| محمد نور الدين
خلال أيّام قليلة، وربّما ساعات، تتحوّل منطقة ناغورنو قره باغ الواقعة في جنوب القوقاز، إلى أرضٍ خالية نهائيّاً من سكانها الذين قطنوها على مدى ألفَي عام ونيف، عندما ذكر هيرودوت والمؤرخون المعاصرون، أن اسم تلك المنطقة كان “أرمينيا”. المشاهد التي رسمتها وكالات الأنباء العالمية عن النزوح الجماعي لسكّان “أرتساخ” من الأرمن، لم يسبق لها مثيل في التاريخ الحديث، لأن المنطقة التي يغادرونها لن تعود موجودة بسكّانها، وهو أمر يحدث عادةً خلال الأحداث الكبرى: حروب عالمية، أو صراعات إقليمية حادّة، مثل الصراع العربي – الإسرائيلي. ولكن قره باغ ذهبت ضحيّة عاملَين اثنَين: الأوّل هو المصالح الاستراتيجية للدول الإقليمية والكبرى؛ والثاني الحسابات الاستراتيجية الخاطئة لرئيس حكومة أرمينيا، نيكول باشينيان.
وبين هذَين العاملين، وجد الأرمن، في قره باغ والشتات، أنفسهم أمام واقع جديد، شديد الوطأة لا شكّ، يحتاج إلى وقت لاستيعابه والصدمة الناتجة منه، فيما تنصرف القوى المؤثّرة إلى مراجعة الحسابات وإعادة النظر في التحالفات والتقاطعات والعداوات. فأنْ يكون أكثر من 80 ألف أرميني قد غادروا، حتى يوم أمس الجمعة، قره باغ، فهذا يعني أن المنطقة أصبحت من التاريخ؛ فكلّها لا يتعدّى عدد سكانها الـ 120 ألفاً. ولعلّ عوامل كثيرة تسهّل عملية الهجرة الجماعية السريعة، أهمها: الأول، التهديد الآذربيجاني للسكّان بتخييرهم بين البقاء في كنفها وبدء عملية الدمج الكاملة، أي التذويب في الهوية الآذربيجانية؛ والثاني، الهجرة والعيش بعيداً من النظام الآذربيجاني. وممّا ساهم في ترجيح كفّة الخيار الثاني، أن أرمن قره باغ لم يروا أملاً من أيّ دولة مؤثّرة، من الولايات المتحدة إلى روسيا، في إمكانية بقائهم في موطنهم، والحصول على امتيازات يُفترض أن يوفّرها لهم وضعهم كمنطقة حكم ذاتي. ولعلّ تصريحات باشينيان كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، عندما أعلن عن استعداد أرمينيا لاستقبال 40 ألف عائلة قره باغية، ومن ثم قوله إنه “لن يبقى أرمن في قره باغ”. من هنا تحديداً، بدت كلّ الظروف مشجّعة على الهجرة، وخصوصاً مع إعلان رئيس “جمهورية أرتساخ”، صامويل شهرمانيان، حلّ الجمهورية وإلغاءها، واعتبارها، بدءاً من مطلع عام 2024، “غير موجودة”.
ومع انتهاء “حكاية” قره باغ، تتّجه الأنظار إلى الاجتماع المرتقب، في الخامس من الشهر المقبل، في غرناطة الإسبانية بين باشينيان والرئيس الآذربيجاني، إلهام علييف، برعاية فرنسية – ألمانية – أوروبية، وما قد يصدر عنه من مقرّرات. وفي هذا الجانب، يتساءل يتفارت دانزيكيان، في صحيفة “أغوس” الأرمينية الصادرة باللغة التركية في إسطنبول، عمّا إذا كان يتحتّم على أرمن قره باغ، بعد الفظائع التي واجهوها أخيراً، أن ينقطعوا عن الأرض التي عاشوا فيها لقرون. ويقول الكاتب إن “الرأي العام في تركيا غير مهتمّ بهجرة الأرمن، بل هو مشغول بالاحتفال بالنصر الآذربيجاني الذي يعتبرونه نصراً لتركيا”، ويسأل: “أيّ جرم ارتكبته النساء والأطفال والمسنّون، ليُجبَروا على ترك موطنهم؟ الانطباع الشائع نتيجة نقص المعلومات لدى الرأي العام التركي، هو أن قره باغ منطقة محتلّة من قِبَل الأرمن. لكن هؤلاء هم سكّان المنطقة الأصليون منذ مئات السنين، وكانوا يشكّلون غالبيتها الساحقة”. ويوضح، في هذا الإطار، أن “السوفيات رأوا أن حلّ مشكلة القوميات يكمن في منحها جمهوريات حكم ذاتي داخل الجمهوريات الأكبر، وهذه كانت حال نخجوان وقره باغ وغيرها العشرات”. والثابت، بحسب ما يورد الكاتب، أن “أرمن قره باغ لم يأتوا إليها من الخارج، بل كانوا منها”، منتقداً، في الوقت ذاته، المسؤولين في أرمينيا وقره باغ، لأنهم أضاعوا “على مدى ثلاثين عاماً، بعد عام 1990، الفرصة تلو الأخرى للتوصّل إلى حلول معقولة للأزمة، تحفظ الوجود الأرميني في قره باغ والمنطقة”.
وفي الصحيفة نفسها، يكتب أوهانس كيليتشداغ، أن “نظام علييف لا يثير حتى الضحك عندما يتحدّث عن حماية حقوق الأقليات، وهو كان عاملاً حاسماً في تهجير الأرمن من قره باغ”. فبعد حرب عام 2020، “أغلق علييف ممرّ لاتشين منذ نهاية العام الماضي، وحوّل قره باغ إلى سجن مفتوح، قاطعاً عنها كل موارد العيش، حتى إذا حصل الهجوم في الـ 19 من أيلول الجاري، كان الشرارة التي دفعت سكّان المنطقة إلى الهجرة، والممرّ الذي أُغلق على مدى عشرة أشهر، فُتح فجأةً لتسهيل النزوح الجماعي”. ويقول: “يمكن آذربيجان أو أرمينيا أن تقولا إن قره باغ تابعة لهذه الدولة أو تلك. ولكن لا أحد يمكنه أن يدّعي أن أرمن قره باغ جاؤوا إليها من الخارج، بل هم أبناء البلاد الأصليون”.
على المقلب الآخر، وبقدر ما يحمّل الأرمن باكو المسؤولية عمّا جرى، خرجت معظم الأصوات من تركيا لتحمّل الأرمن المسؤولية، ولكنها ركّزت على مسألة “ممرّ زنغيزور” الذي سيكون عنوان المرحلة المقبلة. وفي هذا الجانب، أعلن وزير الدفاع التركي، ياشار غولر، في حوار مع “حرييات”، أن المطلوب من أرمينيا تطبيق اتفاق العاشر من تشرين الثاني، ولا سيما بند فتح الممرّ المذكور. وإذ يحمّل حقي أوجار، في صحيفة “ميللييات”، “الدياسبورا الأرمينية” كل ما حلّ بالأرمن من مصائب، يكتب برجان توتار، في “صباح”، أن “انتصار آذربيجان الأخير والخاطف عنى بداية رسم خريطة جديدة في القوقاز”، وأن “أبرز مفصل في هذه الخريطة هو ممرّ زنغيزور الذي يصل نخجوان بآذربيجان”. ويقول إن اللقاء الذي جمع إردوغان إلى علييف في نخجوان، “حمل رسالة قوية مفادها بأن مسألة الممرّ هي في رأس جدول الاهتمامات المقبلة”. ووفق الكاتب، فإنه “في حال حلّ قضيّة ممرّ زنغيزور، ستُرفع آخر عقبة أمام فتح الطريق أمام الحركة التركية على الخطّ الواصل بين المحيطَين الهادئ والأطلسي”. ومع ذلك، فإن “موقف الغرب سيكون معارضاً لفتح ممرّ زنغيزور، لأنه سيتيح وصْل تركيا بروسيا عبر أرمينيا وآذربيجان، وسيحافظ على الوجود العسكري الروسي، كون موسكو ستكون مسؤولة عن أمن هذا الممرّ وحمايته”. ويقول توتار إن “لسان الغرب هو أنه إذا لم تُحلّ مسألة زنغيزور، فإن نذر الحرب سترتفع هناك بمشاركة إيران وروسيا وتركيا والصين، والغرب يريد مثل هذه الحرب لعرقلة مشروع الحزام والطريق”، مضيفاً إن أنقرة وموسكو وبكين قد تقنع طهران ويريفان بأن من مصلحتهما استحداث هذا الممرّ.
تتّجه الأنظار إلى الاجتماع المرتقب في غرناطة الإسبانية بين باشينيان والرئيس الآذربيجاني إلهام علييف
وفي “صباح” أيضاً، يعلّق الباحث حسن بصري يالتشين على مسألة “ممرّ زنغيزور”، باعتبارها “البند الأكثر حساسيّة في اتفاق السلام الذي وُقّع في العاشر من تشرين الثاني عام 2020″، مضيفاً إن “الجميع، باستثناء آذربيجان وتركيا، قلقون من هذا الممرّ، من أميركا إلى إيران. لذا، يراد لهذا الممرّ ألّا يُستحدَث أو على الأقلّ أن يُجمّد البحث فيه”، علماً أن “روسيا يمكن أن تكون الأقلّ قلقاً، على اعتبار أنها المشرفة العسكرية على الممرّ”. ويتابع يالتشين: “لا شكّ في أن إيران هي الأكثر قلقاً. وهي تقترح ممرّاً بديلاً عبرها، وأن يكون الممر الذي يربط تركيا بالعالم التركي تحت إشرافها، إذ ترى أن هذا الاقتراح هو الوحيد الذي يضمن وَصْل تركيا بالعالم التركي”. ولكن “إذا لم يتمّ التراجع عن خطّ زنغيزور، فقد لا يكون هناك مانع من فتْح ممرّ ثان عبر إيران ليكون هناك ممرّان. وسيكون من الصواب الحديث عن ممرّ أساسي هو زنغيزور، وعن آخر جانبي هو الذي يمرّ عبر إيران”.
أمّا فهيم طاشتكين، فيرى، في صحيفة “غازيتيه دوار”، أن “المصالح الاستراتيجية للدول ألقت بثقلها مرّة جديدة على المآسي الإنسانية”. ويلفت الكاتب إلى أن إشارة علييف خلال لقائه إردوغان في نخجوان، إلى أن “أجداده عاشوا في منطقة زنغيزور قبل 100 عام”، تُعدّ “نذيراً بأن آذربيجان تستعدّ للتعبئة النفسية والتسخين العسكري للقيام بالاستيلاء على منطقة زنغيزور إذا لم يُفتَح الممرّ بطريقة طبيعية”. ووفق طاشتكين، فإن “روسيا تواجه صعوبة في التوفيق بين ضرورتَين أساسيتَين، هما: حماية أرمينيا، والحفاظ على مصالحها مع علييف وإردوغان”. أما أميركا، فيقول إنها “تريد تقريب أرمينيا من الغرب عبر بوابة تركيا، ولكن الأخيرة تريد ممرّ زنغيزور الذي تعارضه واشنطن وأوروبا”. أمّا “استبعاد روسيا من ممرّ زنغيزور، أو أيّ ممرّ آخر، فهو هدف أميركي… لذلك، يمكن أن نرى أشكالاً جديدة لحلّ هذه المعضلة في المستقبل، بحيث يتمّ تخفيف الضغط عن أرمينيا في شأن الممرّ لتبقى إلى جانب واشنطن. لكن الأخيرة تعارض أيضاً فتح ممرّ إيراني بديل عبر أراضيها توافق عليه تركيا، لأن ذلك يعني استمرار اعتماد أرمينيا على إيران في حركة المواصلات، وهو ما لا تريده أميركا”.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار