| أحمد فوزي
لا شيء يعلو فوق صوت الانتخابات الرئاسية. على رغم أنّه النصر الأهم في مصر الحديثة، إلا أنّه لم يشهد أي احتفالات تذكر حتى الآن. في المقابل، يعمل العدو الإسرائيلي بدأب على إنتاج أفلام ومسلسلات وكتب تروّج لسرديّة التفوّق وسط غياب عربي شبه تام على هذه الجبهة
القاهرة | رغم أن شهر تشرين الأول (أكتوبر) وقبله أيلول (سبتمبر) كانا يشهدان باكراً بدء الاحتفال بذكرى النصر (نصر أكتوبر 1973) باعتباره النصر الأهم في مصر الحديثة، إلا أن هذا العام ـــ وهو الأهم مع مرور الذكرى الـخمسين للنصر ــــ لا يشهد أي احتفالات في مصر الرسمية حتى الآن. خلال الأيام الثلاثة الأولى من أكتوبر، لم يكن هناك سوى الحديث عن مؤتمر «حكاية وطن» الذي قدّم فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي «إنجازاته» خلال السنوات العشر الأولى من حكمه، قبل الانتخابات الرئاسية المقرر عقدها في كانون الأول (ديسمبر) المقبل. وإذا حضرت الانتخابات، سكت كل شيء.
الجهة الرسمية المنوطة بها هذه الاحتفالات، هي وزارة الثقافة المصرية، التي يبدو أنها تغطّ في سبات عميق منذ مجيء نيفين الكيلاني إلى الوزارة (آب/ أغسطس 2022). في الحقيقة، لا ينحصر الأمر فقط بذكرى أكتوبر، فقد مرّ قبلاً عدد من المناسبات لأحداث قومية هامة من دون أن يكون لوزارة الثقافة دور كبير في إظهار قيمة هذه الأحداث التاريخية. وبذلك، باتت هذه المناسبات في مصر تمر مرور الكرام من خلال الوزارة، التي لم تعلن عن برنامج للاحتفاء بالذكرى الخالدة، سوى يوم الأول من تشرين الأول (أكتوبر) فقط، وهو موعد متأخر جداً عما اعتادت الوزارة إقامته. وقد جرت العادة أن يكون احتفال وزارة الثقافة بنصر أكتوبر بأجندة معينة، تحفل بعدد من الأنشطة والحفلات والندوات التي تستضيف كل مَن شاركوا في الحرب، لكن هذا العام يبدو أن لا صوت يعلو فوق صوت الانتخابات الرئاسية حتى في وزارة الثقافة، فالحديث عنها أخذ كل شيء حتى الانتصار نفسه!
وفي حين أعلنت وزيرة الثقافة في تشرين الأول 2022، أنها ستعمل على مدّ الاحتفالات بانتصار أكتوبر لمدة عام من الذكرى الـ49 وحتى الخمسين، أي حتى الشهر الحالي «دونما انقطاع لتعزيز الهوية المصرية» كما أوردت الوزيرة في بيانها، إلا أن هذا لم يكن ظاهراً على الإطلاق، ولم يشهد العام احتفالات بارزة يمكن أن يعرفها الجمهور لنقول من خلالها إنّ مصر تحتفل بالانتصار الأكبر في تاريخها على مدار عام كامل، كما أنّ لا وجود لهذه الخريطة الثقافية الممتدة لعام كامل على موقع وزارة الثقافة الرسمي. وأوردت الوزارة في بيان، أنّها ستقيم حفلات موسيقية على مسارح الأوبرا ومراكز الإبداع. اللافت أن البيان اتسم بالغموض. بعيداً عن قلة الحفلات التي تشرف عليها ويحييها نجوم كبار في القاهرة بتلك المناسبة، إلا أنّ هناك تخبطاً غير مفهوم في المواعيد. على سبيل المثال، لم يأت البيان على ذكر موعد العرض الذي يشرف عليه المخرج المتميز خالد جلال بتلك المناسبة على «مسرح الهناجر» في دار الأوبرا المصرية. كما أورد البيان أنّ النجم علي الحجار سيحيي «حفلة في مدينة الإسماعيلية في الرابع من أكتوبر احتفالا بذكرى النصر المجيد»، ليفاجأ الجمهور بأنّ الحفلة على «مسرح السامر» في منطقة العجوزة المواجهة لمبنى دار الأوبرا نفسه. في المقابل، فوجئ الجمهور بسلسلة حفلات لم يعلن عنها مسبقاً تقام في عدد من ميادين القاهرة أو في المحافظات احتفالاً بالذكرى الخمسين لنصر أكتوبر يشارك فيها مطربون أمثال محمد فؤاد ومرامي صبري، لكنّها حفلات لا تشرف عليها الوزارة، وإقامتها في الهواء الطلق وسط تلك الحشود، تشير إلى أن هناك جهات أمنية وربما سيادية تولت أمر تدبيرها سريعاً ليس بهدف الاحتفال بالذكرى فقط، لكن أيضاً للترحيب بموسم الانتخابات وتأييد الرئيس. وهو ما حدث أيضاً في الاحتفالات التي حضرها السيسي نفسه وأحياها نجوم كبار. وفي حين توقّع بعضهم أن تعلن «الشركة المتحدة» المملوكة للدولة، عن مسلسلات أو أفلام أُنتجت خصيصاً للاحتفال بالمعركة، وخصوصاً أنّ الشركة التابعة للأجهزة الأمنية لن تجد صعوبةً في الحصول على تراخيص وموافقات لتقديم أي شيء عن الحرب، إلا أن هذا لم يحدث. لقد كان المُنتج الوحيد الذي خرج من «المتحدة» هذا العام هو إعلان من قناتها «الوثائقية» عن حلقات للقاءات تلفزيونية مع خبراء أجانب في شؤون الحرب! هكذا، ما زالت المسلسلات والأفلام عن حرب أكتوبر محصورة بأعمال قديمة جداً، قدم أبرزها الفنان الراحل محمود ياسين مثل فيلمي «الرصاصة لا تزال في جيبي» و«الوفاء العظيم» اللذين أُنتجا عام 1974، أي بعد عام واحد من الحرب. كما أن إنتاج أي أفلام أو مسلسلات عن حرب أكتوبر كان متوقفاً لسنوات طويلة، ما دفع المصريين إلى التساؤل الدائم: «متى نحكي الحرب للأبناء؟». في عام 2019، عُرض فيلم «الممر» الذي قدمته مجموعة من الفنانين المحسوبين على «الشركة المتحدة» أمثال أحمد عز، وروِّج وقتها للفيلم وقتها كونه أضخم الإنتاجات في تاريخ السينما المصرية بميزانية تجاوزت 100 مليون جنيه (أكثر من 3 ملايين دولار بقليل)، إلا أنه لم يكن على المستوى المطلوب فنياً، وإن كانت البروباغندا حوله كبيرة جداً.
الغياب الدرامي لمصر الرسمية عن احتفالات اليوبيل الذهبي لنصر أكتوبر، جعل الفضاء الإلكتروني مباحاً لفيلم «غولدا» الذي يتناول سيرة غولدا مائير (1898 -1978)، رئيسة وزراء كيان العدو، إبان حرب أكتوبر، وتؤدي بطولته الممثلة الإنكليزية هيلين ميرين، ويخرجه الإسرائيلي غي نتيف الذي ــ للمفارقة ـــ من مواليد عام 1973 (راجع المقال في مكان آخر من الصفحة). هكذا خرجت أصوات مصرية على مواقع التواصل الاجتماعي تنتقد الغياب المصري الفاضح في أفلام أو مسلسلات تروي القصة من الجانب المنتصر بدلاً من تركها مباحة ومتاحة للعدو ليحكي قصته. وكل فترة تقريباً، يعلن العدو الإسرائيلي عن جديد في الدراما والكتب والوثائق التاريخية التي تعود لفترة الحرب، ما يثير الجدل حول الحرب كلها، آخرها كتاب جديد تحت عنوان «ذات يوم… عندما يكون الحديث مسموحاً» يتحدث عن أشرف مروان صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وسكرتير الرئيس الراحل أنور السادات، بدعوى أنه عمل كجاسوس لصالح إسرائيل، وهكذا كل عام يحفل شهر أكتوبر باحتفالات المهزوم بسبب غياب احتفالات المنتصر.