آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » في أنقاض النيوليبرالية: خبثُ العالم الحر

في أنقاض النيوليبرالية: خبثُ العالم الحر

أحمد رجب

 

«لقد كان خطأً مميتاً، أن تسمح بدخول هذا العدد الهائل من الناس من مختلف الأعراق والأديان والثقافات… سيصنع هذا جماعات ضاغطة داخل كلّ دولة»

 

هنري كسينجر حول التظاهرات الداعمة لحماس في ألمانيا

 

في كتابها «في أنقاض النيوليبرالية»، تنطلق الكاتبة ويندي براون في نقدها للنيوليبرالية ليس من المنظور الاقتصادي فقط، بل تُعيد قراءة الصورة عبر أحد مؤسّسي النيوليبرالية فردريك هايك (Friedrich Hayek) الذي يرى أنّ السوق والأخلاقيات هما سوياً إحدى ركائز الحرية والانتظام وتطوّر الحضارة، في حين أن هذه الأخلاقيات لا تتطور إلا بعد الحد من تدخّل الدولة (فصل السياسة عن الاقتصاد والسوق) عبر خصخصة القطاع العام ومرافقه وتحرير رأس المال من القيود (خفض الضرائب والتعرفة الجمركية على رؤوس الأموال الأجنبية)، إضافة إلى إطلاق المبادرة الفردية.

 

يشرح هايك في نظريته أهمية إنهاء العدالة الاجتماعية في ظل النيوليبرالية لما تشكله من خطر على تقدم الدولة وتطورها، لتحل مكانها أعمال الفرد والأخلاقيات التقليدية التي يرثها، أي إن كنت فقيراً وبدأت من الصفر (الذي لم يعرف أحد ماهيته) وصعدت طبقياً كجائزة للأعمال التي قمت بها، فإنّ ما يحدد طريقة تعاملك مع المجتمع هو عاداتك الأسرية، وللمحظيين الجوائز الكبرى طبعاً. ما تريد الكاتبة قوله إن النيوليبرالية لم تقم بفصل الفرد عن بيئته ومجتمعه فقط، بل فتّتت هذا المجتمع وتركت الفرد وحيداً يُجابه كل العقبات (قروض سكنية، قروض تعليمية، تأمين طبابة…)، ويتعامل مع الذئاب التي تولّدت كنتيجة حتمية لها بأخلاقيات أسرته أو مجتمعه.

لذلك، فإن هذه الإجراءات لم تُعد إحياء الرأسمالية فقط من أزمتها عام 1970، بل أنقذت كلاً من الفرد والعائلة من عوامل التفكّك في عصرنا الحالي. أي إن هذا الفرد لم يتحرّر من تقاليده، بل أضاف هذه التقاليد إلى الفكر النيوليبرالي الذي أصبح أمميّاً أو عابراً للقارات. من هنا سترى شخصاً كترامب، مثلاً، يناهض المثلية والتعددية ويدعو إلى تحرير السوق في الوقت عينه لحماية الرجل الأبيض أو العرق الأبيض.

 

واليوم، لسنا أمام رجل أبيض متطرف فقط نتيجة للشرخ الطبقي الناتج من السياسات النيوليبرالية في مجتمع أصبح العرق الملوّن فيه أكثر تعلّماً وإنتاجيّة، بل أمام رجل أبيض يشعر بالضغينة والاضطهاد، ما تسبّب بإعادة إنتاج أو هيكلة حرب الحضارات. هذه اللوثة التي تستنكرها الكاتبة أصابت الأيديولوجيات كافة ليس في الغرب فقط، بل عالمياً من ليبراليين إلى يساريين بكل أنواعهم وتشعّباتهم. بماذا تفسر سلوك اللبناني المغترب الذي نفض غبار النظام اللبناني عنه (كما يدّعي) يشكو من عنصرية الغربيين تجاهه ثم يشكو من العامل السوري (الفقير طبعاً) الذي ينافسه في لقمة عيشه داخل بلده.

فعلياً النيوليبرالية ظهرت بداية في دول الجنوب، في تشيلي عام 1973، كسياسة اقتصادية إصلاحية لدول مارقة، ما لبث أن تبناها صندوق النقد الدولي ليس للإصلاح حتماً، بل لتحقيق الأهداف الأميركية والهيمنة، وانتقلت إلى الغرب مع تاتشر. فهذه السياسة لم تقم على عزل الفرد عن محيطه فقط، بل هي بداية قامت بانتزاع المكنون السياسي منه بهدف منع أي محاولات لتشكيل مكون سياسي (حزب، مجموعة دينية…) قد يشكل لاحقاً أسساً لإعادة فرض تدخّل الدولة.

 

فريدمان وصبيته لم يكونوا بسطاء ولا هم أرادوا نشر الديموقراطية والحرية والإنسانية أو انحرفوا عنها، بل كانوا يبحثون عن مصالح طبقتهم وديمومتها، لذلك عندما أرادوا إنشاء الفرد المنغمس في المبادئ الإنسانية العالمية من جهة وعلاقته بمحيطه وبكل مراحل حياته القائمة على المصلحة الذاتية من جهة ثانية، فإنّ هذا الفرد تحديداً لن يرى في غيرهم منقذين من العدو؟ لهذا، فإنّ المعضلة الجوهرية اليوم ليست ممّا تشكو الكاتبة منه، أي تلك الطبقة الغربية المناهضة للحريات والديموقراطية وتستفيد من هامش الحريات خاصةً «حرية التعبير» التي أطلقت السياسات الليبرالية والنيوليبرالية العنان لها لبثّ خطاب الكراهية في الغرب والولايات المتحدة، بل كيف لكلّ هؤلاء في الولايات المتحدة والغرب والكرة الأرضية جميعها أن يجتمعوا لإدانة الفلسطينيين في غزة وهم يتعرضون للإبادة الجماعية؟

 

 

 

عن العدو والصديق

يختلف تعريف السيادة في القانون الدولي عن معناها في الفلسفة السياسية، إذ تظهر السيادة في قدرة الدولة على اتخاذ القرار في اللحظات الاستثنائية (قد نعود إلى ذلك في مقالٍ لاحق). وأبرز هذه الاستثناءات هي الحرب. يشير كارل شميت في كتابه «نظرية حرب الغوار» إلى أن إعلان الحرب هو إعلان العداوة، المبدأ الأوّلي للحرب، وقدرتك الدائمة على تمييز العدو، الذي يختلف باختلاف أنواع الحروب، هو ما يعطي للحرب معنى. لذلك فعند أي محاولة لاحتواء الحرب أو الحد منها، عليك أن لا تغفل عن هذه المبادئ. والحرب قد أعلنت بوضوح كافٍ ولسنا في صدد شرحها أو تحليلها.

التمييز بين العدو والصديق لم يقتصر على الحرب فقط، بل هو أحد المبادئ الأساسية في حقل السياسة، إذ لا يحتمل التأويل أو التقويض. هذا ما عمد الليبراليون فعلياً إلى تحويره عبر تفكيك أو فصل السياسة عن كل المجالات، فتحول العدو إلى منافس اقتصادي وخصم في النقاش، أي إن محور السياسة بات يلخّص في القضايا الإنسانية الفردانية والحسابات الاقتصادية. أي أن تجد، مثلاً، صديقك المغترب وهو من هواة الدرجات الهوائية يناضل ويثور ويشتم الشعب، كل ذلك لأن شخصيته الفذة لم تجد مسرى للدراجات الهوائية في بلد أغلب طبيعته جبلية. بما معناه أن الليبراليين عندما يتناولون قضايا سياسية ينطلقون من منظور الأنا العليا لديهم.

 

لسنا أمام رجل أبيض متطرف فقط نتيجة للشرخ الطبقي الناتج من السياسات النيوليبرالية، بل أمام رجل أبيض يشعر بالضغينة والاضطهاد ما تسبّب بإعادة إنتاج حرب الحضارات

 

أما الاعتراض السياسي، فهو عملية من اللاثقة تجاه أي شيء قد يتخذ طابعاً سياسياً أو دينياً، آملين أن تختفي هذه النظرية (العدو والصديق) لتنتقل إلى إنساني وبربري. وهذا الخطاب الشائع حالياً. أن يقف إلى جانبك في قضية أو حرب ما انطلاقاً من شعوره الإنساني، على اعتبار أنك عبء (حتى لا نقول حيواناً ويهبّ محبو الحيوانات) لا تستحق الحياة، لكن عيونه لا تقدر أن ترى الدماء. المسألة ليست فقط عن ضرورة التمييز بين الصديق والعدو في كل المفاصل السياسية، بل إن الأحداث السياسية لا يمكنك فصلها عن السرديات التاريخية التي حكمتها، ولا تستطيع استبدالها بمشاعرك وتخيلاتك، أي أن تفصل بين ما حدث على صعيد المنطقة في العقود الماضية عمّا يحدث في غزة وفلسطين اليوم.

 

يلحظ شميت تفصيلياً أن الأيديولوجيا التي نشأ عليها مؤتمر فرساي للسلام تجسّد في بروز هذين القطبين، إذ تمّ تحميل كل آثار الدمار والكوارث البشرية لألمانيا وحدها. أي إن كلّ هذه الادعاءات التي صيغت عن الديموقراطية والحرية والعدالة في وقت السلم وبعد مرحلة من الزمن ستختفي ليجتمع كلّ هؤلاء في خندق واحد ضد عدو بربري (أو ضد الجنوب) ويكونوا هم الحكم والجلاد.

مضى على كلام شميت حوالى قرن من الزمن تبدّل فيه العالم كثيراً، لكن ما لم يتغيّر هو أولئك أمثال ثائري عصر الأنوار. لم يكن فعلاً هؤلاء سياسيّين، وعندما اضطروا لخوض غمار السياسة أتوا من مجالات مختلفة كانت حكراً على البورجوازيين، فن ورسم وغناء وشعر…، وقاموا بإسقاط كل أهوائهم وهواياتهم على الحقل السياسي، ما أدى إلى تسخيفه وتمييعه. استخدم هؤلاء التسخيف والتقليل من أهمية القضايا الكبرى وتمييع المصطلحات السياسية للفتن وتحريف الواقع. مثلاً أن يكون موقفك من العدو الإسرائيلي مبنياً على أنها دولة فصل عنصري، أي إنّ لا وظيفة استعمارية استدعت وجودها ولا دور لها في الدورة الإنتاجية للرأسمالية. أو كبيان قوات الأمم المتحدة العاملة في لبنان ووكالة رويترز حول استهداف صحافيين بقذيفة دبابة إسرائيلية مباشرة، حيث المستهدِف مجهول بالنسبة إليهما.

 

اليوم، ذلك الشخص الذي يقف في الوسط، غريب الأطوار عن الواقع والمجتمع، بين أيديولوجيّتين متحاربتين يغنّي للورود والسلام والدولة المدنية، حيث لا مطالبه ذات قيمة سياسية (مثلاً أن تطالب رابطة الصلعان في الأردن بحقها بمنع إطالة الشعر حفاظاً على مشاعر أعضائها وهي تضم 18 ألف عضو بالمناسبة)، ولا قراراته بإمكانك انتظارها، فهو «لا مع ولا ضد».

هو حتماً، وفقاً لشميت، مع خصمك القوي في اللحظات المفصلية. فلا داعي لتنادي ضمير العالم الحر ولا إنسانيته. ها هو ينظر إليك من مصلب شبيكة الرمي.

 

سيرياهوم نيوز1-الاخبار اللبنانية

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ترحيب فلسطيني بالقرار «التاريخي» | هستيريا في إسرائيل: كيف نُدان؟!

        على الرغم من مماطلة قضاة «الدائرة التمهيدية» في «المحكمة الجنائية الدولية»، في إصدار مذكرتَي الاعتقال بحق رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، ...