أخيراً، قدّم حزب الله روايةً كاملة موثّقة لتحرير جنوب لبنان بعد ربع قرن تقريباً (عام 2000)، وذلك من خلال وثائقي «ثلاثة أيام وعقدان» الذي أعدّه الإعلام الحربي في المقاومة الإسلامية بالتعاون مع مؤسسة «حقيقت» من الجمهورية الإسلامية في إيران. يتوزّع الوثائقي على عشر حلقات تبدأ من إطلاق المرشح لرئاسة حكومة العدو إيهودا باراك في آذار 1999 وعداً بالانسحاب من جنوب لبنان خلال عام في حال فوزه، وتلا ذلك رفض الحكومة اللبنانية مقترحات رئيس الوزراء حينها بنيامين نتنياهو للتفاوض حول الانسحاب.

كان التحرير فعلاً تسلسُلياً وصل إلى ذروته في 25 أيار من عام 2000، فالخط البياني للاحتلال الإسرائيلي كان انحدارياً مع تصاعد ثابت لأنشطة المقاومة كمّاً ونوعاً. فقد شهدت المرحلة بين عامي 1982 و 2000 ما مجموعه حوالي 6000 عملية عسكرية للمقاومة الإسلامية وحدها (عدا عمليات باقي حركات المقاومة) تخلّلها أكثر من 30 ألف فعل عسكري (هذه الأرقام بحسب أرشيف المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق)، ومن ضمنها إفشال المقاومة لعمليات حربية للعدو عام 1993 (تصفية الحساب) وعام 1996 (عناقيد الغضب)، ما وضع الردع الإسرائيلي أمام أسئلة حرجة بمواجهة عدو لا يشبه الجيوش العربية المهزومة. أنتج هذا الضغط الزاحف على الاحتلال وعملائه قبل التحرير سلسلة انسحابات من مواقع على تخوم المنطقة المحتلة (مواقع المحيسبات، الصلعة، علمان الشومرية، عرمتى، تومات نيحا، سجد…) أنتجت تداعيات نفسية وسياسية وميدانية خرجت عن سيطرة الاحتلال وانتقلت فيها المقاومة نحو المبادرة المتواصلة، ما جعل بنية الاحتلال تتحطّم ببطء إلى أن تداعت خلال الأيام الثلاثة من التحرير.

تضمّن الوثائقي سرداً متكاملاً مدعّماً بمقابلات خاصة (بما فيها مع الأمين العام لحزب الله)، ووثائق تُنشر للمرة الأولى، وجهداً توثيقياً كبيراً سمح بتتبّع أحداث التحرير بالساعات والأيام على المسارات العسكرية والأمنية والشعبية والسياسية. وقد أتاح جمع هذه الأحداث ومزامنتها فهمَ التفاعل الديناميكي بين برامج عمل المقاومة والعدو، وهو تفاعل كان يجري تحت ضغوط الوقت والمخاطر والغموض. في هذا المقال نستخلص 10 ملاحظات مفتاحية حول التحرير وفق ما ظهر في الوثائقي.

1. التراكم والتعلّم:
ظهرت فكرة التحرير الشعبي في شباط 1999 بعدما تجرّأ 3 شبان على اقتلاع الشريط الشائك الذي وضعته قوات الاحتلال الإسرائيلي لضم قرية أرنون إلى المنطقة المحتلة، وذلك بالرغم من تهديدات الاحتلال، ما كشف عن فجوة في السلوك الإسرائيلي مسّت بهيبته. يومها تمكّن جمعٌ من أهالي المنطقة من إعادة فتح الطريق نحو البلدة وإعادتها إلى المناطق المحرّرة تحت عدسة الكاميرات مع كل مشاعر التحدّي وكسر إرادة المحتل. كان ذلك الحدث من ناحية ميدانية شديد التواضع ولكنه من ناحية نفسية كان محورياً بفعل دور الإعلام والخطاب المصاحب له في وقت بدأ فيه الحديث الإسرائيلي عن الانسحاب من جنوب لبنان، أي إن الوعي الشعبي العام كان دخل بالفعل زمن الانتصار والتحرير. بقيت حادثة أرنون حاضرة في الوجدان العام للجنوبيين وتمّ استرجاعها وهم يقتلعون العوائق ويستعيدون قراهم المحتلة مع بداية أيّام التحرير بعد عام و3 أشهر. لكن ما كان يمكن لتجربة التحرير الشعبي أن تُستنسخ من دون مظلة الردع الصاروخي للمقاومة التي تكرّست في نيسان 1996 وإلا لما تردّد جيش الاحتلال في استهداف قوافل المدنيين وإحباط تقدّمهم نحو المناطق المحتلة. من هنا يتبيّن أن تصورات الناس لا تصنعها معارك كبرى فقط بل منجزات متراكمة، بما في ذلك غير المخطّط لها، يغذّي بعضها بعضاً. ثم إن التراكم يُبنى على الإخفاق أيضاً، إذ يكشف الوثائقي أنه في بداية أيار 2000 جرت محاولة لتنفيذ عملية أسر كبيرة على طريق كوكبا ولكنها انكشفت وأُلغيت، إلا أن الإجراءات التحضيرية لها تبدو مشابهة لما جرى لاحقاً في عمليات الأسر الناجحة بعد التحرير، ولذا من المرجّح أن تكون الاستعدادات الواسعة لعملية كوكبا قدّمت دروساً للعمليات التي تلت.

2. يد القدر:
كان لاصطدام مروحيتين للعدو متجهتين إلى لبنان ومقتل 73 جندياً إسرائيلياً على متنها في شباط 1997 أثر تحفيزي لتيار الانسحاب من لبنان. بعد الحادثة بأربعة أشهر ظهرت في الكيان «حركة الأمهات الأربع» التي أطلقت حملات شعبية للمطالبة بانسحاب الجيش من لبنان. وقد عزّزت هذه الأحداث طرح الانسحاب من طرف واحد بعد فكرة الانسحاب المشروط. دفع تأثير حركة الأمهات الأربع بقائد قوات الاحتلال في جنوب لبنان إيرز غيرشتاين، قبل أن تقتله المقاومة، إلى اعتبار الحركة توهيناً لعزيمة العملاء وتشجيعاً للمقاومة. لذلك غالباً ما تظهر في أي صراع أحداث وآثار غير متوقّعة تعكس مصادفات أو سوء حسابات أو عناية وموفقية إلهيتيْن (من مندرجات الإيمان بالغيب) تعزّز أو تكبح المسارات المخطّط لها. مثلاً، في الأيام الأخيرة للتحرير كاد موكب قيادي للمقاومة أن يدخل موقع بلاط الملاصق للحدود مع فلسطين المحتلة ولكنه آثر إكمال الطريق نحو القرى المسيحية المحررة لضمان الإجراءات الميدانية الرامية إلى طمأنة سكانها (كان باراك مهتماً في الأسابيع الأخيرة بالسعي لاغتيال المسؤول الجهادي لحزب الله عماد مغنية الذي تسلّم مسؤوليته هذه قبل تسعة أشهر من التحرير). بعدها مباشرة اتجهت قوة من المقاومة نحو الموقع المذكور الذي لم يكن الجنود الصهاينة قد انسحبوا منه بعد فهاجمت مروحيات العدو القوة، ما أدّى إلى استشهاد وإصابة معظم أفرادها.

3. المنافسة على الوعي:
في أكثر من محطة من الوثائقي يظهر أن حزب الله تمكّن من بثّ درجة عالية من الرعب والإحباط في صفوف العملاء والصهاينة تتجاوز بكثير حجم الخسائر المادية التي عانوا منها، فالجهود المرتبطة بالوعي كانت ممنهجة في عمل المقاومة حيث سبقت وواكبت وتبعت الأعمال العسكرية. وقد اشتملت هذه الجهود على ضربات ميدانية نوعية وُثّقت بحرفية من خلال كاميرات الإعلام الحربي ثم يتولّى السيد نصرالله دمج كل ذلك في خطاب شديد الدقة والاتساق والهيبة. مثلاً، كان لدى المقاومة في عام 1998 برنامج عمل في محور جزين للضغط المكثّف على العملاء فجرى التركيز على: استهداف خطوط الإمداد الإسرائيلية المحدودة لجعل العملاء يشعرون بأنهم متروكون لمصيرهم، واغتيال قيادات العملاء ولا سيما بالعبوات الجانبية، وبثّ مقاطع الفيديو التي توثّق العمليات وخطابات للسيد نصرالله لبثّ الهلع والرعب في نفوس العملاء ودفعهم نحو الفرار، وبالمحصّلة تفكّك الفوج العشرون لميليشيا العملاء وتحرّرت جزين. كما شملت حرب الوعي فهماً معمّقاً للجمهور الإسرائيلي والعملية السياسية داخل الكيان، وهكذا تم تنفيذ عملية نوعية في موقع بيت ياحون قبيل الانتخابات الإسرائيلية في 17 أيار 1999 جرى فيها اغتنام آلية عسكرية إسرائيلية ونقلها إلى بيروت وسط احتفال شعبي خطب فيه السيد نصرالله قائلاً: «باراك إن فاز أوهن من بيت العنكبوت»، وهي عبارة ستُكرّر في خطاب التحرير يوم 25 أيار 2000. فتوقيت العمل العسكري يمكن أن يضخّم أثره في عقول المستهدفين، وهذا ما اعتمدته المقاومة للحد من الفجوة المادية مع العدو.

كذلك ركّزت المقاومة في مجال الوعي على تأثير مشاهد التفجير بهدف تحقيق صدمة عميقة في وعي العدو وتصوراته وتالياً قراراته. وقد تجلّى ذلك في تفجير موقع عرمتى ومحاولة مماثلة لموقع البيّاضة قُبيل أيام من التحرير ثم تفجير مواقع الاحتلال بعد إنجاز التحرير. من المحتمل أن يكون قادة المقاومة قد أدركوا الأثر النفسي الهائل للأعمال التفجيرية بعد تجارب تفجير مقرات العدو الإسرائيلي والقوات المتعددة الجنسيات خلال ثمانينيات القرن الماضي.

يمكن اعتبار الوثائقي جزءاً من المعرفة التحرّرية أو المقاوِمة، حيث أنتج معرفةً حوّلت أهل الأرض المحتلة من موضوعات أو أشياء إلى ذوات فاعلة فاهمة وأخرجها من عتمة التغييب إلى فضاءات الاعتراف بها وبقيمتها وبتاريخها وبتجربتها في مقارعة المحتلين

4. المشروعية السياسية:
كشف الوثائقي عن استفادة حزب الله من كتلته البرلمانية في مواكبة الجهود العسكرية الميدانية. وكان الحزب منذ عام 1992 يؤكّد أن مشاركته في الانتخابات النيابية تهدف في المقام الأول إلى تأكيد مشروعية المقاومة سياسياً. تمظهر ذلك في تحرير منطقة جزين حيث اجتمع نواب من كتلة الوفاء للمقاومة قبيل وبعد التحرير مع فعاليات مسيحية من جزين، أو خلال التحرير في القرى المسيحية في قضاء بنت جبيل، لبثّ الطمأنينة والتأكيد على موقف الحزب حول الشراكة الوطنية ومرجعية الدولة في إدارة المناطق المحرّرة. كما برزت مشاركة نواب للحزب (ولا سيّما النائب نزيه منصور) في تقدّم صفوف المواطنين ومرافقتهم خلال التحرير الشعبي، ما زخّم من الاندفاعة الشعبية وسرّع حركة الدخول إلى القرى وفرار العملاء.

