حسن نعيم
تصوغ “شارة جديدة للنصر” من دفاتر القرى التي وثّقت شفهياً أسطورة المقاومة اللبنانية بقوالب قصصية متماهية مع أدب المقاومة في العالم مشكّلة جسر تواصل مع أدباء المقاومة في أميركا اللاتينية والعالم.
إذا كان لكلّ مقاومة في التاريخ نتاج أدبي موازٍ يوثّق تجربتها أدبياً ويخلّدها في ذاكرة الأجيال، فإنّ مجموعة د. علي حجازي القصصية “شارة جديدة للنصر وقصص أخرى” تندرج في هذا السياق ولا تبتعد عنه، في سعيها لحفظ تاريخ المقاومة حفظاً فنياً، يبقي هذه المقاومة حية في وجدان الآتي من الأجيال.
تنهل مجموعة “شارة جديدة للنصر” للدكتور علي حجازي الصادرة عن دار المعارف الحكمية مادتها الأولية من القصص الجارية على ألسنة الناس، ومن دفاتر القرى التي وثّقت شفهياً أسطورة المقاومة اللبنانية في مواجهة العدو الإسرائيلي، وتصوغ “شارة جديدة للنصر”، هذه المادة الخام بقوالب قصصية متماهية مع أدب المقاومة في العالم مشكّلة جسر تواصل مع أدباء المقاومة في أميركا اللاتينية والعالم، كغابرييل غارسيا ماركيز وكروز اي سوزا، وميغيل انجل استورياس.
فعلى متن 13 قصة يفتح حجازي 13 نافذة من نوافذ الأدب المقاوم، ذات الموضوعات المشتركة مع بقية موضوعات الشعوب المناهضة للاستعمار والباحثة عن حريتها وكرامتها، سارداً الذاكرة الاجتماعية الجنوبية بلغة بسيطة متقشّفة متخفّفة من حمولتها البلاغية والمعجمية، لغة تأخذ قارئها بيسر وسلاسة إلى مقاصدها ومراميها بعيداً عن التقعّرات اللغوية والحماسة المنبرية.
نوافذ سردية
يقف الكاتب في قصة” الزفة– لحظة فرح نادرة في زمن جديد” إزاء الدمار الهائل الذي خلّفته حرب تموز 2006 ليستعيد بـ “نوستالجيا” وحنين جارف ذاكرة المكان، يمشي في الشوارع بين البنايات المهدّمة كمن يسير على قلبه، يملّي النظر بمشاهد المدينة التي فكّكت الحرب فيها أوصال الحياة: “رحت أحدّق إلى حطام بنايتنا والبنايات المجاورة إلى لوحة تفوق بمشهديّتها المؤلمة لوحة غرنيكا الإسبانية.
حجارة البنايات التي تسد الطرقات تحوّل أكثرها إلى رماد، إنه اليورانيوم المنضبّ. مقتنيات البيوت التي أطاح بها عصف الانفجار مشتتة في كل جانب، حتى أشجار السرو المحيطة ببنايتنا تحمل ما وصلها من ألبسة وبقايا أثاث”.
يعاني بطل القصة حزنه وغضبه وفرحه بالانتصار، ويتساءل عن كمّ التأوهات التي تلاشت تحت الركام، وفيما هو غارق في تأملاته وحنينه وإذا بصوت أهازيج وأفراح وجلبة حفلة زفاف، أرادها العروسان فوق ركام البنايات المهدّمة بكل زهوة الأفراح، كأنما الأصوات المنبعثة من الآلات الموسيقية هي الرد الهازئ على أصوات آلات القصف الإسرائيلية.
وفي قصة “حنين القصب” حيث يمرّ الهواء في القصب المجروح بفعل الرصاص الاسرائيلي، فيصدر منه ذلك اللحن الشجي حزناً على ذلك الشاب الذي قضى نحبه بفعل القصف الإسرائيلي على خراج البلدة. يغتنم حجازي حرص الجندي الإسرائيلي على حياة سلحفاة تمرّ وسط الطريق، فينزل من السيارة العسكرية ليحملها برفق ويضعها بين الأعشاب إلى جانب الطريق كي لا يدهسها المارة، في الوقت الذي يستبيح فيه الجيش قرى الجنوب ويسفك الدماء، في إشارة إلى ثنائية معيارية يصنعها الغالب ويتلاعب بها كيفما تقتضي مصالحه.
