لا شك أنه عند تقييم العمليات السياسية لا يمكن تجاهل العامل الديموغرافي.
في الوقت نفسه، فإن عمليات التكوين العرقي، أي عملية مراحل تطور واندثار المجتمع العرقي عادة ما تستمر لعدة قرون، وغالبا ما يتم تجاهلها في التوقعات السياسية. لكن عصرنا فريد من نوعه من حيث أن عددا من هذه العمليات تقترب الآن من نهاياتها، بينما نشهد بعض النتائج، وبالإمكان أخذها في الاعتبار، حتى على المدى القصير، ناهيك عن التوقعات على المدى المتوسط.
يتم تدريس التاريخ في المدارس كمجموعة من تصرفات وفترات حكم الشخصيات التاريخية المختلفة، وفي أحسن الأحوال، كمجموعة من الأحداث في حياة الدول. وعادة ما يتم النظر إلى مصير الدولة بشكل منفصل عن مصير المجموعة العرقية التي أنشأتها.
لكن الأساس والقوة الدافعة للتاريخ في واقع الأمر هي حياة المجموعات العرقية وتفاعلها، بينما يبدو تاريخ الدول كجزء صغير من تاريخ المجموعات العرقية. والدولة ثانوية، ومجرد شكل من أشكال الوجود ومرحلة في حياة أنجح المجموعات العرقية. يمكن للمجموعات العرقية أن توجد، حتى بعد وفاة الدول التي أنشأتها أو تكون غير قادرة في البداية على إنشاء دولتها الخاصة. لكن الدولة الناشئة بشكل مستقل هي دائما نتاج مجموعة عرقية محددة. وعندما تنهار مجموعة عرقية، فإن الدولة التي أنشأتها تهلك هي الأخرى.
هناك بالطبع دول تم إنشاؤها بشكل مصطنع، على سبيل المثال المستعمرات السابقة، إلا أنها، وكقاعدة عامة، لا توجد وفقا للمعايير التاريخية لفترة طويلة، وتتفكك أو تختفي تماما عند أول أزمة كبرى. ولا يوجد سوى عشرين أو ثلاثين دولة حقيقية ومستقرة في العالم.
وتحدد الديموغرافيا، إلى جانب مراحل التكوين العرقي (وفقا لوصف العالم الروسي ليف غوميليوف)، موجات توسع وانكماش الحضارات والمجموعات العرقية والدول.
ومنذ ألفين أو ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد (في الوقت الذي حفر فيه الأوكرانيون البحر الأسود، وفقا لكتب التاريخ المدرسية الأوكرانية)، قامت القبائل الهندية الآرية في السهوب الواقعة شمال بحر قزوين والبحر الأسود بترويض الحصان وأتقنت صهر الحديد. أدت تلك الإنجازات إلى انفجار سكاني، وبدأت التوسع في أوروبا والهند، وسكن الهنود الآريون المنطقة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الصين. بعد ألفي عام، وصلت التقنيات الجديدة إلى القبائل التوركية Turkic والمنغولية، وشهدت انفجارا ديموغرافيا وانتقلت جحافل الهون والمغول ثم الأتراك غربا إلى أوروبا، ما أدى إلى تغيير المشهد العرقي واللغوي واكتساح دول المجموعات العرقية الأخرى (على سبيل المثال، الإمبراطورية البيزنطية اليونانية).
إن عمليات مماثلة في التاريخ تحدث دون توقف، بما في ذلك الآن، حيث استوطن الأوروبيون، خلال انفجارهم الديموغرافي وتوسعهم، القارة الأمريكية وأستراليا وأنشأوا مستوطنات في إفريقيا. إلا أن مساحة البيض الآن تتقلص، وبقايا المستعمرين البيض يغادرون إفريقيا، والعكس صحيح، بينما ينتقل الأفارقة والعرب، الذين يشهدون انفجارا ديموغرافيا، وتزيد مساحتهم إلى أوروبا. نفس العملية تحدث، بمشاركة شعوب أمريكا اللاتينية، في الولايات المتحدة الأمريكية.
فماذا الذي سينجم عن ذلك في السياسة المعاصرة؟
تعد الولايات المتحدة الأمريكية، على الرغم من تعدد أعراقها، هي بالتأكيد نتاج المجموعة العرقية الإنجليزية.
فإذا تم استبدال أو تهميش العنصر الأنغلوساكسوني في الولايات المتحدة (الأوروبيين البيض الذين استوعبهم الأنغلوساكسونيون، على نطاق واسع) فسوف تنهار دولة الولايات المتحدة الأمريكية. في الغرب، من المحرمات طرح القضايا العرقية للنقاش، ولا أحد يعترف بحقيقة جلية الوضوح، وهي أن يكتسب الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة طبيعة عرقية، وأن يزداد الصراع بينهما مع الوقت تحولا نحو الطابع العرقي.
هل تتمكن مجموعة “بريكس” من إيجاد بديل للدولار؟
في عام 1980، كان البيض يشكلون 80% من سكان الولايات المتحدة. وفي عام 2022، بلغت نسبة البيض (باستثناء البيض من أمريكا اللاتينية) في الولايات المتحدة 59.3%. وفي عام 2023 بلغت 58.9%، فيما تشير التقديرات إلى أن حصة البيض ستنخفض إلى أقل من 50% في النصف الأول من أربعينيات القرن الحالي. لكن في نصف الولايات الأمريكية، خاصة تلك الواقعة بالقرب من الحدود المكسيكية، يشكل البيض بالفعل أقلية، أو سيظلون كذلك في السنوات المقبلة. وفي يونيو 2023، انضمت تكساس إلى قائمة الولايات التي يفوق فيها عدد ذوي الأصول اللاتينية (40.2%) عدد البيض (39.8%). وسوف تنقسم الولايات المتحدة على هذه الخطوط العرقية، وإنكار مثل هذا الاحتمال أمر لا طائل منه، وسوف يصبح واضحا للجميع قريبا.
ونتيجة لانهيار الأغلبية البيضاء، فإما أن تحل محل الدولة القديمة دولة جديدة ليست خليفة للدولة السابقة (انظر كيف تهدم تماثيل أبطال أمريكا السابقين)، أو أن البلاد ستنهار إلى أجزاء، وهو الأكثر احتمالا بكثير. في كل الأحوال، في رأيي، لن تكون أي العمليتين سلميتين.
ويتم استيعاب جزء من السكان السابقين، عندما تتقلص منطقتهم العرقية، من قبل المجموعة العرقية الوافدة الجديدة، بينما يتدفق آخرون إلى “قارة عرقية” معينة، بحيث يشعر ممثلو المجموعة العرقية المتقلصة بالأمان. داخل الولايات المتحدة ينتقل البيض بالفعل من نيويورك وكاليفورنيا إلى ولايات “بيضاء” أخرى. وبالنظر إلى معدل الانخفاض في حصة السكان البيض، فإن وتيرة ترسيم الحدود سوف تتسارع بشكل كبير، وستبدأ مرحلة انهيار الدولة قبل عام 2040، بل على الأرجح قبل عام 2030.
ومع ذلك، فمن الخطأ اعتبار الولايات المتحدة الأمريكية منفصلة عن بقية الدول الأنغلوساكسونية، فهي لا تزال تجسد مشروعا واحدا، وفي السياسة الدولية، تظل كيانا واحدا بشكل أو بآخر.
فأين توجد “القارة العرقية” للأنغلوساكسونيين ككل؟
من وجهة النظر المستقبلية، فلا يمكن لأي جزء من المشروع الأنغلوساكسوني، بما في ذلك بريطانيا العظمى، أن يتنافس حتى مع الولايات المتحدة “المصغرة”. وحتى لو نظرنا إلى الأمر على نطاق أوسع، في إطار “أوروبا البيضاء”، المقسمة إلى عشرات الدول، والمفتقرة إلى الإرادة والموارد، فإن أوروبا المحتضرة، ومع تزايد عدد السكان الأفارقة وغيرهم من السكان غير الأوروبيين، لا يمكن اعتبارها مكانا واعدا “قارة عرقية” للبيض في الولايات المتحدة، على الرغم من أن نسبة السكان البيض في أوروبا لا تزال أكبر منها في الولايات المتحدة.
الولايات المتحدة واعدة أكثر بكثير، إلا أن الحرب الأهلية تختمر فيها بسبب فقدان الأغلبية البيضاء.
وأعتقد أن “الدولة العميقة” و”أسياد المال” يدركون أيضا كل هذه المسارات، ويفهمون إلى أين يتجه كل شيء.
