.
الجميع ينتظر انتهاء ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبدء ولاية الرئيس المنتخب جو بايدن، منهم من ينتظر على أحرّ من الجمر، إذ اعتبر البعض أنّ التّغيير المرتقَب في سياسة الإدارة الأميركية، سيكون لمصلحته، بعد أن عانى الأمرّين من الرئيس ترامب، ومنهم الآخر ينتظر بخوفٍ وخشية. صحيحٌ أنّ هذا البعض الآخر (الخائف) كان يفضّل نجاح ترامب وفوزه بولايةٍ ثانية، إلاّ أنه ما لبث أن اقتنع اليوم بخسارته، وبدأ يعمل على تقبّل الأمر الواقع والتقرّب من بايدن، إمّا مباشرةً أو من خلال تغيير مناورته لنيل رضى الأخير.
ومع انقسام هؤلاء بين مؤيّدٍ أو معارضٍ للتّغيير الجديد في الإدارة الأميركية، فإنّ أغلبهم يعلمون علم اليقين، أنّ هناك نسبة كبيرة من الإستراتيجيّات الأميركيّة هي استراتيجيّاتٌ ثابتة وستبقى ثابتة مع أي رئيس، وخاصةً تلك المتعلّقة بأمن “إسرائيل” أوّلاً، وبالثّبات على سياسة السّيطرة وفرض النّفوذ حول العالم؛ وطبعاً الجميع يعرف، مع عجز الكثير من هؤلاء على المواجهة، أنّ سياسة واشنطن ستبقى قائمةً على استمالة أو تطويع الأنظمة والشعوب، تحت الشّعارات المعروفة التي تصوّر الولايات المتحدة كراعيةٍ للديمقراطية أو داعمةٍ للأصدقاء والحلفاء وغيرها من الشّعارات المزيّفة والخادعة.
من بين هؤلاء الأطراف، يقف اليوم الأتراك وبالتحديد الرئيس رجب طيب إردوغان، موقفاً حسّاساً، فيه الكثير من الخوف والخشية، نظراً لما أبداه الرئيس المنتخب جو بايدن، خلال ترشّحه وقبل ذلك، خلال حياته الدبلوماسيّة والسياسيّة في الكونغرس أو كنائبٍ للرئيس السابق باراك أوباما، من معارضةٍ وعدم رضى وامتعاضٍ من سياسة أنقرة ومن أداء الرئيس إردوغان بالتحديد.
ظاهريّاً، لم يكن الأخير (إعلامياً فقط) على علاقةٍ جيّدة مع الرئيس ترامب، ولكن عملياً، كان ترامب يغضّ النّظر، لا بل يدفع ويوجّه إردوغان نحو اقتحام عدة ملفّات، وكان الأخير في النّهاية، وبرغم الصّراخ والعويل علناً وجهارا ضد الرئيس ترامب، يعمل لصالح الإستراتيجية الأميريية. هذه الملفّات التي كان إردوغان “عميلاً أميركياً” فيها، يمكن تحديدها على النّحو التالي:
في سوريا، حيث كان الأتراك ينفّذون سياسة واشنطن، حينما كانت هذه الأخيرة تتراجع أمام المواجهة، خاصةً في إدلب وقسمٍ كبيرٍ من الشّمال السّوري، وبالرغم من عدّة اتفاقاتٍ تركيّة مع الرّوس أو مع الإيرانيين حول إنهاء وضع إدلب والشّمال السّوري ووضع الإرهابيّين في تلك المنطقة، بقيت الأمور معقدّةً تماماً كما تريد واشنطن، حيث كان هدفها وما زال، إقصاء السّلطة السّورية عن تلك المنطقة، والإبقاء على الشرخ والتوتّر والإرهاب فيها، كشوكةٍ مؤذيةٍ في خاصرة الدولة السورية.
في ليبيا، صحيحٌ أنّ واشنطن كانت في البداية غائبةً عن مسرح وميدان التوتّر والصّراع اللّيبي، في الوقت الذي كان هناك تواجدٌ فعّالٌ ولو بدرجاتٍ مختلفة لكلٍّ من روسيا وتركيا ومصر والإمارات وفرنسا وإيطاليا، الأمر الذي كان يبدو غريباً (غياب واشنطن عن ملفٍّ أفريقيّ متوسطيّ مهمّ)، كان الوجود الأميركي ممثَّلاً بشكلٍ شبه كاملٍ من خلال الدّور التركي، حيث كان له تاثيراً عسكرياً بارزاً في الميدان اللّيبي من خلال نقل عشرات آلاف الإرهابيين للقتال ضد الجيش اللّيبي المدعوم من أغلب الأطراف الآنف ذكرها، وتأثيراً سياسيّاً بارزاً من خلال دعم نفوذ حكومة السراج، وكلّ ذلك كان يجري في ظلّ مسرحيّةٍ، فيها صدامٌ ظاهريٌّ وخادع، بين الدبلوماسيّة التركية ونظيرتها الأميركية.
في شرق المتوسط، من غير المنطقيّ والطبيعيّ أن تصوّب واشنطن (ولأكثر من مرّة) على أنقرة في موضوع حركة تركيا في شرق المتوسط، لناحية مخالفة تركيا للقانون الدّولي وقانون البحار على سواحل اليونان وقبرص وفي المياه الخالصة للدولتين المذكورتين. في هذا المضمار، تعود سفن التنقيب التركيّة كل فترةٍ، لتمارس مظاهر الاستفزاز والتعدّي في تلك المنطقة البحريّة الحسّاسة، ليبدوَ الموضوع عملياً، غير بعيدٍ عن استفزازٍ أميركي غير مباشرٍ للأوروبيين، على خلفيّة إبقاء ملفٍّ شائكٍ مفتوحٍ في وجه الإتحاد الأوروبي، يحتاج دائماً إلى الحماية والرعاية الأميركية.
ملفّ أذربيجان وناغورنو كاراباخ أيضاً، يمثّل حقيقة الإرادة الأميركية التي أوكلت إدارته إلى تركيا، للضّغط على كلٍّ من روسيا وإيران وأرمينيا، لينتهي كما أعلنت تركيا منذ البداية، بانسحاب أرمينيا من الأراضي الأذرية.
إضافةً إلى الدور الأميركي (الترامبي) الخفيّ والدّاعم والمستغلّ لإردوغان في مغامراته المذكورة، لا شكّ أنّ سياسة تركيا مع إردوغان كانت مختلفةً ومميّزة. صحيحٌ أنّ إردوغان قد خاض مغامراتٍ نجح في بعضها وفشل في البعض الآخر، إلاّ أنّ أحداً لا يسعه إنكار دور تركيا (العدالة والتنمية) أو تركيا (إردوغان) الذي خلّف بصماتٍ لافتةً في السياسة الإقليميّة والدولية، وهي اليوم تملك الكثير من النّقاط التي تجعل موقعها قوياً، وتفرض على الآخرين، وخاصةً بعض الأطراف الدوليّة والإقليميّة، معادلةً سافرة تقضي بعدم تجاوزها، استناداً إلى النقاط التالية:
– موقعٌ جغرافيّ استراتيجيّ وحيويّ، يربط أوروبا بآسيا وبالقرم والقوقاز، ويربط البحر المتوسط بالبحر الأسود وبحر قزوين عبر أذربيجان، حيث نتكلّم اليوم عن علاقة تحالفٍ متينةٍ بين تركيا وأذربيجان.
– موقعٌ ديموغرافيّ واسع الارتباطات، وذلك لأسبابٍ دينيّةٍ وثقافيّة وتاريخيّة. تشكّل تركيا (وخاصّةً مع فكرة العدالة والتنمية)، في العدد الكبير من بلدان آسيا الوسطى وجنوب القوقاز والعرب (بعضهم)، مرجعاً سياسيّاً وقيادياً لا يمكن تجاوزه، تستطيع من خلاله تركيا التأثير على مروحةٍ واسعةٍ من الدّول المذكورة، وتوجيه سياساتها، بالحدّ الأدنى الذي يعطيها إمكانيّة تجيير ذلك في سياساتها الدوليّة والإقليميّة.
هذه النّقاط القويّة التي تملكها تركيا، فهمها واستغلّها جيّداً إردوغان. عمل إردوغان مع الرئيس ترامب على استغلالها، فمن الطبيعي إذن أن يحذو حذوه مع الرئيس بايدن من خلال مناوراتٍ واستغلالٍ للنقاط التي أقحم إردوغان نفسه بها. والأهمّ من ذلك، أنّه – أي إردوغان – لم يحصر استغلاله لهذه النّقاط بهدف تثبيت علاقته بالرئيس ترامب فحسب، بل استغل ذلك أيضاً وبقوةٍ مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأمر الذي يعزّز موقعه كطرفٍ مهمٍّ في العلاقة معه، وهي علاقةٌ ضروريّةٌ ومطلوبةٌ بالنسبة للأميركيين وبالنسبة للروس في آن.
من هنا، وبمعزلٍ عن نظرة الرئيس الأميركي المنتخب جو بادين غير الودودة للرئيس إردوغان، من الطّبيعي أن يسلك الأخير وبالحدّ الأدنى، في أيّ مسارٍ دوليٍّ يؤمّن مصلحة أميركا أوّلاً وموقع تركيا. في سبيل تأمين هذه المصلحة، هناك ثابتٌ واضحٌ ومعروف ومؤشّرٌ كافٍ يتمثّل بهرولة المملكة العربية السعودية مؤخّراً للتقرّب من تركيا، أو على الأقلّ لتخفيف الإحتقان الذي واكب علاقتهما في عهد ترامب. تكفي هذه العلامات لفهم موقع تركيا الحيوي، وفهم موقف بايدن الذي لن يتجاوز هذه العلامات حكماً.
(سيرياهوم نيوز -الميادين6-12-2020)