وعلى النسق نفسه وفي سياق ازدواجية المعايير ذاتها، وإنما بجرعة سياسية تحمّل الحكّام العرب مسؤولية ما يجري على أرض الجنوب، تصرخ الحاجة سارة في قصة حملت اسمها “الحاجة سارة”، تصرخ في وجه الجندي وتبصق في وجهه “تفووه على شرفك إذا عندك شرف، الأولاد حلال يموتوا، الرجال حلال يموتوا، البقرة حرام، البيت بكل ما فيه حلال يا ابن الحرام، تفووه على شرف الحكّام الذين تركوكم تتفرعنون في هذه الديار”.
وفي قصة “رسّام من هذا الزمن” يحدّثنا حجازي عن ذلك المقاوم الذي حيّر رجال الأمن العام بسبب الرنين المتواصل الذي تصدره آلة تفتيش المسافرين مؤشّرة إلى وجود معادن، رغم أنه أبعد المفاتيح والحزام والساعة والخاتم وكل معدن لديه، ليكتشف الضابط أخيراً أن الرنين مصدره جرح قديم يخفي سفوداً معدنياً وضعه الطبيب بعد إصابته في إحدى عمليات اقتحام المقاومة لمواقع الإسرائيليّين في جنوب لبنان.
ليقرأ الضابط المعني في آثار الجراح المزروعة في جسد المقاوم الجريح تأشيرة دخول إلى القلوب، لا ينبغي لأحدث الآلات الفاحصة أن تحول دون عبوره إلى كلّ جغرافيا الأرض.
أما قصة ” قبضتا أبي الفضل تكملان الحكاية” فتشير إلى شاب مقاوم قدّم قبضته هدية سخية للأرض العامليّة المشتعلة بالثورة، ليرزق بعد العملية التي فقد فيها قبضته بطفل له قبضتان، ستتوالد منهما قبضات مقاومة عديدة.
هنا نجد القاص يحيل بميثولوجية واضحة لحظة التضحية العاملية الراهنة إلى عمقها التاريخي الكربلائي، فتضحية أبي الفضل العباس في معركة كربلاء تتناسل في أرض عاملة قبضات يانعة، تنتظر ميقات قطافها بفرح غامر، كما في قصة “عاشق الأرض والحياة” التي يضع بطلها أطروحة الدكتوراه جانباً ويطلب من الله شهادة أخرى، شهادة حسينية تنطلق من كربلاء على أجنحة زمن طليق يحتضن أزمنة آتية لا استبداد فيها ولا قهر ولا احتلالات.
تمضي بنا قصص حجازي الثلاث عشرة لنصل إلى قصة “شارة النصر الجديدة” التي حملت عنوان المجموعة من باب تسمية الجزء بالكل. في هذه القصة التي تجري أحداثها في بلدة الغندورية الجنوبية يتلو وصيته أمام صديقه وفيها يتمنى زوال الاحتلال عن بلدته القنطرة ليدفن فيها، وإن لم يتحقّق حلمه بزوال الاحتلال عن بلدة القنطرة، فإنه يوصي بأن يدفن في الغندورية، لكنه يفاجأ بصديقه وهو يخبره أن الاحتلال في هذه اللحظات يغادر الجنوب، وأنّ قوافل العائدين تجد السير إلى القرى التي أشرقت عليها شمس الحرية في هذا الصباح.
لتنبت في اللحظة أمنية أخرى: “هذا المشهد نذرت له عمري، دعوت الله أن يؤخّر قبض روحي إلى الساعة التي أرى الرجال يطردون هذا العدو… يا الله بقدرتك بحلالك خذ روحي الآن، الفرحة تكاد تقتلني…
الناس تدخل القرى، تعلو الزغاريد ويرشون الأرّز، ينحرون الخراف على أصداء النشيد: “هنا صاح الصبح بنا قوموا زمن الهزائم قد ولّى…. وامرأة جنوبية انتشرت صورتها على وسائل الإعلام تصرخ بلكنتها الجنوبية “الحمد لله تحررنا… الحمد لله تحررنا”.
لا يرى بطل القصة إشارة النصر التي تحمل رقم 7 المرسومة على الأصابع، وإنما تلفته الإشارة رقم 8 التي ترسمها الأقدام السائرة إلى نصر جديد. كأن هذه القصة لا تكتب حلماً تحقّق فحسب، وإنما تعيد بناء الحلم وفقاً لبواعث ومحرّضات الأزمنة اللاحقة، فهي لا تكتفي بإضاءة حلم التحرير الذي حدث عام 2000، وإنما تطمح إلى تنويرية كاشفة تستشرف فجر الجنوب الجديد الواعد بانتصارات مقبلة لا محالة.
وهكذا أضاءت “شارة جديدة للنصر وقصص أخرى” الفعل المقاوم في فضاء سردي محمول على القيم الإنسانية والأخلاقية التي قامت عليها هذه المقاومة، بلغة سردية بعيدة عن المباشرة والوعظ والمنبرية التي شابت الكثير من الأعمال الأدبية التي تناولت تجربة المقاومة في لبنان.
تأتي قصص حجازي لتكون شاهداً أدبياً على عصر المقاومة، وتأخذ على عاتقها توثيق الفعل المقاوم أدبياً وفنياً وفاءً وإيماناً بهذه المقاومة التي صنعت أوّل انتصار عربي على الكيان الصهيوني ولم تأخذ حقها على المستوى الأدبي. وتنضم هذه المجموعة القصصية إلى مثيلاتها من الأعمال الأدبية المرافقة للمقاومة لتشكّل رافداً من روافد هذه المقاومة في بعدها الإبداعي الذي يحفظ تجربتها ويمنحها فرادتها بين حركات المقاومة المناهضة للاستعمار في العالم.
لا يشتقّ حجازي لغته في ” شارة جديدة للنصر” من العدم وإنما يتلمّسها من واقع معاش تحت الاحتلال، ويسعى إلى توليد دلالاته من عادات الناس وتقاليدها، كأنما الكتابة عنده محاولة دؤوبة لامتلاك سرّ هذا التجذّر في الأرض، وبالتالي سرّ هذه المقاومة التي تحيلنا إلى زمن مقدّس ولت فيه الهزائم وتوارت النكسات، نكسة حزيران، والنكبات، نكبة 1948، “هنا زمن النصر تجلّى… هنا طاف المجد وصلّى… هنا صاح الصبح بنا قوموا زمن الهزائم قد ولّى…”.
تستبطن قصص علي حجازي دعوة إلى قطيعة غاضبة مع تاريخ الهزائم وتسعى إلى الابتعاد والانفصال عن زمن كانت الغلبة فيه للإسرائيلي، فبقدر هذا الجفاء مع التاريخ القريب سعت المقاومة اللبنانية إلى وضع كتاب آخر ومفاهيم أخرى، أصرّ حجازي على ملاحقتها بكتابة أدبية محتفية بإنجازاتها بغبطة واعتزاز لا يدانيه اعتزاز. وهو في محاولته تلك إنما يكتب بلغة لا تعوزها البصيرة، عن زمن جديد تحتقب فيه الأزمنة وتتناسل النصوص الأدبية مستلهمة الحدث، ساعية إلى القبض عليه بقوة وتوثيقه فنياً ليبقى عبرة للأجيال.
تأخذ الكتابة الأدبية في مجموعة “شارة جديدة للنصر وقصص أخرى” شكل الرسالة التنويرية، وتبشّر بأدب مقاوم حديث يقدّم نماذج واعية لحقيقة وحساسية الصراع مع العدو الإسرائيلي، وما يمليه هذا الصراع من ضرورة الدفاع عن الوجود والذات بلغة لا تقبل المداورة والمهادنة وتدوير الزوايا. لغة واضحة في انتمائها لقضيتها متمكّنة من أداوتها، إنها لغة الحياة الجارية التي لا تلجأ إلى المواربة في سردها، ولا تدّعي حياداً مع عدو لا يفهم إلا لغة القوة والسلاح.
سيرياهوم نيوز1-الميادين