| محمد نادر العمري
تشهد المنطقة الشمالية الشرقية من سورية توتراً وصراعاً سريع التواتر في أحداثه بصورة دراماتيكية غير مسبوقة، تعكس صورتها التعبيرية الأولى مدى الحالة المتصدعة للبنية الاجتماعية والديموغرافية التي باتت تسود حالة هذه المنطقة في علاقة مكوناتها من ناحية، ومن ناحية أخرى دور تأثير العامل الخارجي في التمهيد لها ومحاولة استثمارها وإدارتها بما يحقق مصالح الفواعل السياسية لهذه القوى الخارجية، أما الصورة الثانية فإنها تكمن في أهداف ومآلات هذا الصراع القائم بين العشائر العربية بمواقفها المتناقضة ومليشيات «قسد» التي استحدثت بذريعة محاربة الإرهاب وتكريس الأمر الواقع المتمثل في سلخ الجغرافية الشمالية الشرقية من سورية وتحويلها لجزيرة برية وسط نطاق جغرافي إقليمي مملوء بالصراعات الحدودية والعرقية والإيديولوجية.
إذ كان التوجه الأميركي لتفعيل استراتيجيته في سورية، البحث عن مفاعيل تبريرية لإيجاد المشروعية السياسية والعسكرية لنشر قواته ضمن هذه النطاق الجغرافي، مستغلاً توافر عوامل عدة، العامل الأول علاقاته الإيجابية بالقوى الكردية المتنوعة في إقليم كردستان العراقي والجماعات الموجودة في جبال قنديل، ورغبة هذه القوى والجماعات بتوسيع نفوذها ودورها برعاية دولية لتحقيق مصالحها القومية وفق ما تدعيه على الرغم من أن كرد سورية لم يكن لهم وجود تاريخي بها سوى بعد الحركة الكمالية في عام 1925، أما العامل الثاني فيعود لوضع العشائر العربية بحد ذاتها، فقد مرت هذه العشائر بمراحل متبدلة من الولاءات والشراكات تبعاً لاختلاف سيطرة التنظيمات على تلك المناطق بتسمياتها وإيديولوجياتها المختلفة من «الجيش الحر، جبهة النصرة، تنظيم داعش، ميليشيات قسد»، وطبيعة موقفها والعلاقة التي ربطتها بهذه التنظيمات من تقارب أو مواجهة أو حياد، وهو العامل ذاته الذي أدى لانقسام مواقف هذه العشائر فيما يتعلق بطبيعة العلاقة مع مؤسسات الدولة السورية خلال مراحل الأزمة نتيجة ظروف وبيئة رجعية أو كنتيجة لإفرازات هذه الأزمة، على حين يتجلى العامل الثالث فيما تحتويه هذه المنطقة الجغرافية من موارد وثروات باطنية وزراعية استراتيجية من شأنها توظيف هذه الإمكانات لكل من تتبع له المنطقة لتأمين متطلباته، أما العامل الرابع فقد برز من خلال تعدد الفواعل العسكرية والسياسية الداخلية والخارجية المتداخلة في هذه المنطقة والتي شهدت صراعاً بين أطرافها أو تحالفات متصدعة فرضتها الضرورة والمتغيرات.
الصراع المتنامي حتى إعداد هذه المقال والذي اندلعت شرارته بين العشائر العربية وميليشيات «قسد» على خلفية اعتقال الأخيرة متزعم ما يسمى «مجلس دير الزور العسكري» التابع لها المدعو أحمد الخبيل الملقب «أبو خولة»، لم يكن سوى سبب شكلي أو صوري، إن صح التوصيف، لهذا الصراع، إلا أن الحقيقة قد تكون مغايرة بالكامل، إذ إن خلفية هذا الصراع قد تكون ناجمة عن دوافع وأسباب مختلفة، لعل أهمها:
أولاً- شعور الاحتقان والضيق لدى العشائر العربية نتيجة عدم قدرتهم على المشاركة في إدارة مناطقهم على مختلف المستويات نتيجة تحكم القيادات الكردية التي تشكل 72 بالمئة من قادتها عناصر غريبة وفي مقدمتهم باهوز اردال، أحد أبرز قادة حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل العراقية، فضلاً عن أن المدعو مظلوم عبدي تلقى تدريباته في تلك المنطقة، رغم أن أكثر من 60 بالمئة من ميليشيا «قسد» وفصائلها المختلفة هم من القبائل العربية أبناء الجزيرة السورية.
ثانياً- ملامح اتفاق بين الولايات المتحدة الأميركية والنظام التركي على إحداث تغيير في المنطقة الشمالية الشرقية من سورية ليتلاءم مع التوجهات المشتركة للطرفين سواء من حيث عرقلة الحل السياسي أو من حيث بقاء تأثيرهم في المنطقة أو من حيث زيادة الضغوط على الدولة السورية، وملامح الاتفاق هذا يمكن ملاحظته بعد اللقاء الذي جمع كلاً من الرئيسين التركي رجب أردوغان والأميركي جو بايدن على هامش اجتماع الحلف الأطلسي الذي انعقد في لاتفيا الشهر المنصرم، ويبرز ذلك من خلال ما يلي:
– الصمت الأميركي خلال الأيام الأولى من هذا الصراع قبل إصدار بيان يتضمن الدعوة للتهدئة، ومن ثم عقد اجتماع جمع نائب مساعد وزير الخارجية في مكتب شؤون الشرق الأدنى المعني بملف سورية إيثان غولدريتش، وقائد ما يسمى التحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» اللواء جول فاول إضافة لممثلين عن ميليشيات «قوات سورية الديمقراطية– قسد» وبعض وجهاء عشائر من محافظة دير الزور.
– زيارة وفد من الكونغرس الأميركي لشمال غرب سورية وبالتحديد لريف حلب وإدلب، بتنسيق بين المخابرات التركية والأميركية وبحماية من عناصر «هيئة تحرير الشام».
– تزامن تحرك القوات التابعة للنظام التركي وبشكل خاص ما يعرف بـ«الجيش الوطني» مع التصعيد الذي شهدته الجزيرة السورية، وهذا التحرك استهدف مدينة منبج بالذات بما تمثله هذه المدينة من تهديد استراتيجي لمدينة حلب، التي مازالت محط اهتمام وسعي النظام التركي، ولاسيما بعد مساعي هذا النظام لاستكمال التغيير الديموغرافي وطرح مشروع ما يسمى بـ«إحياء حلب» ضمن التوجه التركي لتكريس خريطة «الميثاق المللي»، وهو ما دفع كل من سلاحي الجو الروسي والسوري لوقف تمدد هذه الميلشيات في منبج مستغلة واقع التصعيد لإحداث تغيير في موازين القوى.
– مطالبة معظم العشائر بتشكيل أجسام عسكرية في مناطق الجزيرة تحت مسمى «جيش قوات القبائل والعشائر» وبتنسيق مع قوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.
هذه المعطيات تجعلنا أمام عدة سيناريوهات محتملة لتطور طبيعة هذا الصراع ومحددات مساره وفق ثلاثة سيناريوهات:
السيناريو الأول، يستند إلى مقوم رغبة الولايات المتحدة الأميركية في زيادة الضغط على الدولة السورية، من خلال تمكين علاقاتها مع العشائر ومنحها المزيد من التأثير والدور بما يقلص نفوذ «قسد» دون التخلي عنها، ولكن بشكل يرضي المخاوف التركية من وجود «قسد» على حدودها، ويزيد من التنسيق الأميركي التركي ضمن الخريطة الشمالية بأكملها، وهو ما يتيح للولايات المتحدة الأميركية بنشر ميليشيات «قسد» على الحدود السورية العراقية في الوقت الذي قامت به بنشر بعض قوات البشمركة من الجانب العراقي.
السيناريو الثاني، يعتمد على عاملين: الأول مرتبط بمدى قدرة واشنطن على إدارة الصراعات بتلك المنطقة، والثاني متمثل بمدى رغبة العشائر في التوجه نحو التحالف مع واشنطن أو دمشق، وهو ما قد يخلق واقعاً متناقضاً ومختلفاً عليه بين المكونات العشائرية التي لا تتبنى توجهاً أو موقفاً واحداً، فيما يتعلق بتشكيل قوات العشائر العربية على غرار «قسد» لتكون حليفة لواشنطن، تساهم في تنفيذ الحزام العشائري الممتد من البوكمال حتى منطقة التنف.
السيناريو الثالث يكمن في تدحرج الأوضاع بشكل لا يمكن إدارته والتحكم به، وهو ما يجعل المنطقة في دائرة اقتتال خطيرة تمهد لعودة داعش إلى المنطقة بما يسهم في زيادة القوات التركية والأميركية في المنطقة، بذريعة الحفاظ على الأمن ومنع عودة داعش.
بكل الأحوال فإن تحرير المنطقة لا يمكن أن يتم فقط بالسعي لمحاربة «قسد»، بل الداعم الرئيس لهذه المنطقة وهي القوات الأميركية التي تتمركز في مناطق قريبة جداً من نقاط الاشتباك، وبالتحديد «ذيبان» التي لا تبعد سوى بضعة كيلو مترات عن حقل العمر المحتل، وعلى القوات العشائرية أن تحترس من المخطط الأميركي الذي يريد ربط جغرافية الشرق من سورية بجغرافية الأنبار غرب العراق، مستغلة الامتداد الديموغرافي للعشائر لإغلاق الحدود السورية العراقية، وهنا لا نقصد أبداً التشكيك بوطنية العشائر المطالبة اليوم من قبل كل الشعب السوري برفع العلم السوري فقط، وتسليم المناطق لوحدات الجيش، وعدم مساندة الأميركي في تكتيكاته الخبيثة، وإلا فإن المشهد لن يكون سوى المزيد من «تحالفات متصدعة ومصالح متبدلة وإعادة توظيف للصراع».
سيرياهوم نيوز3 – الوطن