أسعد أبو خليل
لبنان تحت الاحتلال الإيراني. نسمع ذلك من قبل حملة دعائيّة مموّلة من أنظمة الخليج ودول الغرب (عبر جمعيّات ووسائل إعلام «بديلة» وتقليديّة، وعبر كتّاب تمرّسوا في تغيير وجهة قلمهم بحسب الأجر المدفوع). لكن نيك ترس، في الـ«إنترسبت» كشف بالتفصيل عن طبيعة العلاقة التي تربط الحكومة الأميركيّة بالجيش اللبناني، وما تخطّط له الحكومة الأميركية من حروب بالواسطة على أرض لبنان (هذه برسم الذين يهتفون لإسرائيل وهي تقصف الجنوب: «ما بدنا حرب»، «نحن دعاة سلام»، ولاقاهم الميقاتي في كلامه في الجنوب، من أنه يحمل [لمن؟ لإسرائيل طبعاً] رسالة سلام وثقافة سلام). وفيما نحن نتلهّى بأخبار هبات طائرات رشّ المبيدات وطائرات هليكوبتر زجاجيّة يمكن إسقاطها بالحجارة أو الإجاص، هناك معلومات (رسميّة في مصادرها) عن تشكيل الحكومة الأميركيّة، تحت جناح المجلس النيابي المنتخب والحكومة، قوّة ضاربة في الجيش اللبناني ومهمّتها القضاء على حزب الله. طبعاً، نستطيع أن نضحك وأن نقهقه بعد قراءة هذه الجملة، لأن هناك من لا يزال يذكر كيف فرّ عناصر الجيش وقوى الأمن من أمام حزب الله في يوم (أو هي سنة؟) ٧ أيّار.
هناك تخويل رسمي أميركي لتشكيل قوات في داخل الجيوش العربيّة لتنفيذ أوامر أميركية في الحروب بالواسطة. برنامج «١٢٧-إي» للبنان واحد من ٢٠ برنامجاً (كان ذلك في عام ٢٠١٩). يقول قائد العمليّات الخاصة السابق في القوات المسلّحة الأميركيّة إن البرنامج اللبناني يُعدّ من النجاحات. ووفقاً لبرنامج «١٢٧-إي» فإن القوات الأميركيّة «درّبت وسلّحت وقدّمت المشورة وأدارت وحدة نخبة معروفة بـ”القوة الضاربة التابعة للمخابرات”». ويقول أحد الخبراء الأميركيّين إن «دعم أميركا لقوات الواسطة (أي التي تتحرّك حسب الإرادة والأجندة الأميركيّة) تدخل من ضمن سياسات فائقة العسكريّة نحو الشرق الأوسط على مدى سنوات». ودرّبت أميركا ١٢٠ ضابطاً لبنانيّاً في أميركا منذ عام ٢٠٢٠. ويعترف الناطق باسم القيادة الوسطى بأن برنامج عمليّات محاربة الإرهاب في لبنان في الجيش اللبناني موجّه أساساً ضد حزب الله. هكذا يعترفون بذلك، ويمكن رصد تناقص ذكر الخطر الإسرائيلي في تصريحات وأدبيّات الجيش في السنوات الأخيرة (لكن قد يكون ذلك صدفة، ربما بسبب النهج الإنساني واللاعنفي للحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة). وفي وثيقة سرّية حصلت عليها الـ«إنترسبت» يرد أن الأعمال (العسكريّة اللبنانيّة) تخدم لتحديد وعزل وحرمان الملاذ لـ…» (وهنا تفرض المراقبة الحظر على آخر الجملة، لكن يمكن الاستنتاج أن ما يلي ليس حزب النجادة ولا حزب الحوار الوطني، الذي لم يكن حاضراً يوم التخطيط الإيراني لعمليّة “طوفان الأقصى”، حسب ما أكد المخزومي نفسه في توضيح استراتيجي للجريدة). ترفض القيادة الأميركيّة الوسطى الحديث عن «القوة الضاربة» في الجيش اللبناني والتي تشرف عليها القوات المسلّحة الأميركيّة (يسقط الاحتلال الإيراني). ويثني قائد العمليّات الخاصة السابق في القوات المسلحة الأميركيّة على عمل القوة الضاربة تلك ويقول إن لديهم، بالمقارنة مع وحدات الجيش اللبناني الأخرى، «خط هرمية أكثر مباشرةً للقيادة، وإنهم أصغر حجماً وأكثر رشاقةً واستجابةً وهم متخصّصون في العمليّات الهجوميّة» (فلتحذرْ إسرائيل، إننا نحو فلسطين قادمون بفضل هذه القوة الضاربة التي شكّلها لنا الجيش الأميركي لتحرير فلسطين، والإسكندرونة فيما بعد).
ويخضع فريق القوة الضاربة اللبنانيّة لاستقصاء مخابراتي وامتحان فحص الكذب وتحدّيات جسديّة وعقليّة قبل انتقائهم من قبل قوات العمليّات الخاصّة الأميركيّة. أي أن الجيش الأميركي يُخضع أفراداً في الجيش اللبناني لعمليّات استجواب وخضوع وفحص الكذب (يا لذروة السيادة الوطنيّة، ويسقط الاحتلال الإيراني المستشري). ولا يندرج قانون «١٢٧-إي» تحت «قانون ليهي»، وهو قانون عقيم يحظّر، نظريّاً، على الولايات المتحدة منح مساعدات عسكريّة إلى أيّ قوات تخرق حقوق الإنسان. ويبدو أن القوات المسلّحة الأميركيّة راضية عن البرنامج المذكور وتقول عنه إنه كان من أكثر البرامج فعاليّة في المجهود الحربي الأميركي خلال العقد الماضي. ويقول قائد القوات الخاصة الأميركية السابق عن «الوكلاء المحليّين» (بالحرف في المقالة) إنهم «شركاء متحفّزون وقادرون».
أميركا تفعل ما بوسعها كي تحمي إسرائيل من حزب الله ليس بالمشاركة في الحرب بالنيابة عنها ضده بالضرورة، بل بلجم إسرائيل من محاولة فتح جبهة في الشمال
هذه المقدّمة ضرورية للحديث عن السياسة الأميركية نحو ما يجري ونحو لبنان. هناك من ابتهج بخبر وصول حاملة الطائرات الأميركيّة نحو شواطئنا لأنه كان على يقين من أنها آتية لاستئصال حزب الله لهم، وأن حاملة الطائرات ستتخلّص لهم من جبران باسيل وحتى من التنظيم الشعبي الناصري، لو أنه بقي على مبادئه وعهده الناصريّين. لقد استثمرت أميركا كثيراً في لبنان، لكن ليس إلى الدرجة التي استثمرت فيها في العراق وأفغانستان. تدرون كم هي المليارات التي أنفقتها أميركا على تجهيز الجيش العراقي والجيش الأفغاني وتدريبهما كي يحاربا ويموتا بالنيابة عن أميركا؟ النتيجة كانت كارثيّة. انهار الجيش العراقي بالكامل أمام جحافل «داعش»، أمّا الجيش الأفغاني، الذي خضع لعشرين سنة من التدريب والإعداد المباشر من قبل الجيش الأميركي، فإنه انهار في غضون ساعات فقط بمجرّد أن رحلت القوات الأميركيّة عن أفغانستان. الذي يوقّع (سرّاً حتماً، وأشكّ أن الحكومة اللبنانيّة مطّلعة على تفاصيل البرنامج) على الاتفاقية العسكريّة هذه مع أميركا، هل يظنّ أن هناك قدرة جديّة أمام أي قوّة ضاربة أو صاعقة أو جبّارة (المرعيّة من أميركا العظمى) لمقاتلة حزب الله في لبنان؟ وإذا كان الجيش الإسرائيلي فرَّ مذعوراً من أمام هؤلاء المتطوّعين في الجنوب في حرب تمّوز، فما بالك بإخوة من الجيش اللبناني؟
الحكومة الأميركيّة تحسب ألف حساب لحزب الله. ليس من المبالغة القول إن الحزب أصبح قوّة إقليميّة نافذة تؤثّر على مسار العلاقات الدوليّة. لم تصل منظمة التحرير في عزّ قوتها إلى هذه المرتبة، ربما لأن عرفات لم يستثمر جديّاً في تنمية القدرات العسكريّة للمنظمة ولأن اعتماد عرفات على التمويل الخليجي ترك أثراً بالغاً على المسار السياسي والعسكري للمنظمة. الوثائق الأميركيّة المُفرَج عنها تؤكّدأن الملك فيصل كان، بإيعاز أميركي، يستعمل نفوذه مع عرفات كي يدفع باتجاه تسووي في القضيّة الفلسطينيّة (طبعاً، بعض الكتابات الرومانسيّة عن الملك فيصل تجعل منه فارساً كاد أن يصل بجواده إلى القدس لولا أنه تعرّض للاغتيال). إسرائيل ودول الغرب تتحدّث عن حجم قوّة الحزب. وهذا مصدر قوّة للبنان، طبعاً إلا أن أكثر من نصف لبنان لا يريد هذه القوّة لأنه تربّى على «قوة لبنان في ضعفه»، وهذا الفريق على حق في أن قوّة الحزب لها مضاعفات على تعاطي دول الغرب مع لبنان. هي تريده ضعيفاً وخانعاً وتساعده لو بقي ضعيفاً وخانعاً، لكنها تعاقبه لو بنى قوّة ترهب إسرائيل وتردعها. هذه سياسة أميركيّة معلنة: إنها ستفعل كل ما في وسعها (من مساعدات لإسرائيل وعقوبات وإجراءات ضد الدول العربيّة، الصديقة والعدوّة على حد سواء) من أجل ضمان تفوّق إسرائيل العسكري على كل دولة عربيّة على حدة أو على أي مجموعة من دول عربيّة تفكر في محاربة إسرائيل.
