| أسعد أبو خليل
مقابلة محمد بن سلمان هي أوّل تدشين علني لمسار التطبيع السعودي مع إسرائيل، والمفاوضات حول التطبيع لا علاقة لها بفلسطين أبداً. ليست دعوة نجل محمود عبّاس، ياسر، إلى الرياض، إلا للتفاوض على سعر القبول والمباركة من قبل عصابة السرقة والتنسيق الأمني في رام الله على السياسة السعودية الجديدة. عصابة عبّاس تأخذ وتصدر المواقف بأجر، حتى لو كان الأجر إسرائيليّاً (من خلال الضرائب التي تجنيها حكومة العدوّ). أما المقابلة فهي إطلاقٌ لمرحلة حكم محمد بن سلمان، وإيذانٌ باقترابه من العرش وعرض نفسه كحاكم قادر.
أولاً، يمكن الاستنتاج أن ابن سلمان ليس من الزعماء الذين يسمحون بالمحيطين بهم بإسداء النصح الصريح لهم؛ فمن الواضح أن مستشاريه يخافونه ولا يشعرون بحريّة الاختلاف أو المعارضة لمصلحة الحاكم. لو كان ابن سلمان يحيط نفسه بمستشارين من مثل الذين يصارحونه، لكانوا قالوا له: إيّاكَ أن تتحدّث بالإنكليزيّة لأنك تخطئ كثيراً في تصريف الأفعال ولأن لكنتك ثقيلة للغاية، ما يجعل الإعلام الغربي يترجم إنكليزيّته أحياناً. وهذه مشكلة واجهها الحكّام العرب سابقاً، من مثل ياسر عرفات، الذي نصحه إدوار سعيد ووليد الخالدي وشفيق الحوت بالامتناع عن التحدّث بالإنكليزيّة التي لم يكُن يجيدها، لكنه كان يصرّ عليها. فرانسوا ميتران كان يعرف الإنكليزية، لكنه لم يتحدّث إلا بالفرنسيّة في المقابلات لأسباب الاعتزاز بالثقافة الفرنسيّة. وللمناسبة، كانت إنكليزيّة جمال عبد الناصر أفضل بكثير من إنكليزيّة السادات، الذي أعجِب بنفسه عندما تحدّث بهذه اللغة.
ثانياً، اختيار «فوكس نيوز» كان اختياراً خطأً من منظور مصلحته هو، ومصلحة صورة السعودية في الغرب. وهنا أيضاً، يظهر أن الجوقة المحيطة بابن سلمان لا تشعر بالارتياح في مصارحته. محمد بن زايد ومحمد بن سلمان ارتكبا معصية بنيامين نتنياهو في ربط ماركتهما المسجّلة باسم الحزب «الجمهوري» وبشخصيّة دونالد ترامب الشديدة الخلافيّة. محطة «فوكس» هي محطة اليمين المعادي لليبراليّة، فيما الإعلام السائد، بمعظمه، يميل إلى الحزب «الديموقراطي». قتل جمال الخاشقجي والحرب على اليمن والحصار على قطر جعل من ابن سلمان شخصيّة مكروهة جداً من قبل الحزب «الديموقراطي» بمختلف قطاعاته. من هنا، أمِن ولي العهد للإعلامي اليميني، برت بيير، بضمان أنه لن يوجّه له أسئلة محرجة، من مثل التي كان يمكن أن يوجّهها له إعلاميّو الليبرالية (لا بل إن بيير تطوّع في الحديث القصير عن اليمن للقول إن السعودية هي أكبر داعم إنساني لليمن). طبعاً، هناك ديموقراطيّون مثل توماس فريدمان من الذين أسبغوا الصفات الحميدة على ابن سلمان وإصلاحاته (أي منح المرأة حق قيادة السيارة، وهذا حق نالته نساء المشرق قبل قرن، كما حق الرقص والغناء) من الذين يسايرون النظام. لكن حتى فريدمان قطعَ معه – مرحلياً فقط – بعد افتضاح تورّط الحاكم في اغتيال خاشقجي. لو أن ابن سلمان اختار واحدة من المحطات الثلاث، لكان بدأ بمصالحة نظامه مع الفريق الذي سيكون معرقلاً له زيارته لواشنطن. طبعاً، الجهاز المُتحكّم سيرحّب بابن سلمان عندما يزور تل أبيب، وسيسبغ عليه صفات الحكم الرشيد والحكيم تماماً كما فعل في حالة الطاغية السادات. نستطيع أن نتوقّع أن يُدعى ابن سلمان لإلقاء خطبة أمام جلسة مشتركة لمجلسَيْ النواب والشيوخ عندما يزور تل أبيب.