والآن إلى السؤال الرئيسي: هل ستتطور عملية وفاة الدولة الأنغلوساكسونية الرئيسية بشكل عفوي وطبيعي، أم أن النخبة الأنغلوساكسونية (بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا العظمى) ستحاول التأثير عليها؟
في الحالة الأولى، ونتيجة لانهيار الولايات المتحدة والحرب الأهلية، فإن النصف الشمالي الأبيض من الولايات المتحدة الجديدة لن يفقد الهيمنة العالمية فحسب، وإنما سيفقد معها أيضا حجم السوق اللازم لممارسة السيادة التكنولوجية. سوف تدمر البلاد، ولست متأكدا من أنها ستكون حتى قادرة على المطالبة بمكانة زعيم إقليمي.
وفي حالة انهيار الولايات المتحدة، ستفقد جميع الدول الأنغلوساكسونية الامتيازات التجارية والصناعية، وستبدأ الأزمات الاقتصادية والديموغرافية والسياسية هناك، وقد ينتهي بشكل عام المشروع الحضاري للأنغلوساسكونيين هناك.
فهل تستطيع النخبة الأنغلوساسكونية أن تفعل أي شيء لتغيير المسار الطبيعي للأحداث؟
هناك خياران متاحان:
ألا تتم محاولة منع انهيار الولايات المتحدة الأمريكية وبعد ذلك إنشاء ما يشبه الإمبراطورية البريطانية الجديدة (من حيث تكوين المشاركين)، وليس بالضرورة أن يكون مركزها في لندن، وربما يقودها ما تبقى من الولايات المتحدة. وسوف تكون الولايات المتحدة حينها قادرة على المطالبة بأحد الأدوار الرائدة في العالم.
محاولة تمديد أيام بقاء الولايات المتحدة، وعكس اتجاه فقدان البيض لمواقعهم، ومن أجل الحفاظ المستدام على الأغلبية البيضاء في الولايات المتحدة حتى نهاية القرن الحادي والعشرين على الأقل، فمن الضروري تنظيم تدفق ما يقرب من مئة مليون مهاجر أبيض إلى البلاد، وهو ما سيفوق تدفق المهاجرين من أمريكا اللاتينية.. بالمناسبة، هذا الخيار لا يستبعد أيضا أحد أشكال توحيد الدولة الأنغلوساكسونية، لا سيما في الحرب ضد الصين. وربما يتم توسيع الكتلة العسكرية “أوكوس” على المستوى الإقليمي ومن حيث درجة التكامل.
إن إدارة الرئيس بايدن تتحرك بالفعل في هذا الاتجاه، وقد تبنت فعليا خطة لنقل الصناعة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكتب كثيرون بالفعل عن تدمير الولايات المتحدة للصناعة الأوروبية من خلال فصلها عن المواد الخام والطاقة الروسية الرخيصة. ومع ذلك، فلإنعاش الصناعة الأمريكية، هناك حاجة إلى قوة عاملة ماهرة، وبدون ملايين العمال الأوروبيين، لن يكون من الممكن زيادة الإنتاج بشكل كبير في الولايات المتحدة.
وهنا نصل إلى ما يمكن أن نطلق عليه، إذا ما شئت، نظرية المؤامرة، لأن إدارة عمليات بهذا الحجم تتجاوز كل ما اعتدنا عليه.
فهل يمكننا القول إن الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى تسعيان لتدمير أوروبا حتى تصبح جهة مانحة للإمبراطورية البريطانية التي سيتم إحياؤها في المستقبل أو على الأقل الولايات المتحدة الأمريكية؟ من هو هدف الحرب التي أثارها الأنغلوساسكونيون في أوكرانيا: روسيا أم أوروبا؟ إلى مدى يخطط الأنغلوساسكونيون للذهاب؟ هل يؤدي التصعيد المستمر للأعمال العدائية مع روسيا إلى إثارة حرب نووية في أوروبا عمدا، وبعد ذلك يتدفق عشرات الملايين من الأوروبيين إلى الولايات المتحدة، حيث سيكونون على استعداد للعمل في مصانع جديدة مقابل أموال أقل من تلك التي يجنيها الصينيون في الصين؟
في “نظرية المؤامرة” هذه، أنطلق من أن النخبة يجب أن تفكر في مستقبل المشروع الذي تترأسه. لو كنت أحكم الولايات المتحدة الأمريكية، لكنت سأتصرف تحديدا في إطار المنطق الموصوف أعلاه.
سيرياهوم نيوز 4_راي اليوم