نبيه البرجي
في منتصف الثمانينات من القرن الفائت، استغرب توم سيغف، وهو أحد المؤرخين الجدد، كيف أن الكنيست يتريث في سنّ قانون بالحاق أميركا، كأرض محتلة مثل الضفة الغربية، ومرتفعات الجولان، باسرائيل!
من آرائه المثيرة أن السبب في “القوة التي لا تقهر” وجود دولة داخل الدولة في الدولة العبرية. الدولة هي الولايات المتحدة. وعلى العرب أن يعوا ذلك. أي دعوة لازالة اسرائيل ينبغي أن تبدأ بازالة أميركا…
سيغف كان أول من دعا الى ضرورة الفصل بين السياسي والعسكري في اسرائيل “لأننا لا ندري من يصنع حياتنا القادة السياسيون أم القادة العسكريون”، ليلاحظ أن الجنرالات غالباً ما يسوقون البلدان التي يحكمونها الى… الجحيم.
الآن، هلع لدى بعض الأوساط الاسرائيلية من حالات التمرد داخل الجيش اعتراضاً على مشروع “الاصلاحات القضائية”، ما يطرح، ثانية، ضرورة “المقاربة العقلانية” لمسألة التداخل الملتبس بين الساسة والعسكر، وان كان ذلك يبدو معقداً للغاية اذ أن القاعدة الشعبية لطالما رأت في بعض الجنرالات، مثل موشي دايان، وآرييل شارون، أنبياء القرن…
في بحث صدر من سنوات عن معهد “جافي” للدراسات الاستراتيجية، ان اسرائيل أكثر الدول الديمقراطية في العالم التي يحتل فيها الجنرالات، وعلى امتداد نحو ثلاثة أرباع القرن، مواقع قيادية في هيكلية السلطة. من رؤساء دولة الى رؤساء حكومات، ووزراء، ونواب. وكان هؤلاء الأكثر بريقاً من الساسة (المدنيين) الذين بالكاد يتذكر الاسرائيليون أسماءهم.
هذا يعود الى البداية. الآباء الأوائل للدولة كانوا يرون في المنظمات العسكرية (الهاغاناه، الايرغون، شتيرن) القوة التي لا يقتصر دورها على حماية اليهود، المقيمين أو الوافدين الى “أرض الميعاد”، بل يتعدى ذلك الى شق الطريق، وبالدم، الى قيام الدولة. تلك المنظمات هي الأساس في تشكيل “جيش الدفاع الاسرائيلي”، مع عدم واقعية التسمية كونه الجيش الذي نشأ، ايديولوجياً، على الاقتلاع والاغتصاب.
ما يشغل الباحثين الاسرائيليين التشكيك في جدوى، وفي دفة، وصف الجيش الاسرائيلي بـ”الجيش الذي لا يقهر”، وكنا قد استعدنا، في أوقات سابقة، حديث آرييل شارون لأوريانا فالاتشي في “النوفيل أوبسرفاتور” ابان الاجتياح الاسرائيلي للبنان صيف عام 1982. قال “جنرلاتنا يعلمون أن أي خطوة الى الوراء تعني بداية التقهقر في وجودنا” !
لكن يهوشوا ساغي الذي كان يشغل، آنذاك، رئاسة الاستخبارات العسكرية، عاد وأقر بأن الخروج من لبنان عام 2000 اذ سيجعل أمهات الجنود أكثر اطمئناناً بأن أبناءهن سيعودون أحياء من هناك، سيحد من وتيرة الانحلال داخل المؤسسة العسكرية، ليضيف بأن ما جرى كان بمثابة “مؤشر دراماتيكي على أن ما ينتظرنا فد يكون أسوأ بكثير.. “.
العسكريون، مثل السياسيين، في اسرائيل لم يكترثوا يوماً بالجيوش العربية، ان لأن أكثرية الدول المعنية تستظل الأساطيل الأميركية، أو لأن هذه الجيوش من الهشاشة بحيث تتحطم من الضربة الأولى. أما البروباغندا الاسرائيلية حول الخوف من تلك الجيوش، فكانت من قبيل الخداع، والاستدراج، أو لحمل واشنطن على رفع مساعداتها العسكرية، والمالية، اضافة الى استثارة الرأي العام العالمي، والغربي بوجه عام.
لكن الثابت الآن أن التعبئة السيكولوجية والايديولوجية للضباط والجنود لم تعد تقنع الآلاف من الضباط والجنود الذين ملّوا من البقاء في الخنادق، أو داخل الدبابات، بعدما بدا أن “قضية الوجود”، في نظر تعليق نشر في “هاآرتس”، باتت للعب السياسي فقط.
للمرة الأولى يبدو العسكريون أقل جنوناً من المدنيين. فوضى مدوية بين الضباط والجنود الذين يعتبرون أن السياسات الراهنة لحكومة بنيامين نتنياهو اذ تلحق الأذى بالعلاقات مع الولايات المتحدة، تكرّس نوعاً من الديكتاتورية في دولة تطرح نفسها كنموذج فريد للديمقراطية في الشرق الأوسط.
تعليقات كثيرة حول “الاهتزاز الاستراتيجي” (لا يستخدمون تعبير “الاختلال الاستراتيجي”) بعد دخول الصواريخ، والمسيّرات، في خارطة القوى. للمرة الأولى سؤال ذا دلالة كبرى “هل الصواريخ على الجانب الآخر من الخط الأزرق تهدد أمننا أم بقاءنا ؟”.
الرد لدى من هم على الجانب الآخر من الخط الأزرق…!
(سيرياهوم نيوز ١-الديار)