5. السلم الأهلي:
التحرير في عقل المقاومة مفهوم يتجاوز طرد الاحتلال ميدانياً، فهو غاية سياسية شاملة يراد من خلالها لأهل الأرض أن يعيشوا معاً وأن يحلّ الاستقرار الداخلي وتزداد حصانة المجتمع اللبناني. وفي هذا السياق يستذكر الوثائقي خطاباً للسيد نصرالله في عام 1999 يكشف فيه أن المقاومة كانت قادرة على تحرير جزين قبل انسحاب العملاء ولكنها تفادت ذلك بسبب التركيبة الطائفية للمنطقة وما يمكن أن يولّده ذلك من هواجس وتساؤلات خاطئة. وفي الأشهر الأخيرة انشغلت المقاومة في كيفية منع الاحتلال من إقامة حرس حدود أو حزام أمني من العملاء بما قد يؤدي إلى قتال لبناني لبناني بصبغة طائفية بعد الانسحاب. وحرصت المقاومة على عدم التعرّض بالأذى للعملاء المستسلمين (ينتمون إلى طوائف متعددة) وسارعت بتسليمهم للقوى الأمنية اللبنانية وأكّدت على تحييد عائلاتهم عن أيّ أذية وهو ما أشاع مناخات الأمن الاجتماعي في الجنوب وأضفى مصداقية عالية على أخلاقيات المقاومة التي كان يراد لها أن تتحوّل إلى ثقافة اجتماعية عامة.

6. «رعب أكثر ودم أقل» لتفكيك ميليشيا العملاء:
منذ بدء الحديث عن الانسحاب سرى القلق في ميليشيا العملاء فيما كان الاحتلال يريد بقاءهم إمّا لبناء منطقة أمنية وإمّا لتأجيل الانسحاب الكامل لحين إتمام الأمم المتحدة جهوزيتها لتظهير الانسحاب وكأنه استجابة للقرار 425. وفي هذا السياق التقى رئيس حكومة العدو ورئيس أركان جيشه أكثر من مرة خلال عامي 1999 و2000 مع قادة العملاء القلقين بشدة بهدف طمأنتهم وتثبيتهم. في المقابل، ركّزت المقاومة في الأشهر الأخيرة على تفكيك الميليشيا العميلة بالجمع بين طمأنة البيئة الخاصة بهم لعزلهم، وتكثيف العمل الأمني والعسكري ضدهم بالتوازي مع حملة وعي عبر خطب الأمين العام وكاميرا الإعلام الحربي. وهكذا ظهرت فكرة «رعب أكثر ودم أقل» حيث جرى منح أهمية متساوية لاستهداف الصهاينة والعملاء، وكان لاغتيال كبير العملاء وأكثرهم حصانة، عقل هاشم، أثر هائل في بدء عملية التفكّك. وقد شمل برنامج عمل المقاومة حينها قصف مواقع العملاء على طول الجبهة وقتل قياداتهم بالعبوات مع تشجيع العملاء على الفرار وزرع الشك حول النوايا الإسرائيلية، وهنا جرت الاستفادة من السلوك الإسرائيلي بترك عملاء منطقة جزين لمصيرهم. فبعد فشل الانسحاب من خلال اتفاق مع سوريا والاتجاه نحو تغطية الانسحاب بتطبيق القرار 425، أكّدت قيادة المقاومة في أحد اجتماعاتها نهاية شهر نيسان ما كانت قرّرته قبل ذلك في شباط من ضرورة تفكيك ميليشيا العملاء قبل اكتمال الانسحاب الإسرائيلي. وشملت القرارات تدمير موقعَي العملاء في عرمتى والبياضة وتفجيرهما، وهو ما تحقّق في عرمتى وأدّى إلى تحرير بلدة عرمتى وزرع الهلع والإحباط في صفوف العملاء.

7. آلية اتخاذ القرار الجهادي:
كشف الوثائقي بشكل نادر عن جزء من عملية صناعة القرار الجهادي في المقاومة من خلال عرض مقاطع من محاضر اجتماعات المجلس الجهادي لحزب الله برئاسة الأمين العام السيد حسن نصرالله لمواكبة متطلبات مرحلة التحرير. ويظهر من الأجزاء المعروضة أن القرارات اتُّخذت بناءً على معلومات متعددة المصادر تفضي إلى توليد سيناريوهات وترجيحات ثم تحديد برامج عمل مرتبطة بكل سيناريو. كذلك بدا واضحاً، نتيجة تسارع الأحداث في الأشهر الأخيرة التي سبقت التحرير، وجود مرونة عالية في مراجعة التقديرات والإجراءات لتتوافق مع الأهداف والوقائع على حدّ سواء. ويظهر أن النقاش يُختتم عادة بمداخلة استخلاصية للأمين العام يوجز فيها نتائج النقاش والخطوط التوجيهية للعمل الميداني. وقد أظهرت محاضر الجلسات الجهادية جزءاً من عقل الحزب التحليلي والتخطيطي وحرصه على تجنّب الارتجال وما يبذله من جهد لفهم العدو وتصميم الخطوات للتأثير في تصوراته والتلاعب بحساباته لدفعه للتصرّف بطريقة محدّدة وتعطيل خططه.

مثلاً، في جلسة تلت وصول باراك إلى رئاسة الحكومة كان تقدير قيادة الحزب أنه من المستبعد أن ينفّذ باراك تعهّده بالانسحاب خلال عام وأنّ الأمر كان لأسباب انتخابية. وبناءً عليه، كان القرار بتفعيل العمليات واستهداف عمق المنطقة المحتلة وتكثيف ضرب جنود العدو وصولاً إلى الأسر، كي لا تبرد الجبهة كما تطمح إدارة كلينتون الداعمة لباراك. أمّا في حال لم يكن العدو بصدد لا التصعيد ولا الانسحاب، أي إبقاء الأمر القائم، فالقرار كان بالعمل لجرّ العدو إلى مغامرة. لاحقاً بدا أن خيار الانسحاب جدّي وأن العدو يفكّر في إبقاء قوات ميليشيا العملاء في منطقة الشريط المحتل، وهكذا توصّل اجتماع في كانون الثاني 2000 إلى اعتبار ميليشيا العملاء مرتكزاً في كل سيناريوهات الانسحاب الإسرائيلي (كعب أخيل) ولذا جرى إقرار مقاربة «رعب أكثر ودم أقل» التي تضمّنت رفع منسوب استهداف جنود العملاء ومعاملتهم كالإسرائيليين والتركيز على قتل قياداتهم بهدف الإمعان في تقويض العملاء معنوياً بما يفضي إلى تفكيك الميليشيا قبل اكتمال انسحاب العدو. حينها التقى باراك قادة العملاء لتثبيتهم وعاد لمحاولة التفاوض مع سوريا. وفي جلسة 20 شباط 2000 استمرّت قيادة المقاومة في تحديث تقديراتها وفق تسارع الأحداث، حيث بدا العدو في أزمة حقيقية لجهة كيفية إنجاز «انسحاب مشرّف». وهنا ظهر سيناريو أن يلجأ العدو إلى حرب واسعة يليها تدخّل دولي، ولذا أُعلنت حالة التأهّب القصوى لأربعة أشهر. وكذلك ظهر سيناريوهان للانسحاب، جزئي وكامل، وفي كليهما كان العدو في وضع حرج، وبناءً على ذلك وُضعت توجيهات ميدانية لكلا السيناريوهين.

تضمّن الوثائقي سرداً متكاملاً مدعّماً بمقابلات خاصة (بما فيها مع الأمين العام لحزب الله)، ووثائق تُنشر للمرة الأولى، وجهداً توثيقياً كبيراً سمح بتتبّع أحداث التحرير بالساعات والأيام على المسارات العسكرية والأمنية والشعبية والسياسية

8. الصراع على شكل الانسحاب:
كان العدو أمام معضلة حقيقية حول طبيعة الانسحاب وشكله. في البداية كان الخيار المفضّل هو الانسحاب الكامل ولكن من خلال الاتفاق مع سوريا (خطة الأفق الجديد)، وهو احتمال سقط مع فشل المفاوضات السورية الإسرائيلية برعاية أميركية في 9 كانون الثاني 2000، أو تنفيذ انسحاب جزئي مع ترك ميليشيا العملاء لإدارة الشريط المحتل. لاحقاً، ظهرت خطة أخرى للاحتلال تتضمّن انسحاباً سريعاً دون اتفاق ودون إعلام ميليشيا العملاء أو إشعار المقاومة (خطة غسق الفجر). كانت هذه السيناريوهات موضع تداول في جلسات قيادة المقاومة في شهرَي شباط ونيسان، وكان القلق الأساسي من سيناريو الانسحاب الجزئي الذي يُراد أن يتبعه اقتتال لبناني لبناني يأخذ شكلاً طائفياً، ولذا جرى التأكيد على حملة «رعب أكثر ودم أقل» لمنع تحقق فكرة «حرس القرى»، أمّا إذا حاول العدو إقامة حزام أمني للعملاء فالردّ سيكون بعملية شاملة.

بعدها ظهرت لدى الاحتلال فكرة أن يجري تصوير الانسحاب على أنه تطبيق للقرار الدولي 425 وعلى هذا الأساس سارع العدو إلى عرض المسألة على الأمم المتحدة. وفي هذا السبيل كان الاحتلال بحاجة إلى تثبيت العملاء لكسب الوقت حتى اكتمال إجراءات الأمم المتحدة، فيما أرادت المقاومة للانسحاب أن يكون تحت النار ومذلّاً. وقد سارعت الأمم المتحدة لإنجاز الخطوات الدبلوماسية والقانونية اللازمة (بما فيها اعتبار مزارع شبعا سورية قبل أسبوع من بدء التحرير تلاها في 20 أيار افتتاح المقاومة عملياتها في شبعا لتثبيت لبنانيتها). في 23 أيار كان يُفترض أن يعرض الأمين العام للأمم المتحدة كوفي أنان تقرير تيري رود لارسن أمام مجلس الأمن ليبدأ رسمياً تنفيذ القرار 425 الذي كان متوقّعاً أن يستمر لمدة شهر ينتهي خلالها خبراء الأمم المتحدة من ترسيم الحدود. وقد جهدت القوات الدولية لاعتراض تقدّم المواطنين نحو بلدة القنطرة في أوّل أيام التحرير بل وطلبت قبله بأيام الاجتماع مع بعض ناشطي المقاومة (التعبئة العامة) للضغط عليهم لعدم محاولة الدخول إلى القنطرة وذلك بناءً على معلومات لديها بوجود مثل هذا المخطّط.
لم يحرّض الحزب الناس على دخول القنطرة ولكنه كان قد أوجد كل البيئة المؤاتية ليفعلوا ذلك بأن أراهم أن التحرير في متناولهم. بدأ الحزب يعتمد التحرير الشعبي رسمياً بعد نجاح اليوم الأوّل من خلال التدرّج والقضم لعدم استدراج ردّ إسرائيلي كبير ولإشاعة الثقة والزخم الشعبي. في 22 أيار حاول العدو وقف تدفّق الناس لتثبيت الوضع لمدة شهر في ظل انهيار العملاء، لكنه واجه معضلة نقص عديد العملاء والخشية من استهداف المدنيين، فجرى حصر إطلاق النار للترهيب، وحينما سقط شهداء مدنيّون قرب العديسة هاجمت مجموعات من المقاومة دبابة للعدو شاركت في القصف. وهكذا أربك الطابع الشعبي لأوّل أيّام التحرير التقديرات الاستخبارية الإسرائيلية فلم تلحظ شيئاً على مستوى منظمة حزب الله ككل، ولذا اعتبرت أن حدث الدخول إلى القنطرة كان منعزلاً وانتهى. في المحصّلة، أدّى انطلاق التحرير الشعبي وسرعة تفكّك العملاء (تكثيف العمليات والحرب النفسية) وفشل العدو في إدارة خروج قوّاته (تسليم مواقع معرّضة للخطر للعملاء المنهزمين نفسياً، ورفض نشر ألوية إضافية بانتظار إجراءات الأمم المتحدة) في تحقيق الشكل الأمثل لانسحاب إسرائيلي مذلّ ومتخبّط وتحت النار وأقدام الجنوبيين.

9. التكامل العسكري المدني:
يظهر في الوثائقي مدى التشبيك والتكامل بين أجهزة ووحدات حزب الله كافة العسكرية والأمنية والمدنية. ظهر التكامل الأمني العسكري من خلال إنشاء «قِسم العبّاس» للعمل النفوذي والأمني العملياتي في المنطقة المحتلة عام 1994، وقد تمكّنت الأجهزة الأمنية للمقاومة من كشف آليات عمل الأجهزة الأمنية الثلاثة للعدو ونفّذت مسوحات شاملة للقرى المحتلة وتمكّنت من التعرّف إلى عدد من شبكات العملاء. بالتوازي مع هذه الجهود الأمنية، بدأ الجهاز التنفيدي (المدني) للحزب منذ بداية عام 2000 إعداد الخطط والأدوات لمواكبة التحرير المتوقّع إعلامياً وشعبياً إضافة إلى مسح للحاجات الإنمائية للقرى وقطاعات الخدمات فيها تمهيداً للتدخّل السريع فور إنجاز التحرير.
وحين برزت أثناء التحرير الشعبي حاجة طارئة إلى تحشيد أهالي القرى المحتلّة المقيمين خارجها للتوجّه خلال ساعات بمواكب شعبية نحو قراهم للضغط على الاحتلال والعملاء، نجح الحزب في ذلك بفضل داتا الانتخابات الكبيرة المتوفّرة لديه عن أبناء المنطقة المحتلة (الانتماء السياسي، أماكن السكن خارج المنطقة المحتلة، معلومات للاتصال بها) حيث جرى تأسيس «قطاع الشريط» منذ عام 1992 لمواكبة الانتخابات النيابية حينها ثم تولّى أدواراً سياسية ومدنية وأمنية بالتنسيق مع تشكيلات المقاومة. وفي تجربة أخرى، فيما كانت الأجهزة العسكرية للمقاومة، خلال أيام التحرير، منهمكةً في الضغط الميداني على الاحتلال والعملاء، كانت قيادات تنظيمية وسياسية للحزب تدير حركة الناس على الأرض وتنسّقها وفق تفاعل لحظوي مع المستوى الجهادي، وهكذا برز دور مفتاحي وجريء في أيام التحرير لشخصيات سياسية وتنظيمية وعلمائية من حزب الله واكبت وأدارت حركة التحرير الشعبي.

10. الروافع العقائدية:
يؤكّد الوثائقي على أصالة الجانب الإيماني العقائدي في تحقيق الانتصار حتى لا يختفي تحت وطأة المنجزات التكتيكية والعملانية للمقاومة. ويردُ في الوثائقي أنّ النصر ليس نتيجة القتال بذاته بل نتيجة أداء التكليف بالقتال، والتكليف هنا هو وجوب الجهاد بوجه المحتلين المعتدين بإمضاء من الولي الفقيه. ويُظهر الوثائقي ثقة المقاومة بالوليّ الفقيه وحكمته وتبصّره حيث يكشف السيد نصرالله عن زيارة قيادة المقاومة لإيران قبيل التحرير ولقاء السيد علي الخامنئي الذي حسم بحصول الانسحاب الإسرائيلي بعد أشهر فيما كان الرأي الغالب لدى قيادة المقاومة يستبعد ذلك. ويظهر في الوثائقي اهتمامُ الحزب، ضمن الاستعدادات للتحرير، باتخاذ إجراءات لتعيين أئمة للمساجد في القرى المحتلة فور تحريرها، فالمسجد ورجل الدين هما من نقاط الثقل في إدارة المجالين الاجتماعي والشعبي وفي تشكيل الثقافة اليومية والدينية للناس بحيث تكون المقاومة في مركزها.

خاتمة
لقد نجح الوثائقي في استعادة مشاعر الحدث وحفظها وإشراك الناس العاديين فيه، فأخرجهم من كونهم جمهوراً إلى كونهم شركاء في رواية الحدث. وابتداءً من الحلقة الخامسة، حين بدأ التحرير الشعبي، أصبح الناس في مركز السرد، فنرى الوجوه، والضحكات، والدبكة، ودموع الفرح، والزغاريد، ونثر الورد والأرزّ، ولقاء الأحبّة، والدعاء للمقاومة، والعز، وروح الشعب الواحدة. يبدو الناس كأنهم عاجزون عن استيعاب الحدث ومندهشون كما لو كانوا أمام إحدى معجزات الأنبياء، كمن استيقظ للتوّ من كابوس، فيصرخ عجوز نيابة عن جيل كامل: «كأنّي ولِدت هلق». وما زال الزخم العاطفي الوجداني للتحرير ملحوظاً كما ظهر في شهادات المشاركين في الوثائقي وانفعالاتهم،فبدا التحرير حدثاً ندياً طرياً كأنه حصل البارحة وليس قبل 23 عاماً. وفي السرد ظهرت المرأة راوية في الوثائقي وأسيرة شاهدة أو مشاركة في أيام التحرير تتقدّم الصفوف مع رجال القرى.

يمكن اعتبار الوثائقي جزءاً من المعرفة التحرّرية أو المقاوِمة، حيث أنتج معرفةً حوّلت أهل الأرض المحتلة من موضوعات أو أشياء إلى ذوات فاعلة فاهمة وأخرجها من عتمة التغييب إلى فضاءات الاعتراف بها وبقيمتها وبتاريخها وبتجربتها في مقارعة المحتلين، وظهرت العلاقة بين ظلم الاحتلال وقهره وقيام الناس للدفاع عن وجودهم وكرامتهم، فالمقاومة ليست أداة لقوة إقليمية ولا ذريعة لمغانم محلية. وكشف الوثائقي عن تعقيدات العمل المقاوم والتشبيك الواسع لمختلف أذرع المقاومة للاستفادة من كل عناصر القوة بطريقة حيوية وديناميكية (عسكرية، أمنية، معلوماتية، نفسية، ثقافية وسياسية) وهو ما منحها أفضلية على العدو أفضت إلى إنجاز التحرير وفق صيغة مثلى. وهكذا طبّقت المقاومة مبكراً نموذجاً للحرب التركيبية/الهجينة وفق مواردها المتاحة وأهدافها المتوخّاة.
لقد أحدث التحرير صدمة صاعقة في النظام الإقليمي لما بعد الحرب الباردة حيث انكسرت هيبة الركيزة الأمنية للقوة الأميركية، أي كيان العدو، وهو ما حفّز سلسلة من الارتدادات الإقليمية كان أقربها اندلاع انتفاضة الأقصى وتحرير قطاع غزة في فلسطين، كما أنه أوجد روافع لمواجهة الاحتلال الأميركي لاحقاً في العراق وهزيمة الجيش الإسرائيلي في لبنان عام 2006. في بلاد غير هذه البلاد يكون هذا الوثائقي، وما يشبهه، جزءاً من المناهج التعليمية، لكن إلى حينه من مسؤوليتنا كمواطنين ومؤمنين بهذه المقاومة أن ندمج هذه المعرفة في التنشئة السياسية والاجتماعية لأجيال لم تختبر التحرير في زمانه لكنها تختبر نتائجه الآن ولأعوام طويلة مقبلة.

سيرياهوم نيوز3 – الأخبار