| محمد البشير
تقديــــــم
سعت البشرية منذ ان اصبح هناك حاكم ومحكوم الى العدالة، واهتم الفلاسفة تاريخياً في محتواها وعبر افلاطون عن العدالة بالمدينة الفاضلة وصنف الناس حسب قدراتهم، اما ارسطو فعرفها في انها تحقيق المساواة بين الافراد في حالة تمائلهم، وبالمغايرة بينهم في حالة اختلافهم، اما ابن خلدون فذهب الى ان العمران البشري لا يتحقق الا في ظل العدل الاجتماعي.
في العصر الحديث، وفي اوروبا تناولها علماء الاجتماع كثيراً وكان اخرهم (جون رولز) صاحب نظرية العدالة التوزيعية كفلسفة اخلاقية ونظرية وسياسية …. ويرى ((ان الوثيقة الدستورية باعتبارها العقد السياسي والاجتماعي بين الشعب والسلطة يجب ان تتأسس على قيمتين: تداول السلطة وتداول الثروة كمتلازمتين لا ينفصلان)).
واعتبر رولز ان الحرية تعد احد المكونات الرئيسية للعدالة الاجتماعية ولا تتم بغيابها، وان بعض المفكرين لا يقبل الفصل بين المساواة والعدالة الاجتماعية وكذلك الامر ينطبق على هذه العلاقة مع حقوق الانسان وانها جزء لا يتجزأ من العدالة الاجتماعية. وقد استخدم السلاطين مؤسسة الدين تاريخياً لتغييب هذه العدالة، ومع ظهور الدولة الحديثة خاصة بعد الثورة الفرنسية على وجه الخصوص واشتداد الصراع في هذه الدولة ما بعد الثورة على السلطة والثروة وقد ترافق مع هذا الصراع، حديثاً دائماً عن العدالة خاصة، اعادة توزيع الثروة، بعد ان كان ضحية هذه الحروب عامة الشعب، اللذين حصتهم من المكاسب كانت قليلة ومتواضعة الا ان الكثير من هؤلاء، وفي الكثير من دول العالم الثالث نجحوا في خلق ادواتهم السياسية، خاصة بعد انتصار ثورة اكتوبر في روسيا، وافول الدولة العثمانية وظهور ملامح تشكل عربي واقليمي جديد، دولاً ومجتمعات حاولت ان تتفاعل وتتقاطع مع الدولة الغربية على وجه الخصوص وتأثرت بها سواء كان ذلك بالصراع مع سياسييها للحصول على الاستقلال، الذي قَدم ابناء الامة من اجله تضحيات كبيرة، او من خلال اكتساب العلوم والخبرة المهنية والمعرفة السياسية ابتداءً من الحرية وحق التنظيم والاحتجاج وانتهاءً بتشكيل الاحزاب…الخ، مما أنشأ حقاً من ابرز تجلياته المطالبة المستمرة في العدالة بتوزيع الثروة القومية، سواء كان ذلك حق الحصول على الوظيفة، الادارة، الترشيح والانتخاب للمجالس المحلية والنيابية او كان ذلك على شكل المطالبة بتكافؤ الفرص بالدراسة في الجامعات والمعاهد التي ساهمت في ايقاظ الشخصية العربية على وجه التحديد، هذه الفئة الطليعية وجدت نفسها امام تحدي الهوية واشتقاقاتها المتعددة سياسياُ واقتصادياً وبالنتيجة اجتماعياً.
تراجع الاهتمام بموضوع العدالة الاجتماعية على الصعيد الداخلي للدول او على صعيد العلاقات الدولية مع اشتداد الحرب الباردة، الا ان المنظمات الدولية او مؤسسات الدعم والرعايا والاهتمام بحقوق الانسان التي انتشرت في دول العالم الثالث عموماً وفي الدول العربية على وجه الخصوص والمدعومة حالياُ من الدول الغربية خاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، ابقت على المطالب الانسانية حاضرة في كثير من الدول، رغم كل ما يثار عن محركاتها والمؤثرين بها من ممولين او خبراء ذوي اجندات غير وطنية، حيث استخدمت هذه المنظمات، كوسائل لغزو مجتماعات العالم الثالث عموماً والوطن العربي على وجه الخصوص، والتي تبنت برامجها ((الانسانية)) مسألة حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية ….. الخ كشعارات اجتماعية ابتداءً حيث تأثرت بها قوى المجتمع، فالحركة الاجتماعية وبرامج الاحزاب التي تضمنت عناوين عديدة كانت العدالة الاجتماعية واحدة من بنودها ايضاً، حيث اتضح بالنتيجة ان هذا الشعار وتحقيقه لا يمكن ان يصبح واقعاً، دون استقلال هذه البلدان سياسياً الذي ينعكس بالضرورة استغلالاً لثروتنا الكبيرة والمتنوعة والتي ستحقق من خلال التنمية المستقلة متطلبات العدالة الاجتماعية، مثل توفير السكن، التعليم، الصحة، والنقل والتي ستنعكس حتماً على انتاج افضل وحياة حرة كريمة في مجتمع تسوده العدالة والقانون.
ضوابط العدالة الاجتماعية
– العدالة الاجتماعية وسيله لتحقيق تنمية مجتمعية مستدامة.
– العدالة الاجتماعية لا حدود لتطبيقها.
– العدالة الاجتماعية عملية ديناميكية بطيئة ومستمرة من التعلم والارتقاء لانها توفر الاساس والقاعدة للمجتمع الصحي السليم.
– تتحقق العدالة في ظل الرفع من شأن الصالح العام دون تناقض مع حصة الاقليات عدداً او قوى.
– العدالة الاجتماعية مجموعة قيمية من مصلحة الجميع العمل على تحقيقها.
مؤشرات العدالة الاجتماعية
– بناء على ان الحرية مدخل اساسي للحكم على توفير العدالة الاجتماعية ، فان الحريات العامة التي يحميها القانون تبقى الضامن الحقيقي لادارة تشريعية وتنفيذية تقدم المصلحة العامة اولا ودائما، على اي مصلحة، والتي بالمحصلة النهائية يمكن ان تجعل من ملكية وسائل الانتاج المتعلقة ” بالارض، العمل، المال و التنظيم” متاح وقادر على توفير ما يحتاجه المواطنين من حاجات اساسية ذات علاقة بالتعليم، الصحة، النقل العام والسكن المناسب كمتطلبات اساسية لتحقيق العدالة الاجتماعية المنشودة.
– ان السياسات المالية التي تتبعها الدولة بموجب التشريعات التي يقرها نواب الامة والمتمثلة بادارة النفقات التي تحتل النفقات الرأسمالية الحصة الافضل والقادرة على توفير نظام تعليمي متقدم، رعاية صحية متكاملة وميسورة للجميع (التأمين الصحي الشامل) ووسائل نقل رخيصة وسريعة تساهم في تحقيق نتائج افضل على صعيد الانتاج وفي التخفيض من فاتورة الطاقة والاستهلاك لوسائل النقل الخاصة على وجه الخصوص وبالنتيجة تخفيض فاتورة استيراد الطاقة والمركبات عموماً.
– ان اكتمال منظومة التشريع مع منظومة الادارة التنفيذية وسيادة القانون بتحصين القضاء مدخل هام لتعزيز متطلبات العدالة الاجتماعية، وان تلازم المسؤولية بالمسألة وفاعلية مؤسسات المجتمع المدني المختلفة وعلى رأسها الاحزاب وقدرتها على المراقبة والمعارضة لسياسات الحكومات ودورها في تحقيق التشريعات الناظمة للحياة السياسية، الاقتصادية والاجتماعية المناسبة لحاجات المجتمع، بالتعاون مع السلطة التشريعية اهم ركائن ضمان وجود العدالة الاجتماعية التي نريد.
مرتكزات العدالة الاجتماعية
– المساواة وعدم التمييز وتكافُئ الفرص.
– التوزيع العادل للموارد والاعباء باصلاح هيكل الاجور، الضرائب، الدعم المباشر لجيوب الفقر من محدودي الدخل والعاطلين عن العمل.
– الحق في الضمان الاجتماعي كركن رئيسي من اركان العدالة الاجتماعية.
– مراعاة حقوق الاجيال القادمة فيما يتعلق بالاعباء الناتجة عن السياسات المالية المتبعة وخاصة مديونية الحكومات وتأثيرها عليهم.
– الاستقلال في صنع القرار عامل اساسي في ارساء مرتكزات وضوابط العدالة الاجتماعية.
تعيش امتنا حالة انقسام حادة، كان اكثر تجلياتها انشاء الدولة القطرية ، التي تحكمها قوى من مصلحتها تكريس هذه التجزأة بالدفاع عنها تحت شعار الدولة القطرية اولاً!؟ حيث نجحت هذه الدولة حتى تاريخه في الحيلولة دون اي محاولة جادة لتحقيق وحدتها، استقلالها وحرية ابنائها، لبناء مجتمعاً تسود فيه العدالة الاجتماعية، في وطن يتمتع بكل هذه الميزات من عدد السكان، تاريخ قيادي، ثروات متنوعة، الارادة والصمود والعزيمة لبناء ادواته السياسة القادرة على مواجهة هذه الطبقة التي تدير شؤون الدولة القطرية وتعمل بتحالفها مع الخارج وباستبدادها في الداخل لخلق احساساً لدى العربي ان هذا الواقع غير قابل للتغيير ؟!
تحقيق وحدتنا المنشودة واستقلال سلطتنا السياسية كفيلة بتحقيق العدالة الاجتماعية التي نرى من انها ستتحقق أجلاً ام عاجلاً اذا نجحنا في معالجة كثير من القضايا وأهمها :
اولاً: التعليـــــــم
يعتبر التعليم قديماً وحديثاَ، حاجة اساسية للانسان وان توفيره بمراحله المختلفة ابتداً من المرحلة الاساسية حتى التعليم العالي مسؤولية الدولة دائماً، واستناداً الى ان التعليم وتعميمه على جميع افراد المجتمع اصبح حاجة اساسية من حاجات المجتمعات ويعتبر الاهتمام به والانفاق عليه تأكيد على ان العدالة الاجتماعية من هذه الزاوية متوفرة، بالاضافة الى ان التعليم هو القاعدة الاساسية للمجتمع السليم والسعيد الذي يكون فيه المعلم كأحد عناصر العملية التعليمية والتربوية، ركيزه اساسية من ركائز المجتمع وان الاهتمام به من كافة النواحي المتعلقة بالحرية والتأهيل والتدريب والرواتب والمزايا المختلفة من سكنية، صحية، سلامة النقل مترافقاً ذلك مع اهتمام خاص بالام ودورها التعليمي والتربوي ابتداءً من الاسرة كمؤسسة للطفل/الطالب/الانسان الذي يبدأ تأسيسه وتأهيله من الام التي تشارك الرجل في التحديات المختلفة التي تعرضت لها امتنا من جهة، ومعاناتها من تسلط الرجل والمجتمع او بالتمييز اتجاهها في مختلف المجالات من جهة اخرى، فتكافؤ الفرص مثلاً بين الرجل والمرأة خاصة والمجتمع بشكل عام، مؤشراً على العدالة الاجتماعية التي تطمح المجتمعات لارساء قواعدها .
تشير بعض الدراسات الى تدني مخرجات التعليم لدى بعض الدول العربية مقارنة مع الدول النامية، وتؤكد هذه الدراسات على ان هناك حاجة ملحة لاصلاح الانظمة التربوية لدى هذه الدول بما يكفل رفع مستوى تحصيل الطلبة، رغم ان معدلات القيد في المدارس اصبح متحققاً باستثناء السودان، جيبوتي والصومال الذي وصلت نسبة القيد فيها لسنة (2022) بواقع (79، 73.8 ، 32.
6) على التوالي فالدول العربية مطلوب منها الكثير في هذا المضمار لرفع مستوى التعليم وتطويره واحلال اساليب التعليم الحديثة بدلا من التقليدية. ان عدم المساواة بين الجنسيين في الالتحاق بالتعليم يساهم في تباطؤ نسبة النمو بالاضافة الى الاثار السلبية المترتبة على دخل ابناء المجتمع الواحد ومهاراتهم ومساهماتهم في بناء المجتمع. ان التعليم الثانوي كما في سنة (2020) وصل القيد فيه الى معدل (81.7)% وهو مؤشر افضل قياسا بالدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط المنخفض وهو اقل كثيراً بالنسبة للدول ذات الدخل المتوسط المرتفع الذي تصل نسبة القيد لديها في التعليم الثانوي الى (92.7)% اما الدول ذات الدخل المرتفع فتصل الى (106.4)%. يلعب التعليم العالي دوراً محورياً في بناء اقتصاد المعرفة، اذ يقوم برفد سوق العمل بالقوى العاملة عالية التأهيل بعد ان اصبحت المعرفة والمهارات الرفيعة، المحرك الاساسي للنهوض الاقتصادي في عالم سريع التغيير وشديد المنافسة، فقد بلغ القيد الاجمالي في مرحلة التعليم العالي بالدول العربية بنسبة (41.1)% حتى عام (2020) وهو اقل من معدل الدول ذات الدخل المتوسط المرتفع والدخل العالي. كما يعاني التعليم من نسب تمدرس في الوطن العربي وصلت في عام (2020) الى (12.4)% وهي اقل من معدلي الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة (13.9)% ودول العالم ككل (12.5)% بالاضافة الى نسب تسرب مرتفعة من المدارس وصلت الى نسبة (38)% في السودان والى (5)% في كثير من الدول العربية.
بلغ معدل الانفاق على التعليم من الناتج المحلي الاجمالي بنسبة (3.5)% وهو معدل اقل من معدله لدى الدول النامية البالغ (4.4)% ودول العالم البالغ (4.6)% اما نسبته من الانفاق الاجمالي فقد بلغ في الوطن العربي بنسبة (11.3)% ولدى الدول النامية بنسبة (15.6)% ولدى دول العالم مجتمعة بنسبة (14.3)%.
بلغت نسبة الامية لدى الدول العربية للبالغين من (15 سنة فما فوق) بنسبة (24.6)% منها للذكور بنسبة (13.7)% والباقي للاناث وللاعمار (15-24) سنة بنسبة (11.6)% للذكور و(15.9)% للاناث وهي نسبتان تتفوقان مثيلاتها في مختلف دول العالم باستثناء دول افريقيا فقد بلغت نسبة الاناث للفئة العمرية (15) سنة فما فوق حوالي (31.8)% من اجمالي عدد الاناث.
هنا تكمن المشكلة في قطاع التعليم كعنصر هام من عناصر العدالة الاجتماعية لدى لدول العربية، انعكاساً لغياب الحرية الفردية والجماعية، غياب تكافؤ الفرص والمساواة، انخفاض الانفاق على التعليم، ارتفاع نسبة (التمدرس)، التسرب ونسبة الامية وبالنتيجة مخرجات تعليم لا تساعد على التنمية المستقلة قاعدة العدالة الاجتماعية الثانية بعد الاستقلال السياسي اولاً.
ثانيــاً: الصحـــــــة
يعتبر القطاع الصحي والاهتمام فيه الي جانب التعليم مدخلاً للعدالة الاجتماعية فتوفير خدمات صحية سريعة ومناسبة تستوجب انفاقاً قادراً على تحقيق المطلوب على هذا الصعيد، فرغم ان (90)% من سكان الدول العربية حاصلون على الرعاية الصحية وهي متفاوتة من دولة الى اخرى الا انها نوعياً ما زالت دون تحقيق الامان الصحي المطلوب، فالكوادر الطبية ما زالت قليلة في كثير من الاختصاصات سواء من الاطباء او الممرضين والممرضات المؤهلات، خاصة ان الاحصاءات تشير الى عدم كفاية الكوادر الطبية مقارنة مع عدد السكان، فهناك (100) طبيب و (220) ممرض لكل مائة الف نسمة وهذا ينطبق على الاسرة والاجهزة الطبية المختلفة والادوية.
بلغ الانفاق على الصحة من الناتج المحلي الاجمالي لدى الدول العربية بنسبة (5.1)% بينما هي (12.5)% للدول ذات الدخل المرتفع و (5.3) للدول ذات الدخل المتوسط المرتفع وفي اوروبا بلغت النسبة (9.4)% والمتوسط العالمي (9.8)%.
يمثل معدل الوفيات عند الاطفال مؤشراً لمعرفة مدى كفاءة القطاع الصحي في اي دولة، فنجاعة الوقاية والاستشفاء، وتطعيم الاطفال ونوعية المياه وجودت الصرف الصحي، وتوافر اليات العلاج للامهات اثناء الحمل وما بعد الولادة، جميعها مؤشرات على متانة القطاع الصحي، فقد بلغت وفيات الاطفال الرضع في الوطن العربي بواقع (17) حالة وفاة لكل الف مولود حي، بينما هي بلغت (3) لكل الف في الدول الصناعية، وبلغ عدد حالات وفاة الاطفال العرب دون الخامس بواقع (22) طفل لكل الف طفل بينما بلغ العدد في الدول الصناعية (4) حالات وفاة فقط، رغم ان الدول العربية حققت انخفاضاً بعدد وفيات الاطفال للسنوات (2010-2020) بشكل ملموس، الا ان النسبة مازالت مرتفعة انعكاساً لانخفاض حصة القطاع من الانفاق العام.
نجحت الدول العربية في توفير مياه شرب آمنة بلغت نسبتها (95)% وهي اعلى من النسب في دول العالم وقريبة من النسبة لدى الدول الاوروبية التي بلغت (98)% لعام (2020)، لكن هذه النسبة تحمل مفارقات كَثِيرة ما بين الدول العربية النفطية وغير النفطية، بالاضافة لفروقات جوهرية بين سكان المدن وسكان الريف بنسبة هذا التأمين، اما الصرف الصحي فقد وفرته الدول العربية بنسب افضل مما هو لدى الدول النامية وقريب مما هو موجود في الدول الغربية وبنسبة وصلت الى (92)% لعام (2020).
ثالثاً: النقــل والمواصــلات
تطورت البنية التحتية للنقل في العقدين الاخيرين من القرن الحالي، انعكاساً لارتفاع حجم التجارة الدولية من جهة ولارتفاع دخل الافراد واحتياجات الاسر للتنقل داخلياً وخارجياً وارتفاع حصة السياحة من الناتج المحلي الاجمالي العالمي، وخصخصة قطاع النقل الذي بدأ بعد ثمانينيات القرن الماضي في الدول الغربية وما بعد التسعينات، في كثير من دول العالم ومنها العربية، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وكف يد الدولة عن التدخل بالاقتصاد والسوق من جهة اخرى، اذ اصبحت حصة النقل كبيرة عندما فُسح المجال امام القطاع الخاص للاستثمار في هذا القطاع، حيث شهد العالم تطوراً لهذا القطاع في الطرق البرية، والنقل الجوي والبحري على حد سواء، وقد قدرت تكاليف الاستثمار في البنية التحتية العالمية لهذا القطاع للسنوات (2009- 2030) مبلغ (11) ترليون دولار، مما فرض على الدول سياسات مالية قادرة على توفير المال والكوادر القادرة على تحقيق استراتيجيات النقل المحلي والدولي.
ان النمو الاقتصادي وتحقيق النسب المبتغاه من اي حكومة، يتطلب ان يكون الاستثمار بوسائط النقل، واحداً من الاستراتيجيات الهامة لها، اذ ان الاستثمار في النقل العام محلياً مثلاً بعد الاستثمار في الطرق والسكك الحديدية، سيساهم كثيراً في التخفيف على ميزانية الاسر التي تستهلك من ميزانيتها على وسائل النقل الكثير، من سيارات للاستخدام الشخصي او مركبات للاستخدام في نقل الركاب الذي بالاضافة الى كلفته المرتفعة وخاصة في الدول العربية التي تستورد هذه الوسيلة (المركبات) والتي يتعاظم حجم استهلاكها للمشتقات النفطية سنة بعد سنة مما شكل عبئاً اخراً على ميزانية الاسرة العربية من جهة، وعلى ميزانية الدولة وميزان المدفوعات والميزان التجاري وعجزه من جهة اخرى، فغالبية الدول العربية لم تستثمر بشكل كافي في قطاع النقل العام، للحيلولة دون تحمل هذه الاعباء المزدوجة ما بين الفرد والدولة، مما ساهم بشكل جلي في الفشل في تحقيق نسب نمو في الناتج المحلي الاجمالي مقبولة، او ساهم في تقليص الفجوة في الميزان التجاري وبالنتيجة عدم نجاح كل الخطط التي وضعتها الدولة العربية لتخفيض نسبة البطالة التي اصبحت مهددة للسلم الاهلي في الدول العربية باستثناء بعض الدول النفطية كالامارات العربية المتحدة، الكويت والسعودية وقطر، اللذين سبقوا باقي الدول العربية في توفير وسائل نقل عامة وخاصة على حد سواء برياً، جوياً وبحرياً انعكاساً لواردات النفط ومعدل دخل الفرد المرتفع قياساً ببقية ابناء الامة.
ان الدول العربية غير النفطية ما زالت تعاني من كلفة النقل والمواصلات مما يخفض طلب المستهلك على السلع والخدمات، بسبب تواضع الدخل، كما ان ارتفاع كلفة الشحن ادى الى ارتفاع كلفة السلع المستوردة او السلع التي يتم شحنها داخل الدولة العربية الواحدة، كما ان للتلوث الناتج عن استخدام عدد كبير من المركبات، يشكل تحدياً اخر للمدينة العربية التي تخلوا طرقها من وسائل النقل العام، السككي، الكهربائي بالاضافة الى ما تعانيه المدينة العربية من الضوضاء، الازدحام المروري وحوادث السير القاتلة مما جعل من البنية التحتية للدولة، بنية طاردة للاستثمار وعائقة للتنمية التي تريدها الدولة العربية.
نماذج في العدالة الاجتماعية
– استطاعت اوروبا ان تتقدم كثيراً في مفهوم العدالة حيث وفرت تعليماً متقدماً ورعاية صحية شاملة بالاضافة الى وسائل نقل عصرية وسكن آمن مترافقاً ذلك مع انخفاض في معدلات البطالة والفقر وتراجع في سياسات الاقصاء والتهميش حسبما ما ورد في التقرير السنوي للعدالة الاجتماعية الصادر عن الاتحاد الاوروبي لسنة (2015) وابرز الامثلة على ذلك كانت المانيا التي نجحت في بناء نموذج اقتصادي واجتماعي ما بعد الحرب العالمية الثانية، واستطاعت بعد ذلك في استيعاب اعباء الوحدة الالمانية بعد انهيار جدار برلين اذ استطاعت ان تقلل من معدلات البطالة والفقر الناتجة عن الوحدة وفي ذات الوقت ان تهتم بالتعليم والرعاية الصحية وان تبنى شبكات متنوعة للمواصلات مترافقاً ذلك مع حقوق اساسية للفرد من حيث حرية التعبير والمشاركة التامة بالقرار عبر الانتخابات وكل ذلك باستقلال سياسي انعكس على حاضر ومستقبل المانيا وابنائها البالغ عددهم (80) مليون نسمة.
– في التجارب غير الاوربية كانت ماليزيا، البرازيل، نموذجاً للنجاح حيث جمع بين هذه التجارب استقلال القرار السياسي وتمتع هذه الدول بقدرات بشرية ناتجة عن التعليم العالي المتقدم والرعاية الصحية التي وفرتها هذه الدول لابنائها وشبكة المواصلات التي نجحت في تنويعها، فماليزيا التي لم تكن قبل اربع عقود تعرف اكثر من زراعة الارز والمطاط وبعض البناتات والفاكهة، فقد استطاعت قيادتها السياسية بادارة محاضير محمد من تحويلها الى نموذج سياسي واقتصادي يحتذى به، فبعد ان كان معدل الفقرة يزيد عن (70)% اصبح اقل من (5)% وزاد دخل الفرد من (350) دولار سنوياً ليرتفع الى (18) الف دولار رغم اختلاف العرقيات التي يشكل الملايو (50)% من السكان والصينيون (24)% والهنود (7)%، فالاصلاح السياسي كان حاسماً في تحقيق الوحدة الوطنية رغم تعدد الديانات ايضاً، اما البطالة فقد تميزت ماليزيا انها خالية منها، حيث بلغت نسبتها بحدود (3.3)% علماً ان الدول الخالية من البطالة هي التي يبلغ معدل البطالة لديها اقل من (4)%.
– استطاعت البرازيل ان تحتل مكانة بين الدول التي حققت تجربة هامة في التنمية قائم على الديموقراطية والاصلاح الاقتصادي والانفتاح الخارجي والتوزيع الامثل لنتائج هذا النمو، اذ نجحت في انتشال (21) مليون شخص من تحت خط الفقر حيث انخفض معدله من (53.8)% الى (21.4)% ونجحت بتقليص الفجوة بين الطبقات، محققة عدالة اجتماعية قائمة على ركائز اساسية تتعلق بالنموذج الفيدرالي المستند الى دستور عام (1988) حيث تم تقسيم البرازيل الى (27) وحدة ادارية قوامها (26) ولاية تتمتع بحكم شبه ذاتي لها بالاضافة الى منطقة فيدرالية واحدة ولكل ولاية مؤسستها الخاصة (تشريعاً، تنفيذاً و قضائياً)، مستندين على الاصلاح السياسي القائم على الشفافية والاستحقاق والحكم الرشيد وتم منح المعارضة حقها كاملاً بالتعبير عن ارائها عبر وسائل الاعلام بكل حرية وباستثمار الحضور الكبير للشباب في هرم المجتمع البرازيلي والاستغلال الامثل للمياه الوفيرة (الامازون) والنفط بالاضافة الى الانتاج الزراعي والرعوي ومعادن اخرى متعددة.
– اهتمت الحكومة بالتعليم كماً وكيفاً ورفعت من نسبة الانفاق عليه من (2.7)% الى (4.5)%، اذ حصل التعليم الابتدائي على حصة الاسد من هذه الزيادة، مما رفع من المهارة في العمل وارتفاع دخول العاملين وتوج ذلك النجاح الاقتصاد وارتفاع حجم الناتج المحلي، بوضع برنامج (منحة الاسرة) حيث تم دعم الاسر التي دخل الفرد فيها اقل من (150) ريالاً برازيلياً معونة شهرية، وهنا لابد من الاشارة الى اهمية الدور الذي لعبه القائد (لولادي سيلفا) في نجاح البرازيل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
التوصيــــــات
يتضح وطبقاً للتجارب العالمية ان النجاح في تحقيق التنمية المستقلة، كان من ابرز تجليها ارساء قواعد العدالة الاجتماعية، وعلى اختلاف الاسلوب والامكانيات فان العامل المشترك كان دائماً يكمن في الارادة السياسية اولاً ودائماً، وفي وطننا الكبير الذي يحتل هذه المكانة الجغرافية، السكانية وما تمتلكه مما في باطن الارض وما فوقها، بالاضافة الى ما وصل اليه ابنائها من مكانة علمية كبيرة، احتلوها في دول الغرب اكثر من ان يحتلوها في دولتنا العربية، فأن غياب الارادة السياسية اولاً ودائماً التي يرسخها التنظيم السياسي كمنتج للفرد، والمنتج من الفرد، لم تنجح حتى تاريخه من انشأه والذي هو اولاً ودائماً مدخلنا للنهوض.
فيما يلي ابرز التوصيات التي ارى انها قد تساعد على تحقيق العدالة الاجتماعية:-
1. النضال المستمر من اجل خلق الادوات السياسية المؤمنة بوحدة الامة القائمة على الديمقراطية والشفافية في العمل وتقديم الوطن على حساب التنظيم اولاً ودائماً.
2. ايلاء التعليم الاساسي ابتداءً من الطفولة وحتى التعليم العالي الاهمية الكافية، استناداً الى ان جميع التجارب العالمية، كان التعليم حاسم في تحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة وبالنتيجة العدالة الاجتماعية.
3. ايلاء الرعاية الصحية ابتداءً من الام، الرضاعة والطفولة الاهمية الكافية، ورفع حصة القطاع الصحي من النفقات العامة بما يجعل الحصول على الرعاية الصحية مضمونة في كل زمان ومكان.
4. ايلاء النقل العام الاهمية التي تستوجبها اهداف التنمية لتحقيق مؤشرات اقتصادية جيدة في نسبة النمو، الميزان التجاري والبطالة…الخ.
5. التفاعل مع التجارب العالمية فيما يتعلق بالسياسة والاقتصاد لتحقيق مستويات مرتفعة من القضايا المتعلقة بالحرية وحق التنظيم وحقوق الانسان وتكافؤ الفرص، كمدخل هام لتحقيق العدالة الاجتماعية.
محمد احمد البشير
اللمصادر:
– التقرير الاقتصادي العربي الموحد/2022
محاسب قانوني/ باحث ومحلل اقتصادي
(سيرياهوم نيوز ٣-المؤتمر القومي العربي)