يكاد الجاحظ أن يكون أول كاتب عربي يهتم بجميع طبقات الشعب، وينقل حكاياته عن شخصيات من عامة الشعب، يجالسهم ويسمع أحاديثهم، ويصفهم بالبعد عن الكذب والنفاق، وهو ما يبدع فيه الآخرون.
إن الجاحظ له رأي آخر في مفهوم الأدب وفي كل ما يكتب، فهو للخاصة كما هو للعامة، ولعله الكاتب الذي أعاد للأدب العربي نظرته الشمولية التي تخص جميع فئات الناس من دون تمييز بينها، فالأدب يكتب عنها ويكتب ويوجّه إليها، ومن هنا دأب الجاحظ على جمع حكايات (السماكين) والصيادين وأصحاب الحرف السوقية المختلفة، بل حتى نساء العامّة كانت لهن صور تمثلهن في كتبه، فلم يكن كاتب قبله يجرؤ على جعلها في كتاب، ومن هنا وجّه إلى الجاحظ نقد شديد لأن طريقته في النقل والتناول لجميع طبقات الشعب، لم تكن مألوفة في الأدب المكتوب بعد، ولكن هذه الطريقة كان لها أتباع من كتّاب القرون التالية، وهنا يأتي دور الفريق الآخر، أما الفريق الآخر فتمثله مجموعة من كتّاب القرن الرابع والخامس الهجري، من بينهم (المحسن التنوخي، أبو منصور الثعالبي، أبو حيان التوحيدي، الراغب الأصفهاني) ولا يفوتنا ذكر أصحاب (المقامات) كبديع الزمان الهمذاني والحريري وقد أصبحت شخصية (المكدي) الأديب البارع والمحتال بكل حيله من أجل العيش، هي شخصية بطل المقامة، تستمد أكثر مقوماتها من كتابات (أبي عثمان الجاحظ).
لقد كان الجاحظ أول من وجّه النظر إلى وجود هذه الفئات في مجتمع الحاضرة العباسية، متميزة عما ألفه المجتمع من تقليد ومفاهيم في الخلق والعادات، وإذا كان الجاحظ قد دوّن في كتابه الفقر والبؤس والبيئة والمجتمع والظلم، فإن موقفه من العلماء في جانب آخر له موضع متميز، لقد كان هذا الاتجاه في أدب الجاحظ يتناول حياة الناس اليومية، واستطاع أن يقدّمها للقارئ بجميع صورها المشرقة أو المعتمة، ينطق بلسانها ويصوّر أحوالها وطبيعة تفكيرها، وينقل كل ما يدور عنها من حكايات وأحاديث.
على أن الاتجاه إلى نقل كل ما يخص العامة لا يعني في أي حال من الأحوال أن الجاحظ أو هؤلاء الأدباء كانوا يجعلون من هذه الطبقة قدوة يقتدون بها أو ينصحون باتباعها، فقد يتردى بعض هؤلاء في حياتهم وفي ضيق أفقهم إلى مستوى لا يليق بالإنسان أن يقتدي به، ومن هنا كان موقف الجاحظ واضحاً في الخاصة من العلماء، ولاسيما المتكلمين من المعتزلة الذين كان الجاحظ نفسه من أتباعهم.
وهكذا يبقى أدب الجاحظ معيناً ثرّاً لمعرفة خفايا مجتمع ازدهر بشتى الأنماط والفئات من الناس، عايشه الجاحظ بكل قدراته وتوثبه العقلي، وقدّمه لنا في كتاباته طوال فترة قاربت قرناً من الزمان (نحو منتصف القرن الثالث) هي الفترة التي عاشها أبو عثمان الجاحظ رحمه الله.
(سيرياهوم نيوز-تشرين)