أحمد حمادة:
في كل صباح وعلى مدار عقدين من الزمن لم يتخلف ليوم واحد عن الحضور الجميل إلى العمل في صحيفة “الثورة”.
الأمر ليس عادياً إذا ما عرفت أنه الزميل الصحفي “حميشة حميشة” الذي استطاع بإرادة الحياة وقوة الصبر أن يحول عكازيه إلى رجلين من خضرة وعطاء..
لم يقعده شلل الأطفال الذي أصابه مبكراً.. بل فجر الطاقة الكامنة داخله وحولها إلى إنجازات تركت بصمتها ليس في العمل الصحفي وحده إنما في حب الأرض والتجذر بها..
حميشة بدر حميشة قصة من آلاف القصص السورية التي يجب أن تبقى ماثلة أمامنا، هو أحد زملائنا في صحيفتنا “الثورة”، وهو من زملائنا من ذوي الاحتياجات الخاصة، لكن رغم إعاقته فقد تحدى الصعاب وأثبت أنه قادر على بلوغ النجاح.
عمل سنوات طوال معنا حتى أحيل إلى التقاعد منذ أسابيع، لكنه ظل مستمراً بالكتابة من ناحية، والعمل في قريته بالزراعة من ناحية أخرى، ولد عام ١٩٦٢ في “وطى الخان” بريف اللاذقية الشمالي، القرية الوادعة المتميزة لوحتها الأخاذة بجمال الأنهار والجبال والسهول وغابات الصنوبر التي تلفها من كل حدب وصوب.
أصيب بشلل الأطفال بعد ولادته بعامين فقط، وتنقل به والداه من مكان لآخر لعلاجه دون جدوى، واستعان بعكازين للمشي طيلة حياته، ودخل مدرسة القرية وبقي من المتفوقين في جميع الصفوف، ودرس الثانوية بمدرسة زكي الأرسوزي الخاصة ونجح بمعدل جيد جداً، وهنا راوده حلم حب التعلم أكثر فأكثر، وبعد التصميم انتقل إلى دمشق ليدرس الإعلام، ودراسة الاختصاص ليست بالأمر السهل في مدينة صاخبة تلفها الكثير من التحديات لمعوق يمشي على عكازين، وكان الشاب الوحيد من ذوي الاحتياجات الخاصة الذي درس هذا الاختصاص في كلية الآداب قسم الصحافة آنذاك.
بعد تخرجه من الجامعة عمل في صحيفة “الثورة” وكانت البداية من دائرة الدراسات السياسية والترجمة، ولديه الكثير من المقالات والتحليلات السياسية التي احتفظ بها بأرشيفه الخاص، واليوم ينشر بين يوم وآخر ذكراها على وسائل التواصل الاجتماعي، كما عمل في دائرة الأخبار ثم الرقابة الشعبية والتحقيقات، وكتب مقالات عدة بالعلوم والاقتصاد والمنوعات.
لم يكن وضعه الصحي يوماً عائقاً لإجراء التحقيقات ومتابعة الشكاوى التي كان يكلف بها، وكان ينتقل إلى موقع الحدث بسيارته الخاصة دون الاستعانة بسائق، وكان بقمة السعادة حين يرى جدوى لكتاباته وتحقيقاته التي ينشرها في الصحيفة ومدى استجابة الجهات المعنية لما يكتب، إضافة إلى ذلك كان يعمل بصورة إضافية بفترة المساء بمجلة “الأمل” بالتلفزيون، واستمر الأمر على هذا الحال حتى انتقل إلى مكتب الصحيفة باللاذقية مسقط رأسه.
اليوم يعمل “حميشة” بالزراعة ويهتم بأرضه، التي ورثها من والده رحمه الله وطيب ثراه، والمغروسة بأشجار الزيتون والحمضيات التي هي بأوج إنتاجها، ويزود السوق بكمية من زيت الزيتون وعدة أطنان من برتقال “البلانسيا” وهو يتابع نشر تفاصيل هذه الحياة الجميلة، وينشر صورها يومياً على وسائل التواصل وكأنها تحقيقاته التي اعتاد عليها لسنين.
اليوم، وبعد قضاء أكثر من ربع قرن بالصحافة والإعلام المحبب جداً إلى قلبه، قضى نصفها بدمشق – حماها الله – دون أن يوجه له أي مدير أية ملاحظة، يعود إلى بستانه وكرمه ليعمل بكل جد ونشاط وكأنه قصة “سورية” تتكرر في كل بستان.
اليوم يذهب إلى شجيراته قبل طلوع الشمس ويودعها قبل غروبها دون أن يتخلف لحظة واحدة عن الحضور إلى أغصانها ليتابع أدق تفاصيل حياتها، مهتماً بتربتها ومائها، كما اعتدنا حضوره الجميل في مكاتبنا.
اليوم نراه بإرادة الحياة وقوة الصبر يحول عكازيه إلى رجلين من خضرة وعطاء، ونرى شجيراته تفرح بحضوره وكأنه قطعة منها، وإن كان شلل الأطفال لم يقعده في الصحافة يوماً، فهو اليوم أكثر إرادة وتصميماً بعمله اليدوي الزراعي، الذي يعشقه، والذي فجر طاقات أخرى لديه محولاً إياها إلى إنجازات تركت بصمتها في حب الأرض والتجذر بها.
اليوم نستمتع ونحن نتابع كتاباته، وهو يشرح لنا على صفحته الاجتماعية على وسائل التواصل كيف يصنع “دبس الرمان” البلدي الخالي من كل المواد الحافظة، وكيف يجني تلال البرتقال الناصع الألوان، وكيف يخرج وهج الزيت البلدي من بين يديه ومن أغصان زيتونه، ليؤكد أنه قصة سورية تتكرر في كل قرانا وبيوتنا.
سيرياهوم نيوز1-الثورة