لكن قلق أميركا على إسرائيل هذه الأيام له ما يبرّره. إسرائيل منقسمة (كما أميركا) أكثر من أي وقت مضى. وهناك شلل حكومي والانقسام ثقافي وسياسي على حدّ سواء. والدولة تنزع عنها الصفة الليبراليّة المزيّفة التي أسبغتها على نفسها لتكسب رضى الغرب، تماماً مثل مسار جمهورية الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وأميركا قلقة من هذا الخوف والرعب الظاهر للعيان من قبل الجيش الإسرائيلي إزاء مقاتلي «حماس» و«حزب الله». أميركا تفعل ما بوسعها كي تحمي إسرائيل من حزب الله ليس بالمشاركة بالحرب بالنيابة عنها ضده بالضرورة، بل بلجم إسرائيل من محاولة فتح جبهة في الشمال. هي تعلم أكثر من إسرائيل قدرة الحزب على إلحاق الأذى المدمّر بدولة إسرائيل. فكّروا للحظة أن العدوّ لديه خطّة للدفاع عن الجليل من توغّل جدّ محتمل من قبل الحزب. لبنانيّون ممكن أن يدخلوا الجليل مُحرّرِين. أين كنا زمن عقيدة فؤاد شهاب التخاذليّة (التي كانت تحرص على أن يخلف لبنان بكل وعوده في مجلس الدفاع العربي المشترك) وزمن المقاومة المنيعة اليوم؟
وقع بايدن في ورطة، الخلاص منها صعب. وعد إسرائيل بسماح مطلق للحرب، وجرَّ معه كل دول الغرب المُطيعة (كلها باتت بنفس درجة الطاعة: قارن ذلك بزمن ميتران وشيسون، على سوء الاثنين لكن كان هناك هامش فارق بين حكومة فرنسا وأميركا عن الشرق الأوسط، حتى لا نتحدّث عن كندا التي كانت متقدّمة في مواقفها قبل أن يخطفها اللوبي الصهيوني قبل عشرين سنة. في التسعينيات، كانت وزارة الخارجية الكنديّة تدعوني إلى أوتاوا كي تستمع لآرائي عن الشرق الأوسط. قبل بضع سنوات، رفضت الحكومة السماح لجامعة تورونتو بدعوتي). بايدن لا يستطيع تجاهل الرأي العام الشبابي المناصر لفلسطين، في أميركا نفسها وفي دول الغرب. وهذا بدأ يتراكم بالرغم من تراصّ الحزبَين ومن تراصّ التغطية الإعلاميّة الشنيعة في خانة آلة الحرب الإسرائيليّة. الحكومة الأميركيّة ضغطت على الحكومة القطرية كي تلجم تغطية «الجزيرة» من دون أن تعلم أن الشباب العربي يتابع محطات أكثر جذريّة من «الجزيرة» أو مواقع أكثر جذريّة على الإنترنت.
اندفعت أميركا ومعها دول الغرب إلى موقع يصعب الفكاك منه. أميركا تساهم عسكرياً واستخبارياً في التخطيط والتنفيذ مع العدوّ. أصبحت أميركا للمرّة الأولى في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي مشاركة فعّالة في الدفاع عن إسرائيل، وهذا سيزيد من تآكل القوّة الاستراتيجيّة للعدوّ. سيعرف أعداء إسرائيل أنها باتت أضعف إلى درجة أنها تستنجد بأميركا تماماً كما كان حزب «الكتائب» يستنجد بالجيش السوري حيناً وبالجيش الإسرائيلي حيناً آخر. لم يعد أمام بايدن إلا الاستجابة الجزئية للمطالبة بوقف النار عبر السماح بتوقّف قصير لإطلاق النار من أجل تمرير مساعدات إنسانيّة نزيرة.
الحرب لم تتوقّف، ولن تدعها أميركا تتوقّف لأن إسرائيل ستخرج منهزمة مرّة أخرى أمام عدوّ عربي. تستطيع الحكومة الأميركيّة أن تستخدم قواتها في الدول العربية للدفاع عنها (كما فعلت أخيراً عندما استخدمت بطاريّة الباتريوت في المملكة من أجل صدّ هجوم صاروخي ضد إسرائيل من الحوثيّين. أرض الحرمين قاعدة للدفاع عن إسرائيل. هنا نشرت «وول ستريت جورنال» مقالة مُضلّلة قالت فيها إن بطاريّة سعودية هي التي صدّت صواريخ الحوثيّين، لكن الحقيقة لا تحتاج إلى وثائق هنا).
لبنان لم يسعَ للحرب، والمقاومة لا تسعى للحرب، لكن قدرتها على الردّ السريع تعطي رسالة لإسرائيل، كما لأميركا، أن هناك في لبنان اليوم قوة مستعدّة للتصدّي وردّ العدوان.
سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية