت وجنتاك بالأمونيوم، واخترقت أساور يدك التي تقدّم الخبز والحرية كل صباح بالدمع والملح والشظايا، وسقطَ شَعرك المسرّح بالنثر في بحر لا وزن له سوى تلك الأطنان المركونة قنبلة مؤقتة لقتل التي كانت يوماً نجمتنا، وخيمتنا، وكانت كل المدن والأحلام والقصائد. أما زالت أسطورتك عن الجبل والبحر تُغري الشعراء والمبدعين الشباب العرب الذين سألناهم عن أحوالك، سواء الذين زاروك بالفعل وتسكعوا في مقاهيك واستأنسوا بلعنتك الجميلة وصار بينك وبينهم خبز وملح، أو أولئك الذين قصدوك في خيالهم وعمّروك ألف مرّة وغازلوك بأنك امرأة مصابة بالحياة؟ هل تحرّر هؤلاء الشباب من كل الصور النمطية المسبقة التي جعلتك المدينة – اليوتوبيا في كل شيء – من اختراع الثقافة والفن والصحافة إلى الحرب والعقم السياسي والفكري والموت- ليكتبوك حقيقيةً ولو مكسورة، وأنيقة ولو حزينة، وشاعرية ولو امتلأت الكتب بنظريات موت الشعر؟ قرّي عيناً يا بيروت، نحبكّ، ولن نبكيك ونسكب فوق جرحك المراثي، إذ «لا يرغب أحدٌ البكاءَ على بيروت، لأنَّ البكاءَ يصنعُ العبوديَّة. لا يستطيع أحدٌ أن يحبَّ بيروت من دون أن يقتلعَ رئتيهِ ويبصقَ دمهَا في وجهِ العالم»
امرأةٌ مُصابة بالحياة
فاطِما خضر*
ثلاث سنوات على فاجعة «بروتشيما»، وما زالت الحقيقة مُغيّبة، وما زال مُقيّداً في السّجلات أنّ المُشتبه بهم «مجهولون».
2750 طناً من نترات الأمونيوم المُخزّنة تنفجر لتُقدّم للعالم صورةً مُصغّرة عن يوم القيامة؛ سحابة دخانية ضخمة يُخلّفها الانفجار فتطوّق سماء المدينة، وتسحب من بحرها ماهيته، وتحجب جمال امرأة اسمها بيروت عن عشاقها في كلّ أصقاع الأرض وتتركهم يختنقون حزناً، يُرافقُها موجةُ اهتزازٍ صادمةٍ أقرب لتكون زلزالاً يهزّ المدينة، فيهتز معها عرش القصيدة فيتصاعد صوتها قائلاً:
«اسألي البحر جاب الملح من وين؟
اسألت الدّمع
قلّي: اسأل العين»
تبكي عيون النّاس وتبكي الأرض، ليسيل ملحهما ويُعيدا للبحر ملوحته وماءه.
ولأنّ بيروت كالأمل، يعجز الموت أن يطالها، تستند إلى صوت عشاقها الذين يتهافتون ليتغزّلوا بها، فتنهض من تحت الرّكام قائلة:
نعم، أنا بيروت، أنا ست الدّنيا، ولن يجد عشاقي بديلاً.
بيروت كانت وستبقى عاصمة الشّرق الأدنى وأهم المؤثرات الثّقافية في الوطن العربي لغناها بالأنشطة الثّقافية من صحافة حرّة، جامعات دولية، متاحف، مسارح، معارض فنون، دور نشر؛ عاصمة الصّحافة والنّشر العربية؛ قُبلة الأدباء والفنانين والموسيقيين وعشاق الخَلق والفَن؛ التّربة التي احتضنت بذرة قصيدة النّثر وسقتها ورعتها حتى شغلت الدنيا بسحر اللغة والمجاز؛ بيروت التي تُضيّف الكون من خوابي الفتنة كؤوسَ الفرح والبهجة، ومن صواني الحُسن أطباقَ السّحر والجمال؛ المدينة التي اختبرت الكوارث من زلازل وحروب على مرّ العصور وبقيت عصية على الموت؛ ما زال الموت يطاردها لاهثاً، وما زالت تُجيبه «ابتعد يا خائب الرّجاء، فإنّي امرأةٌ مُصابةٌ بالحياة».
* شاعرة ومترجمة سوريّة
لا تذبل
حمزة حسين*
لبنان كما جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي: جبل بالشام، لكني أختلف مع الحموي ومعجمه، فلبنان بحر وجبل، وما بينهما بيروت، وبيروت مدينة وجهها للبحر وظهرها للجبل، وهذا يفسر طبيعة المدينة المسترخية والأليفة، الحرية في بيروت مستمدة من اطلالتها نحو الحياة/ البحر، فالبحر أفق ممتد ومفتوح، وهذا ما يجعلها مدينةً متطلّعة ومنفتحة. وبالرغم من تخطيط المدينة الذي يكشف عن توجهها الحداثوي، إلا أنك تشاهد بوضوح غياب المشاريع الجديدة التي تكون على تماس مباشر مع حياة الناس، فلم أرَ جسراً جديداً، ولا مستشفى حديثة ولا مدرسة قد أُنشئت أو قيد الإنشاء، وهذا ربما يعود للأزمة الاقتصادية التي تعانيها أغلب العواصم العربية وليست بيروت وحدها. إلا أنك تشاهد بوضوح وجود مشاريع تجارية مثل بناء فنادق ومطاعم، وهذا طبيعي لبلد سياحي كلبنان ومدينة مثل بيروت، لكني أفسّر المضمر من انتشار هذه الظاهرة، فهي تكشف عن طبيعتها أيضاً، وهي بمثابة حضن حنون لكل من لجأ إليها: بيروت احتضنت الفلسطينيين وحركاتها المقاومة، والعراقيين المنفيين من جحيم صدام حسين، وآخرهم اللاجئين السوريين، وهذه واحدة من مكارم أخلاق بيروت وكرمها. وهناك ظاهرة ملفتة في بيروت (المدينة) هي كثرة مقاهيها، فثمة مقهى ما بين مقهى ومقهى، وهذا يفسّر بنيتها الثقافية، وهي ثقافة شفاهية، ولأني قادم من بغداد ضيفاً على تلك المدينة، وبدافع الفضول، سألت أغلب من صادفتهم في بيروت عن تفضيلاتهم الشخصية ووضعتهم بين خيارين لا ثالث لهما: أيّهما تحب البحر أم الجبل؟ وكان خيار البحر هو المفضل عند الكثيرين. وهذا العشق جعل المعشوق (البحر) يضحّي بأناقته وحكمته بصد وامتصاص جزء من قوة أقوى انفجار في العصر الحديث (مرفأ بيروت)، فحسب الخبراء، لولا البحر لكان حجم الدمار أكبر بكثير. فليتعلم العشاق إذن التضحية من بحر بيروت. مرّت سحابة الانفجار كما تمرّ سحب الصيف وأخذت معها بريق المدينة وأرواح الناس، لكن الذي بقي هو سر الحياة/ البحر وجه المدينة وديمومتها، فمدينة مثل بيروت لا تذبل أبداً، طالما هناك بحر تتطهّر به ويسقي روحها التوّاقة، وهنالك جبل يسند ظهرها وتستظل به.
*شاعر وناقد عراقي
نجونا لنتذكّر
هدى فخر الدين *
منذ غادرتُ بيروت عام 2005 وأنا أبحث عنها في كلّ المدن. لا آمن إلّا إلى المدن التي مثلها، المدن الغافلة المرتبكة، المدن التي تزهو بنفسها، فتتعثر بالتاريخ وتقع في عتمته.
حين غادرتُ بيروت، إثر عثرة أخرى من عثراتها مع الزمن، كنت قد بدأت أجد نفسي فيها. كنت قد بدأت أرى أفقها الذي يرتفع فوق ضجيج الشوارع، أنتبه إلى وجوه أبنية وأرى لبيروت سماءً مفتوحة. وكانت بيروت قد بدأت تهمس لي وتتعرف عليّ. ومذ غادرتها وأنا أبحث عن سبل للعودة إليها، وإلى نفسي فيها. فالحياة كلها هناك في تلك المدينة-العالم.
أنا من بغداد، أعرف جيداً كيف تحافظ المدينة على نفسها مهما اشتدّ الخراب (إيهاب شغيدل)
كنت مطمئنة إلى أن بيروت ستظل تطفو على صفحة الزمن مهما عَلَتْ لُجَجُه أو انخفضت، وكنت مطمئنة إلى أنني مهما طال بي البعد، لن أصبح مهاجرة ولا مغتربة، بل سأظل عائدة إلى بيروت أبداً. أرتّب الزمن في بالي لينتهي بي في بيروت… إلى أن ألمَّ بنا الرابع من آب، 2020.
حين جلست في فيلادلفيا أمام شاشة التلفزيون أشاهد الغمامة السوداء تنفجر فوق مرفأ بيروت، لحظتها فقط، شُرّدتُ، هُجّرتْ، فقدتُ حلمي ببيروت. غُدِرَ بي فتهاوى الزمن الذي حلمت به وأمنتُ إليه.
وها هي ذكرى الانفجار تعود لتذكّرنا بأنّ مَن استشهدوا منا في ذلك اليوم هم شهداء أحلامهم في هذا البلد، ونحن الذين نجونا، نجونا لنتذكّر يوماً قُتلنا فيه جميعاً.
* شاعرة وباحثة لبنانية
مدينة تحملها معك
سلطان القيسي*
في كل مرة كنت أذهب فيها إلى بيروت، كنت أشعر أنّ هذه المدينة تحبني، والمدن إن أحبتك أهدتك سواء السبيل إلى مفاتنها، فلا يأخذ المرء من مدينة شيئاً لقاء حبه لها، إنما الهِبات تأتي لقاء حب مدينة لك. ألفة بيروت وتنوعها يجعلانك تأخذها معك أينما ذهبت، وهذا ما كان ويكون، تذهب معي بيروت إلى مدن كثيرة، فلقد سلّمت على البحر المتوسط للمرة الأولى، من أبوابها وشواطئها، وحتى عندما زرت مدينتي المحتلة يافا، عام 2014، إذ حظيت بدعوة من متحف محمود درويش، تذكرت بيروت، أتعرف ما يعنيه أن تتذكر امرأة جميلة في حضن امرأة أخرى يجري حبها في أنفاسك مجرى نهر من شوق وضياع؟! هذا الحب المتبادل بيني وبيروت، تسلسل في الغيب، فأهداني زوجة فلسطينية، ولكن بيروتية المولد، تنتمي إلى عائلة نصف لبنانية، فأصبح بيتي محاطاً بأنفاس المدينة. بالطريقة ذاتها، أسميت ابنتي أليسار، ربما تسديداً لدَين العلاقة بيني ولبنان، وها نحن نربي ملكة فينيقية في بيتنا في عمّان. لكن ما الذي يغري شاعراً، ليحمل مدينة على أعزّ تفاصيل حياته؟ ربما علاقتي باللبنانيين أساسها انطباعي، متعلق بإبداعاتهم التي تتقدم جميع الأنواع الفنية، من شعر ونثر وموسيقى وغناء ودراما، لكن ما ورطني في محبّة هذا الشعب، هو مزاجه اليومي، ذوقه في تنقية الكلام والمشهد، المشهد الذي يعمل كغطاء زاهٍ مورّد، يخفي بشاعات الفساد وجراح الحرب التي ما زالت مفتوحة.
شاعر فلسطيني-أردني
أسطورةٌ لا تُترجَم
حسن المقداد*
لبيروتَ أن تتسلَّلَ ليلاً
وتمشي إلى بيتنا في السّهولِ
تقول لأهلي أنا بنتُكُمْ
وليسَ لأهليَ أن ينكروا
وليسَ لهم في المقابلِ من ضوئها غير طعمِ الرّمادِ
يقولُ أبي إنّها لم تعد مثلَ قبلٍ
وهل كانَ قَبلٌ؟
وهل ثمَّ بعدٌ
أنامُ وأحلمُ
لستُ أرى غيرَ أسطورةٍ لا تُترجَمُ
تنمو وتنمو ولا تُثمرُ
تسيرُ القوافلُ خلفَ القوافلِ كالنّهرِ لا تنظرُ
دهورُ الشّتاتْ
يُهجَّرُ جيلٌ ويُقتلُ جيلٌ وتنهدمُ الذّكرياتْ
مع الواقفينَ على الجسرِ
ينتبهُ السائرونَ إلى حُزنِنا
تسكتُ الكائناتْ
نَعُدُّ خسائرَنا
نستعِدُّ
نُعِدُّ الكؤوسَ
وتنطقُ بيروتُ من تحتِنا؛
سيّداتي
تسلَّلنَ من ظلِّكُنَّ
على مهلِكُنَّ
وكُنَّ
فقد يحدثُ المُشتهى
سادتي
حدِّقوا في السَّماواتِ كي تُبصروا
واحفروا الأرضَ كي تَعبروا
من دمٍ في الصَّلاةْ
ندورُ على ظلِّنا وتدورُ على نورِها المُفرداتْ
هنالكَ في حُزنِنا ما يَلي
وفي حُلمنا ما يَشي بالفواتْ
ولكنَّنا ننتمي للأماني وللنَّجمِ والنَّهرِ والأغنياتْ
نحيطُ بما دفَنَ السَّابِقونَ
وما نَبَشَ الآخرونَ الغُزاةْ
نغادرُ أزمنةً تتشظّى ونتركُ آثارَنا في النُّواةْ
نكوّرُ أرواحَ أجدادِنا
ونكتبُ قرآنَنا للغُواةْ
*شاعر لبناني
تفَّاحة الأمونيوم
راما وهبة *
«لو أنَّ البحر يشيخ لاختار بيروت ذاكرة له» (أدونيس)
شاخَ البحرُ في بيروت والحلمُ لم يعد بريئاً، هكذا أناقضُ إلهَ جبيل في سِفره، وأنحرُ القداساتِ التي نادتْ باسمها.
تفَّاحة الأمونيوم انفجرتْ في وجهِ الشُّعوب، وأعراسُ الهلاكِ على المرفأ. الطَّوائف في صلواتها لا ترفع قبراً ولا تغرسُ نبتةً، الحجارةُ لا تستريحُ في أشلائِها، تبحثُ عن نسغٍ آخرَ من طلعِ المجازرِ، ذلك الذي لا حقيقةَ لهُ في الكتاب.
الشَّهيد لم يخترْ أن يكونَ شهيداً، الأمُّ لم تفرح بموتِه كما تطمئنُّ قلوبُ المؤمناتِ بالآخرةِ، والقاتلُ هنا، القاتلُ هناك، القاتلُ مسرحُ البلادِ كلِّها. شيوخٌ من وراء السِّتارة يكدِّسون الفتاوى، كهنةٌ يرفعون اسمَ الصَّليب عالياً، السِّياسيُّون وكلابهم الشَّرعيَّة من ورائهم، جميعهم لم يخسروا الحربَ طالما يحتمي في الحظيرةِ مرتزقةٌ بالإرث والولادة. لا يرغب أحدٌ البكاءَ على بيروت، لأنَّ البكاءَ يصنعُ العبوديَّة. لا يستطيع أحدٌ أن يحبَّ بيروت دون أن يقتلعَ رئتيهِ ويبصقَ دمهَا في وجهِ العالم.
لا مكان للحزنِ في الهواءِ المريضِ، لا مكانَ للذَّاكرة في عينيِّ القتيلة (راما وهبة)
بيروت لا تصل، تنشطرُ إلى أجسادِ من رحلوا في كلِّ بقعةٍ من الأرضِ يقرؤونَ الوصيَّة، اسألوا الأنقاضَ التي تغتسلُ في حدائقِها، اسألوا أهلها النَّازحين في بيوتِهم والسُّم في الهديرِ بين تجَّار العقائدِ والآفاقِ. لا مكانَ للألمِ في بيروت، لا مكان للحزنِ في الهواءِ المريضِ، لا مكانَ للذَّاكرة في عينيِّ القتيلة.
* شاعرة وناقدة سورية
نيترات رجل النيترات
محمود وهبة*
مشهد 1
المكان: الجنوب، أرض ورديّة صاخبة.
أنا محمود وهبة من مواليد النبطية، جنوب لبنان حيث أستراليا أقرب إلينا من بيروت.
نتناول بيروت في أحاديثنا تماماً كالسيّاح، لا نزورها إلا لدوافع طبيّة، تعليميّة أو ترفيهيّة في المناسبات.
نزحتُ إلى بيروت منذ ما يربو على سنوات عشر، أبحث عن هويّتي في مقاهي الحمرا ومعارض الأشرفية، على كورنيش الروشة وعين المريسة. نجدُ صورتنا نحنُ الفقراء وضعيفي الحال في كلّ غرافيتي على الجدران البيروتيّة.
لطالما تخيّلنا بيروت بصور كليشيه وكلمات ممجوجة ومدقعة في البشاعة. كنا نعرفُ أنها جميلة مثقفة واثقة لا تغريها الكلمات. مدينة تتقيّأ اللعاب المتدلّي كالكلاب عند شمّ اللّحم.
مشهد 2
المكان: بيروت مدينة لا تقع.
الزمان: 4 آب 2020 الساعة 6:08.
الحدث: غيورٌ ذكوري يقوم بمحاولة اغتيال أنثى نائمة.
محاولة سبقتها محاولات، ستليها محاولات. من يعلم؟
الحدث: قتل أكثر من 200 ضحية.
الحدث: أكثر من 7000 ناج مشوّه.
الحدث: تدمير أكثر من 50 ألف منزل.
الحدث: تشريد أكثر من 300 ألف عاشق.
الحدث: بيروت تغرق 7 مرات بالماء ومرّة بالدّمع.
الحدث: العالم بأسره يبكي. العالم كلّه يسارع إلى النجدة والمواساة.
الحدث: بيروت تكابر، تتلطّى خلف أبواب أهلها، تعضُّ على شفتيها وتدور. بيروت أرملة ويتيمة.
الحدث: بيروت تتقطع أنفاسها، أنفاس مسمّمة بالنيترات. نيترات رجل النيترات.
مشهد 3
فكّت المدينة حدادها على أولادها، استأنفت صبّ جراحها على الأوراق والأقمشة والحجر. المدينة ترقص. رقصٌ متقطعٌ، لامرأة تكابر وتزفر.
المدينة بلا صباح. الركام ممدّد أمامها. على البرندة الأثرية ترتشف قهوتها تستمع لفيروز وتبتسم لكلّ نسمة.
مشهد 4
بيروت إلى اللقاء.
*شاعر لبناني
مرفأ لتنفجر
إيهاب شغيدل*
كنت جالساً في المقهى قبل ثلاثة أعوام، وقيل إن بيروت قد حذفت، إن نصفها أكله العصف، والآخر تطاير في البحر. لم أكن قد زرتها من قبل، لكن العراقي بالضرورة قد زار بيروت ودمشق والقاهرة في خيالاته وفي الكتب. سبق وأن زرت بيروت عبر أنسي الحاج وفيروز وعباس بيضون وسليم بركات وحسن داود، لكن ذلك لم يكن كافياً. يوم تفجير المرفأ كنت أرى الحزن في وجوه الأصدقاء ممن يعرفون بيروت جيداً، قبل ذلك كانت الأزمة الاقتصادية دخلت مراحل نعرفها نحن العراقيين الذين عشنا حصاراً اقتصادياً لعقد ونصف عقد تقريباً، الصورة ليست مثالية إذن. دخلت بيروت في تموز 2023، لديّ تصور أنها مرفأ، وأن الحصار يخنق المدينة، لكن بيروت ليست مرفأ يتفجر، أو جسداً ليتطاير في البحر. بيروت كما عشتها: عباس بيضون وحسين جرادي، واسكندر حبش ومحمود وهبة ومحمد ناصر الدين وسجى مرتضى. بيروت: تاء مربوطة، ومقهى يونس، وأبو ايلي، سندويش ونص، بربر، مقهى روسّا (الكوستا والهورس شو سابقاً)، وام نزيه، البارومتر، بيروت ليست مرفأ لتمحى. هذه المدينة مفاجئة، مباغتة، تجلس في مكان، يدخل المعماري القدير معاذ الآلوسي وهو الذي بنى مدينتك الأم، مدينة الثورة في بغداد، قبل أربعين عاماً، أن تذهب لمن تربيت على إصداراته مدير «دار الجمل » الشاعر خالد المعالي، أن تلتقي بمحمد هادي مدير «دار الرافدين » الذي طبع كتابك الوحيد. بيروت لا تطل على البحر فحسب، إنها تطل على المقاهي، المكتبات ودار النهار ودار رياض الريس، المدينة لا يحتضنها البحر بل شبان مررت منهم صدفة، سمعتهم يتحدثون عن الموسيقى. لقد خصتها الطبيعة بالبحر والحبر معاً، فبيروت تطبع حتى النهاية. قد تبدو كتابة حالمة، قد ترى عين السائح في هذه الكتابة، لكن بيروت مهما انطفأت الكهرباء فيها لن تصبح مدينة أشباح، لن تخشى، فلو مرت أي مدينة أخرى بالظروف الاقتصادية تلك، سيخرج لك قاطعو الطرق من حقيبتك، حقيبة الزائر. مررت من موقع الدمار، تحاشيت المشهد بكل ما أوتيت من نكات، بحجة الضحك، طامحاً في أن أعطي ظهري للحذف، لكن الضحك ليس علاجاً لنسيان المدن، الضحك علاج وهمي، لا يمكن الإفلات من الصورة التي سبق أن رأيتها عبر شاشة الهاتف. لقد رأيت مساحة سوداء، نظرت إلى المدينة بالمقابل، كأنّ أماً تحتضن وليداً قد اضمحل، أمّاً تتكور، تذكرت مقطع من جدارية جواد سليم، الأم تنحني على الطفل، الطفل الذي تفجّر، الأم تعصره بيديها مفزوعة بموته، وليد لم يكن بوسعها حمايته، لقد كانت أقسى لحظاتي في بيروت حين تذكرت جواد سليم، حين تذكرت أن هذا الجزء من المدينة قد انتهى ولم يكن بيد الأم حمايته. لكن الأم تنجب، مهما اقترب الموت. أنا من بغداد، أعرف جيداً كيف تحافظ المدينة على نفسها مهما اشتدّ الخراب، أدرك جيداً بوصفي عشت حياة كاملة وسط ركام بغداد أنّ المدن تبني نفسها رمزياً ومادياً كلما وصلت للصفر، ليس ثمة فرق بين انفجار بيروت وبين انفجار الكرادة 2016 إلا قدرة المدينتين على العيش ثانية، مهما اتسع السواد.
*شاعر عراقي
عنيدة أبدية
لين نجم*
لا تعني لي بيروت شيئاً، لو أنّها لم تكن محاطة بكلّ هذه القرى. بيروت هذه المدينة الضخمة، تظلّ كبيرة بضواحيها وبكلّ القرى المتفرّقة التي حوّلتها إلى مدينة وإلى أسطورة مصقولة بالتمجيد. غريب كيف حين نكتب عن بيروت نحوّلها إلى أسطورة كأنّها مكان خياليّ، ونحن ذاتنا حين نكتب عن قرانا البعيدة التي عشنا فيها طفولاتنا نحوّلها إلى حقيقة! بيروت قريةٌ كبيرة، لو آمنا بذلك لكانت بيروت حقيقيّة الآن وملموسة ولما تفجّرت هذه المدينة الجميلة.
لو أردت أن أصف بيروت حين أتيت إليها للمرة الأولى قبل انفجار 4 آب، كنت سأقول كما كتبت سابقاً عنها: «بيروت لم تكن يوماً مدينتي، لم أملك حتّى القدرة على أن أمون عليها. لا يمكنني مدحها أو ذمّها أو توصيتها بالرأفة بنا، نحن الذين همنا فيها بلا خطٍ للرجعة، بلا حسابٍ لأول حبٍ تحت المطر في الحمرا، وأوّل شتيمة تسمعها أمام النُّصب التذكاري لمستديرة السفارة الكويتية». ولكنني لو أردت أن أصف بيروت اليوم، بعد كلّ ما حدث سأقول: «بيروت لعنة عنيدة أبديّة».
كيف يمكن أن ينسى من عاش في بيروت ذاكرته معها؟ بيروت لا تُتيح لك النسيان. لو عشنا حيواتنا التي عشناها داخل مناطقها من مشرقها ومغربها، في مناطق أخرى في العالم. لو عشناها هي بذاتها، لما كانت ستكون مثل حياتنا في بيروت. هذه لعنة.*شاعرة وروائية لبنانية
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار