| إلياس فرحات
ليس سهلاً على الولايات المتحدة أن تجمع كوريا الجنوبية مع اليابان في ظل ذاكرة كورية شمالية وجنوبية عن الإحتلال الياباني لكوريا والفظائع التي ارتكبتها اليابان بالشعب الكوري من عام ١٩١٠ إلى عام ١٩٤٥ حين استسلمت اليابان للحلفاء بعد إلقاء قنبلتين على هيروشيما وناكازاكي مهّدتا لإنتهاء الحرب العالمية الثانية. لم تدم سعادة كوريا بنهاية الحرب الثانية. بعد سنوات قليلة، بدأت حرب كوريا التي هاجمت فيها كوريا الشمالية القسم الجنوبي الذي دافعت عنه دول عديدة على رأسها الولايات المتحدة من عام ١٩٥٠ إلى أن انتهت بتسوية ووقف إطلاق نار عام ١٩٥٣ تكرّس بموجبها تقسيم كوريا إلى شمالية تخضع للنفوذ السوفياتي وجنوبية تخضع للنفوذ الأميركي. الجدير ذكره أن قوة أميركية قوامها نحو ٣٠ ألف جندي ما تزال تنتشر في كوريا الجنوبية منذ نهاية الحرب عام ١٩٥٣ حتى يومنا هذا. كما أن سيول استجابت للضغوط الأميركية وسمحت ببناء أكبر قاعدة عسكرية أميركية خارج الولايات المتحدة على بعد ٦٠ كلم جنوب سيول بكلفة ١٠،٨ مليار دولار دفعت سيول ٩٠٪ منها. ثمة من رأى أن تقسيم كوريا منع وجود دولة كورية واحدة قد تتجاوز اليابان إقتصادياً ويمكن أن تُشكّل قوة إقليمية كبرى على الساحل الغربي للمحيط الهادئ، فكان تقسيمها أهون الشرور للعملاقين الأميركي والسوفياتي في حينه.. وتأسيساً لمشروع “العملاق الياباني” مستقبلاً أيضاً. في منتجع كامب ديفيد، إلتقى رئيس وزراء اليابان فوميو كيشيدا والرئيس الكوري الجنوبي يون سوك يو. وتحت ضغط سلاح النقد والحرب الناعمة رضخ العملاقان الآسيويان لرغبات السيد الأميركي الذي باستطاعته، بجرة قلم، أن يُحدث اضطراباً نقدياً ومالياً وإقتصادياً في كلا البلدين . وتحت مظلة ما يسمى “التهديد الصيني”، وفق حسابات واشنطن في شمال المحيط الهادئ، وافق الزعيمان الكوري الجنوبي والياباني على الأجندة الأميركية: تعاون أمني ومناورات مشتركة وقمة ثلاثية سنوية مع ما يعني ذلك من تعميق للتنسيق السياسي والدفاعي والأمني مع الولايات المتحدة. وللمفارقة كانت استجابة القيادتين اليابانية والكورية الجنوبية أسرع من استجابة دول غرب إفريقيا (إيكواس) للتدخل العسكري في النيجر! فيتنام.. “مؤهلة” في المقابل، كانت الصين تراقب بحذر ما يجري على حدودها الشرقية، من زاوية إرتيابها من كل حركة أميركية ويابانية تعيد إيقاظ كوابيس الإحتلال الياباني للصين. في هذا السياق، خاطب وزير الخارجية الصيني وانغ يي المجتمعين في كامب ديفيد بلهجة ساخرة قائلاً لهم: “مهما صبغتم شعركم باللون الأشقر أو جعلتم شكل الأنف رفيعاً، لن تصبحوا أوروبيين أو أميركيين. لا يمكنكم أن تصبحوا غربيين. يجب أن نعرف أين هي جذورنا”؟ وكما تبدو خطة الولايات المتحدة في حرب أوكرانيا مرتكزة إلى المال والسلاح من الولايات المتحدة وحلف الناتو، فإن حرباً أخرى مدعومة من الولايات المتحدة والوكيلين الجديدين ـ القديمين كوريا الجنوبية واليابان تخاض في مسرح آخر ضد الصين. أي تفكير في “ناتو باسيفيكي” يجب أن يضمن السيطرة على مضيق ملقا الفاصل بين المحيطين الهادئ والهندي، وهو ممر مائي يقع بين شبه جزيرة ماليزيا وأندونيسيا (جزيرة سومطرة) ويصل بين بحر اندمان في المحيط الهندي من جهة الشمال الغربي، وبين بحر الصين في المحيط الهادئ من جهة الجنوب الشرقي أما مسرح العمليات فلن يكون مباشراً في اليابان أو كوريا الجنوبية، فالدولة المرشحة لذلك هي فيتنام التي تُحضّر لحرب مع الصين، نفسياً وشعبياً، مع الأخذ في الإعتبار أن الوضع الاقتصادي في فيتنام متردٍ ويسمح بزج هذه الدولة في حرب ترغب بها واشنطن وتُمولها الجارتان الكورية واليابانية وثمة من يرغب من دول صغيرة في جنوب شرق آسيا بالانخراط فيها. أما الماضي النضالي الفيتنامي ضد الولايات المتحدة فلم يعد يُصرف في سوق السياسة الدولية الجديدة. ناتو باسيفيكي في أيلول/سبتمبر ٢٠٢١، وفي خضم جائحة كورونا، أعلنت الولايات المتحدة عن إنشاء تحالف “أوكوس” (AUKUS) الذي يضمها وأستراليا وبريطانيا إستعداداً للمواجهة المرتقبة مع الصين. ومنذ إنشاء هذا التحالف الثلاثي، توقع المراقبون انضمام اليابان وكوريا الجنوبية إليه وفق صيغة ما، وها هو الضم يتحقق في كامب ديفيد وبحضور الرئيس الأميركي جو بايدن. الخطوة المقبلة سوف تكون في اتجاه الفيليبين، الدولة الكاثوليكية التي شهدت أرضها أقسى المعارك بين الولايات المتحدة واليابان خلال الحرب العالمية الثانية ولا يزال الفيليبينيون يتذكرونها جيداً. آخر ما تحتاج إليه الفيليبين هو الدخول في “ناتو باسيفيكي” بسبب حاجتها الماسة لتنمية إقتصادها وانتشال شعبها من مستنقع الفقر. مضيق ملقا أي تفكير في “ناتو باسيفيكي” يجب أن يضمن السيطرة على مضيق ملقا الفاصل بين المحيطين الهادئ والهندي، وهو ممر مائي يقع بين شبه جزيرة ماليزيا وأندونيسيا (جزيرة سومطرة) ويصل بين بحر اندمان في المحيط الهندي من جهة الشمال الغربي، وبين بحر الصين في المحيط الهادئ من جهة الجنوب الشرقي. ويقدر طول مضيق ملقا بنحو 800 كلم، بينما يتراوح عرضه بين 50 و320 كلم، وتكمن أهمية المضيق استراتيجياً في كونه الممر الأساس لتزويد الصين واليابان وكوريا بالنفط حيث تعتبر هذه الدول من أكبر الدول المستهلكة في العالم. ومن حيث المبدأ تخضع الدول المحيطة بمضيق ملقا، أي أندونيسيا وماليزيا وإلى حد ما سنغافورة إلى نفوذ الإدارة الأميركية، غير أن الأمر يحتاج إلى إجراءات شكلية وفترة زمنية. يقود ذلك للقول إن ظروف المواجهة الشاملة مع الصين تحتاج وقتاً طويلاً، إلا أن الولايات المتحدة تسعى إلى وضع مخططات تهدف لتسريع التحضيرات والإستعدادات، ولعل أبرز مثال على ذلك هو الإجتماع الكوري الجنوبي ـ الياباني الذي كان صعباً في السابق، إلا أنه تحقق بقوة دفع أميركية. وما نراه من توسع للتحالفات الأميركية في الشرق الأقصى والمحيط الباسيفيكي، ومن انهماك للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي في حرب أوكرانيا، يطرح على صانعي السياسة في الولايات المتحدة إعادة النظر في الوجود العسكري الأميركي في العديد من المناطق في شتى أنحاء العالم وبينها منطقة الشرق الوسط، على قاعدة أولوية المواجهة مع روسيا في أوكرانيا حالياً ثم مواجهة الصين في المستقبل. فكرة غير جديدة اتفاق “أوكوس” وقمة كامب ديفيد الأخيرة بين الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان هي جزء من تفكير وتخطيط سياسي أميركي استراتيجي تحدثت عنه هيلاري كلينتون النافذة في بيروقراطية الحزب الديموقراطي. فقد كتبت كلينتون مقالة في “فورين بوليسي” بتاريخ ١١تشرين الأول/أكتوبر ٢٠١١ جاء فيها: ”مع إقتراب نهاية الحرب في العراق وبدء إنسحاب القوات الأميركية من أفغانستان، تقف الولايات المتحدة في نقطة محورية؛ فقد خصّصت على مدى السنوات العشر الأخيرة موارد هائلة لهذين المسرحين.. في السنوات العشر المقبلة نحتاج إلى أن نكون أذكياء في اختيار المكان الذي نستثمر فيه جهودنا وطاقاتنا، حتى نصبح في أفضل وضع للحفاظ على قيادتنا وتأمين مصالحنا وتعزيز قيمنا. وبالتالي، ستكون أهم مهام الحكم الأميركي تركيز الجهود دبلوماسياً واقتصادياً واستراتيجياً على منطقة آسيا والمحيط الهادئ حيث تكمن مصالحنا للعقود القادمة
*عميد ركن متقاعد في الجيش اللبناني
(سيرياهوم نيوز4-مركز الحوار بواشنطن)