عبد الباري عطوان
من غُرفةٍ صغيرةٍ لا تزيد مِساحتها عن ثمانيةِ أمتارٍ مُربّعة في عمارةٍ مُخصّصةٍ للمكاتب في حيّ “همرسميث” المُتواضع الواقع بأحد أحياء العاصمة البريطانيّة صدرت صحيفة “رأي اليوم” الرقميّة قبل عشر سنوات، وكان رأسُمالِها جهازيّ كمبيوتر، وكان طاقمها مُكوّنٌ من شخصين، الزّميلة مها بربار مديرة التحرير، والدّاعي لكُم بطُول العُمر رئيس التحرير كاتب هذه الافتتاحيّة، ومجموعة من الكتّاب المُتطوّعين الذين لم يتقاضوا ملّيمًا واحِدًا مُقابل مقالاتهم، بعضهم انتقل إلى رحمة الله مِثل الأستاذ الكبير عبد الحي زلوم والسيّدة الفاضلة ديانا فاخوي، والدكتور عبد الستار قاسم، والكاتب الجزائري عثمان السعدي، والبعض الآخَر ما زال مُستَمِرًّا في العطاء بالحماس نفسه، وأكثرهم لم ألتقيه شخصيًّا، ولم تربطني به إلّا روابط الأُخوّة والانتِماء والإخلاص لهذه الأُمّة العريقة، والوقوف في خندقها في أكثرِ اللّحظات التاريخيّة صُعوبةً وخُطورة.
عمليّة الانتقال من الصّحافة الورقيّة إلى الصّحافة الإلكترونيّة كانت وَعِرَةً جدًّا، ومُغامرة محفوفة بالمخاطر، فملامح الأخيرة لم تتبلور بعد وجاءت بعد عُقود، وبالأحرى قُرون، من هيمنةِ الأولى، حيث إغراءات التعوّد على الورقِ والحِبر، كان من الصّعب على شخصٍ مِثلي ما زال يكتب مقالاته بالقلم، ويجد متعةً في سماع صوت احتِكاكه بالرّقاع، ويرفض بعنادٍ، وما زال الاستِسلام للوحة الكمبيوتر، والتّضحية بإرثٍ عريق، رُغم إيماننا بأنّ الصّحافة الرقميّة ستكون أحد أبرز عناوين المُستقبل، وأنّ نِزاعَ الصّحافة الورقيّة لن يطول رُغم الضّخ الماليّ الضّخم، وغير المُجدي، لإبقائِها على قيدِ الحياة.
كثيرون راهَنوا على فشلنا، والبعض سَخِرَ منّا، وتنبّأ باندِثارنا، والبعض الثاني شنّ حملاتِ تشويهٍ واغتيالِ شخصيّةٍ ضدّنا، والبعض الثالث أشهر سيف الحجب في وجهنا، ولكن التفافَ القارِئ حولنا ودعمه لنا، واحتِضانه، وثقته العُظمى فينا كانت سِلاحنا الأقوى الذي أعطانا القُوّة والاستمراريّة والصّلابة والنّجاح ومُواجهة كُلّ الصّعاب.
جُعبتنا مليئةٌ بالأمثلة، والقصص، والمواقف الظّريفة وذات المغازي المُهمّة، وتستحقّ أن تُروَى، وحتّى لا نُطيل نختار واقعتين: الأولى زيارة لمكتبنا من قِبَل أحد الحيتان الكبيرة جدًّا في عالم البزنس والمِليارات، وكانت صدمته كبيرة، وقال إنّه توقّع أن يكون الطّابق كلّه في العمارةِ لنا، وليس غُرفة صغيرة، وأن يُستَقبل بمدير مكتب وقائد الحِراسة، وعدّة سكرتيرات جميلات، أمّا الثاني، فكان أُستاذًا جامعيًّا لكُليّة إعلامٍ في بلاده، توقّع أن تكون العمارة كُلّها لمكاتبنا، وأثلج صدرنا إنصافه لنا في مقالةٍ كتبها عن انطِباعاته على موقعه الشخصيّ في “الفيسبوك”، وواصل مُساهماته الفكريّة معنا بحماسٍ أكبر من السّابق وما زال والشّكرُ له.
أردنا أن نكون عُنوانًا، ونموذجًا، لصحافةٍ مُستقلّةٍ عن جميع الأنظمة العربيّة، وأن تنحاز صحيفتنا للقارِئ الذي اختارنا، ولقضايا أُمّتنا العادلة، والتصدّي بقوّةٍ وشراسةٍ لكُلّ القِوى والجِهات التي تُريد تدميرها، وتفتيت أراضيها، ونهب ثرواتها، واضّطِهاد مُواطنيها، وحِرصنا دائمًا وما زِلنا على عدم الخُروج عن آداب الخِلاف، والحِوار، وتجنّب الخوضِ في الأعراض والمسائل الشخصيّة، والانجِرار الى معاركٍ “دُون كوشيتيه”، وفتحنا صفحاتنا للرّأي الآخَر المُحترم، وللقارئ للتّعبير عن نفسه بحُريّةٍ لا تُقيّدها إلّا القيم الأخلاقيّة، وقوانين السّب والقذْف المُحكَمة والرّادعة في الدّولة التي نَصدُر منها، ونلتزم ببُنودها.
تجنّبنا دائمًا الابتعاد عن خلافات الأنظمة العربيّة البينيّة وما أكثرها هذه الأيّام، لأنّها خلافاتٌ مُعظمها شخصيّة وقبليّة الطّابع، ولكنّنا لم نتردّد في أخذِ المواقف الواضحة والصّارمة عندما يتعلّق الأمر بمصالح الأمّة، فلا حِياد في القضايا الأساسيّة مِثل التّطبيع، ومن المُؤسف أنّ هذا الحِياد كلّفنا الكثير، وخسرنا مُعظم الأطراف المُتصارعة والمُختلفة، إن لم يكن كلّها، لأنّ القاعدة السّائدة حاليًّا في وطننا العربيّ هي تلك التي وضع أُسسها الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب والابن من بعده “من ليس معنا فهو ضدّنا”.
يُشرّفنا أن نكشف للقارئ العزيز أن عدد “المُتعاونين” مع هذه الصّحيفة لا يزيد عدد أصابع اليد الواحدة، ونقول مُتعاونين، وليس مُوظّفين، لأنّه لا يُوجد بينهم “مُتفرّغٌ” واحِد، وجميعهم يعملون في مُؤسّسات صحافيّة أو إعلاميّة، لأنّنا ببساطةٍ لا نستطيع مُجاراة هذه المُؤسّسات ماليًّا، وتعرّض بعضهم لضُغوطٍ كبيرةٍ لقطع العلاقات معنا ولكنّهم قاوموها، ولعبوا دورًا كبيرًا في نجاحِ هذه التّجربة، ولن ننسى مُطلقًا جميلهم، وتفانيهم وإخلاصهم، رُغم المُغريات الكبيرة المصحوبة بالتّهديدات التي تعرّضوا لها لقطْع صِلاتهم المهنيّة معنا، ووصلت في بعض الحالات التّهديد في لُقمةِ العيش.
وجودنا في لندن لم “يَحمِنا” من المُضايقات والتّهديدات باعتِقالنا وطردنا، وخاصّةً من دولة الاحتِلال الإسرائيلي وأجهزته الأمنيّة، ونملك مِلَفًّا ضخمًا من الوقائع بالصّوت والصّورة، ومن المُؤسف أنهم نجحوا في منعنا من زيارة العديد من الدّول مِثل الولايات المتحدة الأمريكيّة، وأغلقوا صفحاتنا على بعض وسائل التواصل الاجتماعي، وأوقفوا الإعلانات عن موقعنا على “اليوتيوب” لحِرماننا من دَخلٍ كان يُساعد في استِمرارنا، والأخطر من ذلك أنّهم نجحوا في منعنا من الظّهور على جميع المحطّات التلفزيونيّة الغربيّة، وبعض الشّاشات العربيّة، والتّهمة دائمًا دعم “الإرهاب”، أيّ الوقوف إلى جانب المُقاومة.
لا نستطيع أن نُغرق قارئنا بالوعود أو التّطوير كعادةِ الزّملاء بعد تجاوزنا العشريّة الأُولى من عُمُرِ هذه الصّحيفة، وبدء العشريّة الثانية، وكُل ما نَعِدُ به هو الاستِمرار على النّهج نفسه وبصُورةٍ أكثر قوّة وصلابة ومهنيّة، وعدم التردّد في الانحِياز إلى قضايا أمّتنا الرئيسيّة العادلة، ومُواجهة كُلّ أعدائها بفضح مُؤامراتهم وخططهم الشيطانيّة بالحُجّة القويّة والمهنيّة العالية.
خِتامًا يُشرّفنا أن نشكر جميع الكُتّاب الذين أثروا هذه الصّحيفة بفكرهم، ومقالاتهم، ولا ننسى الزّملاء المُراسلين الأوفياء والشّجعان رغم قلّة عددهم على صُمودهم، والأصدقاء الشّرفاء الكُثُر الذين آزرونا وتضامنوا معنا طِوال أيّام هذه المسيرة الصّعبة، وهو التّضامن الذي ساعدنا لتجاوز العديد من المطبّات، ولا ننْسى في هذه العُجالة شُكر حُكومات اختلفنا معها، ورُغم ذلك لم تُسلّط سيف الحجب على رِقابنا، ربّما لأنّها تُدرك مشكورةً أن هذا السّيف، ورُغم قُوّته، يُعطي نتائج عكسيّة، في زمنِ ثورة السوشال ميديا، وسُهولة الوصول إلى المعلومة عبر طُرُقٍ عديدةٍ مُتاحةٍ للجميع، وندعو بالهدايةِ للآخرين.
أخيرًا الشُّكر كُلّه للقارئ الذي وقف معنا مُنذ اليوم الأوّل بدعمه ومُساندته، فهو المالك الحقيقي لهذه الصّحيفة، وبفضله ومُساندته استمرّت، ولا نكشف سِرًّا عندما نقول إنّ بعض القرّاء لم يتردّد مُطلقًا في الاقتِطاع من خُبزِ أطفاله، وإرسال بضعة دولارات شهريًّا تعبيرًا عن محبّته وحِرصِه، وهي هديّة لها وقعٌ لا يُمكن وصفه في نُفوسنا.
هل سنحتفل بانتِهاءِ العشريّة الثانية؟ نعم وبإذنِ الله، فالخطوة القادمة أن نجعل من “رأي اليوم” مُؤسّسة نطرح أسهمها لأهلها من القُرّاء لضمانِ استمراريّتها، ورِسالتها.. والأيّام بيننا.
وكُلّ عشريّةٍ وأنتم بألفِ ألفِ خير.
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم