| علي عواد
في فيلم Her (تأليف وإخراج سبايك جونز ــ 126 د ــ 2014)، تقول «سامانثا» (صوت نظام التشغيل الذكي ــ سكارليت جوهانسون) لـ «ثيودور» (خواكين فينيكس): «أتعلم؟ أستطيع أن أشعر بالخوف الذي تحمله، وأتمنى أن يكون هناك شيء يمكنني فعله لمساعدتك على التخلص منه. لأنّني لو أستطيع، لا أعتقد أنّك ستشعر بالوحدة بعد الآن». يعلّق: «أنتِ جميلة»، قبل أن تختم كلامها بشكره. هذه المحادثة التي كانت تُعدّ من نسج الخيال قبل عقد، باتت اليوم أقرب إلى الحقيقة!
أعلنت شركة OpenAI مالكة «تشات جي بي تي»، الأربعاء الماضي، عن تحديث جديد لنظام الذكاء الاصطناعي الخاص بها. أكثر روبوتات الدردشة المدعمة بالذكاء الاصطناعي تقدّماً في السوق، بات في وسعه أن يرى ويسمع ويتكلم. كما أنه بات متصلاً بالإنترنت، وبالتالي لم يعد محدوداً بالبيانات التي تدرّب عليها حتى عام 2021، ويمكنه أن يجول الشبكة بحثاً عما نطلبه.
تتيح إمكانات الصوت والصورة الجديدة في ChatGPT للمستخدمين إجراء محادثة صوتية مع برنامج الدردشة الآلي أو إظهار ما يتحدثون عنه. على سبيل المثال، يمكنك أن تطلب منه رواية قصة للأطفال، أو خوض نقاش معه. يمكن أيضاً أن نعرض عليه صورة لمنتج ونطلب منه إخبارنا بالمزيد عنه. أكثر من ذلك، منصة X (تويتر سابقاً) مليئة باستخدامات لم نكن نتصوّرها. فعلى سبيل المثال، أخذ أحدهم صورة رسم بياني وقدمه إلى ChatGPT الذي شرح محتواه بالتفصيل. وهناك من أخذ صورة لمجموعة من لافتات المرور التي لا توضح جيداً إن كانت تسمح في ركن السيارة، ليجيبه ChatGPT: يمكن ركن السيارة يوم السبت بعد الرابعة مساءً. الاستخدامات لا تُحصى. يمكن استخدامه لتوفير دعم العملاء عبر الصوت أو الدردشة والإجابة عن الأسئلة وحل المشكلات بسرعة وكفاءة، فضلاً عن استخدامه لإنشاء تجارب تعليمية مخصصة للطلاب من الأعمار جميعها، وتقديم ملاحظات عن عمل الطلاب ومساعدتهم في تحسين مهاراتهم. ولا تزال OpenAI تطرح الميزات الجديدة تباعاً، ولكن من المتوقع أن تكون متاحة للجميع في الأسابيع المقبلة.
بمعزل عن أهمية واقع أنّ ChatGPT بات قادراً على تحليل الصوت والصورة والتكلم معنا، يبقى الأهم أنّه صار متصلاً بالإنترنت، أي بين أيدينا اليوم ذكاء اصطناعي هو الأكثر تطوّراً وشعبية، يمكنه تأدية مهمات نأمره بها على الشبكة بمفرده. مثلاً، يمكن لنا إعطاؤه المال عبر البطاقة المصرفية وطلب حجز تذكرة سفر وغرفة فندق، أو التواصل شفهياً لحجز طاولة في مطعم مرموق. عملياً، هو وكيلنا في العالم الرقمي.
فكرة أن يكون هناك بديل رقمي ينفّذ المهمات بدلاً منّا في الويب ليست جديدة، إذ بدأ تطبيقها عملياً في 30 آذار (مارس) الماضي، عندما نشر حساب Significant Gravitas على موقع GitHub نظام ذكاء اصطناعي يدعى Auto GPT، مكتوباً بلغة «بايثون» ومدعوماً بنظام «جي بي تي 4»، و«أوتو جي بي تي». نظام قادر على أداء المهمات بأقل تدخل بشري ممكن، وعلى نحو يختلف عن كل ما شاهدناه حتى الآن من حيث القدرة على اتخاذ القرارات وتوجيه ذاته بنفسه. هو تقدم مذهل يكشف عن السرعة التي باتت تتحرك فيها الأمور في هذا المجال.
إنّ وصل ChatGPT بالإنترنت خدمة تهدف إلى دفع أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية إلى أبعد حدود، وملاحظة كيف ستتصرف من تلقاء نفسها. يتميز هذا التوجه بأمر بالغ الأهمية: «عملاء/ وكلاء الذكاء الاصطناعي» (AI Agents). إذ يمكن للمستخدم أن يخلق وكيلاً ويعطيه دوراً وهدفاً، وسيفعل الوكيل كل ما في وسعه لتنفيذ المهمة. هو قادر على تصفح الويب، كما يتمتع بذاكرة قصيرة وطويلة الأمد، تمكّنه من تخزين معلومات وإعادة استحضارها في إطار تجميع خبرة لتنفيذ مهمات أخرى. وبالإضافة إلى ذلك، يقيّم كل نتيجة يصل إليها ليحدد ما إذا كانت مناسبة أو يعيد تنفيذ المهمة بطريقة أخرى. كما أنّه قادر على إعادة كتابة الكود البرمجي الخاص به وتطوير نفسه. هذا يعني أنه قادر على تصحيح الأخطاء وتطويرها وتحسينها على نحو متكرر ومستقل، ولهذا وُصف في وادي السيليكون بأنّه: «أول لمحة عن الذكاء الاصطناعي العام (AGI)».
في انتظار أن تصل خدمة OpenAi الجديدة إلى المستخدمين جميعهم، بدأ بعضهم استخدام «أوتو جي بي تي» بالفعل. على سبيل المثال، يمكنه تطوير حساب على منصة تواصل اجتماعي وتغذيته، وحتى تطوير أعمال التجارة الإلكترونية. وكل ما على المستخدم فعله هو منحه هدفاً. ويستطيع النظام إجراء دراسة للسوق والشركات المنافسة في مجال معين، والبحث عن عملاء محتملين، وبناء التطبيقات والمواقع الإلكترونية وتصميمها، والاطلاع على أحدث المعلومات عن موضوع معين وإعداد «سكريبت» لبودكاست أو فيديو يوتيوب عنه، وحتى طلب فنجان قهوة أو حجز فندق أو رحلة طيران.
مبتكر Auto GPT، توران بروس ريتشاردز، الذي يستخدم اسم SigGravitas على X، وضع مقاطع فيديو توضح كيفية عمله وكيف يمكن استخدامه لحل المشكلات المختلفة. كما تتوافر عشرات الفيديوات التعليمية والتوضيحية على يوتيوب تشرح كيفية تنصيبه والتعامل معه. وهناك مستندات شاملة مرفقة مع النظام على موقع GitHub توضح كيفية التعامل معه.
في سبيل فهم حجم ما حصل، سنعرض نتائج بحث لجامعة «ستانفورد» بالتعاون مع غوغل، نُشرت أخيراً. أنشأ الباحثون لعبة فيديو تشبه The Sims (تدور حول عالم افتراضي يشبه عالمنا، يمكن للمستخدم أن ينشئ فيه شخصيات تعيش في منزل وتتعلم وتذهب إلى العمل، أي غالبية الأمور التي يفعلها البشر فعلياً). المهم، بعد خلقهم هذا العالم الافتراضي، أنشأوا 25 شخصية داخل اللعبة لا يتحكم فيها بشر، بل وكلاء ذكاء اصطناعي يديرهم «تشات جي بي تي». وجد الباحثون أنّه يمكن للوكلاء أن ينتجوا «محاكاة للسلوك البشري قابلة للتصديق» داخل اللعبة ومشابهة للواقع. مثلاً، حاول أحد الوكلاء إقامة حفلة عيد الحب عن طريق إرسال الدعوات وتحديد موعد ومكان (أتى خمس شخصيات من بينهم الحبيب السرّي). كما حصلت انتخابات لمنصب عمدة المدينة، وقالت إحدى الشخصيات «بصراحة، أنا لا أحب سام مور (شخصية مرشحة للمنصب)»، مضيفاً: «أعتقد أنّه بعيد عن المجتمع، ومصالحنا ليست في صميم اهتماماته».
«الذكاء الاصطناعي العام» قد يبصر النور بعد خمس سنوات من الآن
وتعليقاً على نتائج البحث، قال مايكل وولدريدج، أستاذ علوم الكمبيوتر في جامعة «أوكسفورد» ومدرّس مادّة الذكاء الاصطناعي، لموقع «إنسايدر»: إنّ النتائج هي «خطوات صغيرة» نحو تحقيق الـ AGI، وتُظهر قدرة أدوات الذكاء الاصطناعي على محاكاة السلوكات البشرية المعقدة مثل الوعي. ومع ذلك، لفت إلى أنّه «أمامنا طريق طويل لنقطعه» قبل أن يتحقق هذا الهدف. وأضاف أنّ وكلاء الذكاء الاصطناعي في الدراسة كانوا عرضة للهلوسة والإخفاق في تذكّر أحداث معينة، وهي أمور ربطها بكيفية تدريب النموذج.
في ألعاب الفيديو، يتحكم المستخدم في الشخصية الرئيسية، يطلق النار ويركض ويقفز ويقترب من شخصيات موجودة في اللعبة ويتكلم معها لتعطيه معلومات معينة قد يكون بحاجة إليها ليكمل مسيره. تلك الشخصيات تدعى NPC (اختصاراً لـ Non Playing Characters)، أي شخصيات لا يمكن للمستخدم أن يتحكم فيها (مثل شخصيات لعبة GTA)، وهي موجودة فقط لإضفاء طابع الحياة على عالم افتراضي. لكن مع تقنية وكلاء الذكاء الاصطناعي، بات يمكنها العيش فعلياً داخل هذا الواقع، وأن يكون لها مسار حياة إما تختاره هي، أو يضع عناوينه الرئيسية مبرمجون. وبالتالي، الأمور ذاهبة إلى انغماس أكبر للمستخدمين في ألعاب الفيديو. الحديث هنا عن أشباه بشر يعيشون في مكان افتراضي، ولديهم أفكارهم وآراؤهم وحياتهم. كذلك، سيحتاج «الميتافيرس» (العالم الموازي) إلى أعداد هائلة من وكلاء الذكاء الاصطناعي بداية، كي يبدو للبشر الذين سيدخلون هذا العالم الرقمي، أنه مكان حي، ولن يستطيعوا التمييز إن كان هؤلاء بشراً حقيقين أم ذكاءً اصطناعياً.
مشاهدة «أوتو جي بي تي» يعمل من تلقاء نفسه أمر مذهل، وربما تكون ميزات ChatGPT الجديدة أكثر إثارة للذهول عندما تصل إلينا. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ التقنية ما زالت في خانة الذكاء الاصطناعي الضيّق (Narrow A.I). صحيح أنّ الآلة باتت أكثر قرباً من سلوك البشر، لكنّها لا تزال غير واعية ومدركة لنفسها. وعبارة «الذكاء الاصطناعي العام»، تصف ذكاءً اصطناعياً لم تصنعه البشرية بعد، إذ يكون النظام مكافئاً للعقل البشري في كل شيء. في هذا الصدد، قال جوفري هنتون، الأب الروحي للذكاء الاصطناعي الذي استقال من غوغل أخيراً ليستطيع التكلم بحرية عن مخاوفه: إنّ «الذكاء الاصطناعي العام» قد يبصر النور بعد خمس سنوات من الآن.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار