الشارقة: علاء الدين محمود
كثيرة هي المؤلفات التي تتحدث عن النقد والتفكير النقدي، ودوره المأمول في تطور المجتمع، والتخلص من العادات والتقاليد الثقيلة في التفكير نحو آفاق أرحب بقوة المعرفة والرغبة في الاكتشاف والتغيير، ضمن هذا التوجه يأتي كتاب «تأملات في ثقافة رديئة»، للدكتور يوسف الحسن، الصادر في طبعته الأولى عام 2022، عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر / بيروت، وهو أحد المؤلفات المهمة في سياق التحريض على التفكير النقدي من خلال تصورات جديدة، تحل مكان العادات القديمة، ويتناول ما يسميه ثقافات رديئة تعلن نفسها في عصرنا الحالي، ويتوجب الوقوف ضدها ومحاربتها.
يقول د. الحسن «في هذا السياق يكشف الكتاب الغطاء عن الرداءة وعمن يلام على تغذيتها، وتعريتها قبل أن يتسع الثقب الأسود، ويلتهم قيم الإبداع والجمال والمسؤولية، ويطفئ أضواء الحلم والطموح والأمل».. ويروي الكتاب حكايات حول أبعاد ومخاطر هذه الثقافات الرديئة مثل: الفساد والاستعلاء والكراهية بشتى أنواعها، كما لو أن هذا المؤلف بحسب الحسن، يفتح غطاء صندوق باندورا في الميثولوجيا الإغريقية، وخرجت منه في الأعماق كل هذه الشرور، لكن يبقى الأمل لدى الإنسان في تغيير هذه الثقافات الرديئة إلى ثقافات جيدة ونافعة للإنسان والحياة.
جاء الكتاب في 130 صفحة / قطع متوسط، ويشتمل على مقدمة وسلسلة عناوين: «ثقافة التفاهة»، التي ينتج عنها نظام تافه يهمش قيمة الإنسان، ويفكك منظومات قيمية إنسانية، لتحل محلها المنفعة والرداءة، والبهرجة والابتذال، ليمسي الشأن العام مجرد تقنية إدارية، وليس منظومة قيم، وتنتشر الغوغائية السياسية، و«ثقافة الاستبداد»، وفي ظلها تتولد نزعات التحايل على السلطة والقوانين، ويتعود المرء الخمول والانتهازية، وعدم تحمل المسؤولية تجاه المجتمع، فينتشر الفساد والجريمة والحقد والعنف، و«ثقافة الفساد»، التي تخرب الحياة العامة، عندما يغيب القانون وثقافته رسمياً وشعبياً وتضعف نظم المساءلة والشفافية، و«ثقافة الاستعلاء»، وهي ثقافة تغذي الفرد والمجتمع بشعور الغرور والغطرسة والتعالي أو العنصرية والقسوة والتمييز تجاه الآخر فرداً أو جماعة أو جنساً أو عقيدة أو طبقة اجتماعية أو لغة، وهناك «ثقافة الكراهية»، التي تخلو بحسب المؤلف من القيم الإنسانية، وتطفح بالتحيز والتمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أو اللغة أو الثقافة أو الرأي، وهذا يعطل أو يعرقل الاعتراف لجميع الأشخاص بالحقوق والحريات على قدم المساواة.
مواجهة
الكتاب يعلن عن مواجهة مع تلك الثقافات الرديئة، ويدعو إلى تأسيس جديد، بثقافة مختلفة تتجه نحو سيادة قيم التسامح والحب والخير والجمال والسلام، عبر انفتاح البشر على بعضهم، والتعارف الذي من الضروري أن يتم بين ثقافات الشعوب المختلفة، والكتاب من خلال سعيه إلى الكشف عن طرائق عمل تلك الثقافات الرديئة وأدوارها الخطرة في تخريب المجتمعات والإنسانية، يغوص عميقاً في البحث عن كل ما له علاقة بهذا الموضوع بأسلوبية ومنهجية تحلل وتفكر وتمارس فعل التأويل، فيتبع د. الحسن منحى فلسفياً يكتشف ويرفض ويطرح الرؤى والأفكار والتصورات الجديدة، ويسعى إلى توضيح كيف تمكنت الثقافة الرديئة ومسوقوها من إغرائنا بقبول «تسلياتها» النمطية السلبية والرخيصة، وتشجيعنا على الإغفاء بدلاً من التيقظ والتركيز، واللامبالاة وإشاعة البلاهة، بدلاً من الوعي والتفكير النقدي، وإغرائنا بالنظر إلى ما هو مبتذل ومقيت وغير مقبول، وغير خاضع للقواعد الجمالية والمعايير الأخلاقية الإنسانية والذائقة السوية، فالكتاب يمارس قلب تلك «الحتمية» المدعاة، ويعمل على تعريتها إلى جانب الذين يروجون لها من أصحاب المصالح المتعلقة بتلك الثقافات الرديئة والذين يسرهم أن تسود في عالم اليوم، ويدعو الكتاب إلى بذل جهد فكري يعرّف بأنماط الثقافات الرديئة والتأمل فيها وفي ظلالها الاجتماعية والسياسية، والتي – كما يقول الحسن- إذا كانت قد خدعت بعضنا، فهذا أمر سيئ ومذموم، وأما إذا كانت تحفزنا على كشفها ونقدها ونبذها، فهذا أمر مطلوب ومحمود وجيد.
أنماط سيئة
وفي سياق الكشف عن الأنماط الثقافية الرديئة، يتحدث الكتاب عن «ثقافة الوعي الزائف»، ويشير إلى أن بناء الوعي هي مهمة تشاركية ومسؤولية مجتمعية، تحتاج إلى جهود هائلة ومتواصلة لبناء مسار مستنير ورشيد، ثم يعرج نحو ما يسميه المؤلف «ثقافة تويترية»، وهي، ظاهرة كبرى، من نتاج الثورة التقانية، لها ما لها وعليها ما عليها؛ حيث إن بعض السلوكات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تحولت إلى عوامل إضافية في تفسيخ المجتمعات، ويتناول الكتاب كذلك «ثقافة الاعتذار المقلوب»؛ وهو اعتذار الصواب للخطأ، والمسالم للعنيف، والصادق لشاهد الزور، والحسن للقبيح، والضحية لقاتلها، أما «ثقافة البلادة السياسية»، ففي بيئتها يثقل الفهم لما يجري من متغيرات، ويركد الذهن وينمو الشعور بالدونية واللامسؤولية، وهناك «ثقافة طغيان الوهم على الواقع»؛ حيث يعرض الكتاب أمثلة ساطعة لتقريب الفكرة، مثل دون كيشوت الذي هو مثال حي لطغيان الوهم على الواقع، وهناك أيضاً عن «ثقافة غفلة العقل»، و«ثقافة الأساطير اللاهوتية المتعصبة»، و«ثقافة الاستيطان»، و«ثقافة حوار الطرشان»، و«فيروسات ثقافة الحرب»، و«ثقافة المحلل المستعار»، وتلك المواضيع هي الأنماط الثقافية الرديئة السائدة، التي تتسبب في الاغتراب، وابتعاد الإنسان عن جوهره الإنساني، وبطبيعة الحال فإن الكاتب؛ إذ يكشف عن تلك الأنماط المتسيدة والمخربة للعقل والروح والوجدان والتي تجعل المجتمعات تعيش في حالة من التشظي، فهو يمارس فعل التنقيب، ويبرز أهمية الدعوة إلى البحث عن ثقافة لا يغيب عنها الإنجاز الحضاري والإنساني، ثقافة قادرة على طرد الرداءة والتفاهة.
نماذج مضيئة
في مقدمة الكتاب يقول د. الحسن: شغلتني في السنوات القليلة الماضية، خواطر وتأملات في ما لحق السياسة من تجريف وتيه وتفريغ لمحتواها، وبلادة وربما موات أيضاً، وما أصاب الثقافة من رداءة وتخل عن وظائفها الاجتماعية، والإبداعية، والفكرية، وغياب لمعاييرها الأصيلة، من ذائقة وقيم جمالية وأخلاقية، وأحاسيس رسولية بالوجود الإنساني، في شتى أبعاده وأشكاله، ويمضي قائلاً: كتبت هذه التأملات وأنا مدرك أن هناك نماذج مضيئة في السياسة، وفي الثقافة في بيئتنا العربية أو في بيئات خارجية أخرى، إلا أن المشهد العربي لا يسر، حينما نعمل الفكر في سياق الزمن العربي الجمعي الراهن، المبتلى بالمواجع والفواجع المتلاحقة، وبالحيرة الشديدة والاضطراب، والأسئلة الكثيرة المعقدة.
(سيرياهوم نيوز -الخليج)