ثالثاً، ذكر ابن سلمان، في حديثه، أن إيران هي التي طلبت مصالحة السعودية، وليس العكس، وهذه معلومة لم تنفِها إيران. هذه نقطة مهمّة لأن إعلام المحور الإيراني لا يزال يصرّ على أن السعودية هي التي توسّلت المصالحة مع إيران. إلا أن الطرفين أرادا المصالحة، وإن كانت إيران أرادتها أكثر، بدليل أن الإعلام الإيراني أكثر التزاماً بالهدنة من الإعلام السعودي الذي لم تتغيّر لهجته نحو إيران كثيراً. وحتى مع سوريا، تغيّرت لهجة «الشرق الأوسط» لأسبوع أو أكثر قليلاً ثم عادت لصيغة «النظام السوري» بعدما توقّفت بعد المصالحة). وهذه الرغبة الإيرانية في مهادنة السعودية ستخدم ابن سلمان عندما يطبّع رسميّاً لأن الإعلام الإيراني لن يزعجه أبداً.
رابعاً، إن مسار التطبيع تقدّم كثيراً ولا تزال الأمور العالقة تُبحث بين السعودية وإسرائيل. السعودية تتفاوض مع إسرائيل حول ما يمكن أن تناله من أميركا، لعلمها أن صنع القرار الأميركي نحو الشرق الأوسط هو في يد اللوبي الإسرائيلي. هناك جملة شهيرة لمناحيم بغين قالها أمام رونالد ريغان: «اترك أمر الكونغرس لي»، والتي اعتبرها ريغان إهانة له وللنظام السياسي الأميركي. السعوديّة تتحدّث مع إسرائيل في السرّ وفي العلن، بطرق مباشرة وبطرق غير مباشرة. وقبل أيام من المقابلة، ظهرت أخبار في صحيفة إسرائيليّة قالت إن مفاوضات التطبيع السعودي قد توقّفت. كان هذا الغرض الأوّل من المقابلة: أن يقول ابن سلمان للوبي الإسرائيلي إنه جادُّ في التطبيع وإن المسار مستمرّ. الصحافة الإسرائيليّة اخترعت القصّة لإحراج نتنياهو، وليس هناك من يهبّ لخدمة الأخير أكثر من ابن سلمان وابن زايد، فالرجلان حليفان وثيقان لنتنياهو، والمقابلة انتشلته من أدنى قعر وصل إليه في أزمته السياسيّة. ولهذا، بدا نتنياهو مرتاحاً ومنتعشاً بعد المقابلة.
اقترب ابن سلمان من العرش كثيراً، لكن ثمن العرش باهظ، ولا يكفي القمع القاسي كي يريح المتربّع عليه
خامساً، فلسطين لا تشكّل عرقلة أمام ابن سلمان. هي في أدنى سلّم الأولويّات، وكانت تاريخياً عند الحكم السعودي مسألة تتعلّق بالخوف من الرأي العام العربي والإسلامي ونيل المشروعية السياسيّة للنظام. صحيح أن النظام أطلق صيحات الجهاد وضخّ في الفضاء الإسلامي كمّاً هائل من «أدب» المعاداة لليهود بالعربيّة. كان ذلك لأن النظام يتوق إلى الشرعية السياسيّة، وكان ذلك طريقاً سهلاً له. وليس من اعتراض في إسرائيل على التراث السعودي (الرسمي) المعادي لليهود، كيهود. كما أن النظام هو الذي ضخّ المال الذي أفسد الثورة الفلسطينية. كان حصانه يتمثّل بياسر عرفات ودائرة الخليج المحيطة به. الفتحاويّون الأوائل يعترفون بأن عرفات صعد في حركة «فتح» بالمال الذي لم تكُن تُعرف موارده. والوثائق الأميركيّة المُفرَج عنها تقول إن الحكومة الأميركيّة كانت تطلب من الملك فيصل أن يضغط على «منظمة التحرير» لصدّ النهج المتطرّف.
والنظام السعودي يطالب إسرائيل (إسرائيل تقرّر بالنيابة عن أميركا في كل مفاصل الملفّ هذا) بقبول مطالبه التي تتيح له تسويق التطبيع، ليس فقط في العالم العربي (المُطيع)، وإنما في العالم الإسلامي خصوصاً بعد التخلّص من عمران خان، الذي رفض كل عروض التطبيع مع إسرائيل (يؤمن مؤيّدو خان في باكستان بأن معارضته الضغط السعودي والإماراتي كان وراء القرار العسكري بإزاحته عن الصورة بتأييد أميركي).
وفي مقابلته، يضع ابن سلمان السقف الرسمي لمطلبه من إسرائيل حول الفلسطينيّين، فيقول إنه يريد «تحسين حياة الفلسطينيّين»، وهذا أدنى حق للشعب الفلسطيني منذ وعد بلفور. حتى إن أنور السادات طالب بأكثر من ذلك، كما أن حكومات إسرائيليّة تخطّت سقف ابن سلمان. وليّ العهد لم يطالب بحقّ سياسي، بل فقط بحق تحسين الحياة، وهذا كان سقف إسحاق شامير، واحد من أكثر رؤساء الحكومات تطرّفاً في تاريخ إسرائيل. هذا السقف المتدنّي (غير المرتبط بحق سياسي) تستطيع إسرائيل أن تحقّقه بسهولة. عندما يقول ولي العهد إن إسرائيل تجاوبت مع مطلبي، ما يجعلني في حلّ من مقاطعتي (اللفظيّة) لحكومة إسرائيل (سبق لمحمد بن سلمان أن استضاف نتنياهو وبومبيو معاً). حتى إن وعد بلفور تحدّث عن حقوق مدنية ودينيّة لـ«غير اليهود»، بينما الحقوق السياسية حكر على اليهود فقط.
وفي تعليقه المُبتهج على مقابلة ابن سلمان، خرج نتنياهو بنظريّة أن الشعب الفلسطيني لا يعبّر عن القضيّة الفلسطينيّة لأنها غير مهمّة، وأن نسبة الشعب الفلسطيني هي 2% من العرب فقط. أي أن إسرائيل تراجعت عن كل مواقفها قبل «أوسلو»، وهذا ما كانت «منظمّة التحرير الفلسطينيّة» تستحقّه، لأنها أعطت كلّ ما عندها (بما فيه الكفاح المسلّح الذي جلبها إلى الطاولة)، في مقابل العيش تحت الاحتلال وإتاحة المجال لقادتها في الإمعان في السرقة والفساد.
سادساً، يعترف ابن سلمان بأنه يستخدم سياحة و«بزنس» الرياضة لتجميل صورة الحكم. إن رؤية ولي العهد ليست إلا نقلاً مبتذلاً للاس فيغاس، عاصمة الابتذال الفاقعة. والمدينة كانت دائماً محلّ إعجاب عند الجيل الثاني والثالث لآل سعود. إن إصلاحات ابن سلمان (والتي يلهج بحمدها سياسيّو وإعلاميّو وفنّانو لبنان) ليست إلا إطلاق حريّة اللعب واللهو والمرح والرقص والغناء على أنواعه. طبعاً، من حق الشعوب أن تلهو وترقص وتغنّي، لكن كل هذا لا يعوّض عن حق منح الشعب الحريّات السياسيّة أو حماية الشعب، على الأقل، من القمع الذي يودي بمواطن في سجن لمدة ثلاثين سنة بسبب تغريدة.
سابعاً، زعم ابن سلمان أن القضاء في السعودية مستقل، وأنه لا يحقّ له التدخّل فيه كي يصدر عفواً. حتى أعتى الأنظمة المتسلّطة تسمح بالعفو. وقد سخر الإعلام من زعم ابن سلمان هذا.
ثامناً، ظهر محمد بن سلمان متمكّناً وواثقاً من نفسه. وله الحق بعدما طوّع الرئيس الأميركي الذي كان قد هدّد بمقاطعته ومعاقبته. الحكومة الأميركيّة اليوم تتملّق لابن سلمان وتتودّد له. هي تريد أن تجعل من التطبيع الرصيد السياسي المميّز لرئيس يفتقر إلى أي إنجاز. والعلاقة مع إسرائيل إنجاز لأي رئيس أميركي منذ عهد جيمي كارتر، وحتى نيكسون من قبل (نيكسون عجز عن دفع عبد الناصر كي يعقد سلاماً مع إسرائيل).
حضّر ابن سلمان لـ«رؤية» التطبيع مع إسرائيل قبل سنوات. والحقوقي السعودي، عبد الله عودة، على حق في أن ابن سلمان اعتقل المعارضين وحتى المُشكّكين والذين جاهروا بتأييد الحق الفلسطيني، وثبتوا، مبكراً كي يصل إلى هذه اللحظة. في الساحة الفلسطينيّة، هو يعدّ لمباركة من سلطة رام الله العميلة (بالمعنى الحرفي هنا) للاحتلال. وياسر محمود عبّاس يتولّى «شؤون الكنز والبزنس» في العائلة، وهو يتفاوض على ثمن سكوت السلطة عن التطبيع. والسلطة، ستتكفّل بقمع الأصوات الفلسطينيّة المعارضة ومنع أي تحرّك في الشارع ضد النظام السعودي (كان ياسر عرفات قد فعل الشيء نفسه وهو الذي رهن مصير حركة التحرّر الفلسطيني بيد أميركا ودول الخليج).
بالنتيجة، المقابلة حسّنت موقع ابن سلمان بالنسبة إلى أميركا لأنه أوضح أنه غير معني بالقضيّة الفلسطينيّة، وغير معني بما يجري في إسرائيل وأن صعود أي متطرّف (وكلهم متطرّفون هناك ضد العرب) لا يؤثّر على سياساته. وبالنسبة إلى الصين، أحسن وليّ العهد في تهديد أميركا بالتقارب مع الصين ومع روسيا. كان بعض الحكّام العرب يهدّدون أميركا بالابتعاد عنها والتقرّب من أعدائها، لكن التقارب الأخير مع الصين عزّز من حظوة السعوديّة في واشنطن. اقترب ابن سلمان من العرش كثيراً، لكن ثمن العرش باهظ، ولا يكفي القمع القاسي كي يريح المتربّع عليه.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار