«من بين كل من التقيتهم أثناء مشواري على هذا الكوكب لم أتعرف إلى أي شخص يعطي نفسه كلياً لما هو فيه مثل ممدوح عدوان، فهو يكتب كما لو أن لا شيء في حياته سوى الكتابة، ويمازح كما لو أن لا شيء في حياته سوى المزاح، ويستمتع بالتفاصيل كما لو أن لا شيء في حياته سوى المتعة، وربما لذلك باح قبل غيابه الأخير بأنه نهض عن مائدة العمر ولا يشبع».
هذه المقدمة كانت بداية لحديث السيناريست والأديب حسن م. يوسف عن المبدع ممدوح عدوان خلال الندوة التي أقيمت في المركز الثقافي في بانياس بعنوان “ممدوح عدوان.. سيرة وحياة” تناول حياته ومسيرته الإبداعية المتنوعة التي جعلته هدفاً لإطلاق الكثير من الصفات عليه خلال حياته وبعد رحيله فهو: الساحر، “شغيل الثقافة المحترف بامتياز، غول الأدب في سورية، حارس الذكاء النبيل، الولد الشقي، زوربا العربي، الساحر الساخر والشاعر في النص وفي الحياة كتابة وسلوكاً وابتسامات، المتوهج المقبل على الحياة، المتمرد القادر على إنتاج الجديد وتقديم الجديد، ابن الحياة الحر، صاحب الشخصية الموشورية، الظاهرة الثقافية، والحالة الإنسانية المتميزة، المنشط الثقافي، عشيرة النحل التي تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق” إلى آخره.
إنجازاته الإبداعية
يعدّ يوسف الشعر أولاً عند عدوان ، حيث أنجز سبع عشرة مجموعة شعرية، وقد مات شعراء عظماء، عاشوا أكثر من ممدوح، ولم يكتبوا هذا الكمّ، لكنه وجد الوقت إلى جانب ذلك كي يدلي بدلوه في الفن الروائي مرتين من خلال “الأبتر” و “أعدائي”، كما وجد الوقت لكتابة ستة وعشرين نصاً مسرحياً، أشهرها “محاكمة الرجل الذي لم يحارب”، “كيف تركت السيف”، “هاملت يستيقظ متأخراً”، “زيارة الملكة”، “سفر برلك”، “الغول” و “أيام الجوع”، وبين كل هذه الإبداعات، وجد الوقت لترجمة اثنين وعشرين كتاباً عن الانكليزية، وستة عشر مسلسلاً تلفزيونياً، كما كتب آلاف المقالات والزوايا الصحفية وعمل مراسلاً حربياً على أكثر من جبهة، وقد امتاز عدوان عن غيره من الأدباء الذين عملوا في الصحافة بفهمه العميق لطبيعة المهنة، فهو لم يخلط يوماً بين الأشكال الصحفية والأنواع الأدبية، رغم أن خصوصيته كأديب انعكست بشكل إيجابي على مقالاته ودراساته وتحقيقاته وزواياه الصحفية.
وعن علاقة صاحب رواية “أعدائي” بالتلفزيون قال حسن م. يوسف: في البداية كان ينظر إلى الشاشة بريب لأنها بدت آنذاك أشبه بوسيلة ترفيه لجذب المشاهد أكثر منها شكلاً إبداعياً جديداً له خصوصيته الفنية، ولم يكن ممدوح عدوان استثناء في هذا المجال إذ إن جلّ المبدعين السوريين كانوا ينظرون للدراما التلفزيونية بتشكك، وهو لم يخفِ يوماً أنه ينظر إلى التلفزيون بارتياب، كما لم يخفِ أن كتابته للشاشة الصغيرة لم ينطلق من حبه لها بل من قناعته بأهميتها إذ قال: “أحسّ أن هذه الشاشة التي تقتحم البيوت يجب إلا نتركها لعديمي الموهبة ومروجي التفاهة”، كما أنه لم يختر الانغماس في الدراما التلفزيونية من باب الشعور بالواجب تجاه المتلقي فقط.. ففي أوائل التسعينيات بدأ ممدوح عدوان يعترف بالدراما التلفزيونية كجزء هام من مشروعه الثقافي، وبدأت حالة اعتراف متبادل بينه وبين التلفزيون.
ويرى ممدوح عدوان – حسب حسن م. يوسف- أن “الفن الجيد في هذا العصر لم يعد ما تتلقاه وأنت مسترخٍ، وهذا ينسحب على الموسيقا والرسم والشعر وحتى الغناء، فالغناء الذي تتلقاه باسترخاء هو غناء رديء، وكل فن جيد يجب أن يوثب ذهننا، ويوقظ في نفوسنا أسئلة ما، فضولاً ما، تنبيهاً ما، ذلك هو الفن، أما الفن الذي يؤدي بنا إلى الاسترخاء، فذلك هو الفن الميت، وفن الموتى، يكتبه موتى ويتلقاه موتى، ورغم ولعه الشديد بالنكتة والضحك، لم يكتب أي عمل كوميدي لكنه كتب الدراما التي يخالطها شيء من الكوميديا وذلك أصعب أنواع الكتابة لأنه يشبه الحياة!
مبدع لامع
ويُضيف حسن م. يوسف: أعترف أنني كنت طوال حياتي أتهيب الرجل، فهو متفوق على كل صعيد، هو المحترف في الصحافة، المبدع اللامع في الشعر والمسرح والرواية والسيناريو، المترجم المجتهد لأصعب النصوص، وهو قبل هذا كله وبعده المتحدث الساحر الذي يطغى حضوره على كل حضور، وأعترف أيضاً أن ممدوح عدوان جعلني أغيّر موقفي من التلفزيون، فقد سمعته مرة في أوائل التسعينيات ينتقد التلفزيون بقسوة، فسألته بخبث: “إذا كان التلفزيون كما تصفه فلماذا تكرس له كل هذا الوقت؟ يومها رفع سبابته في وجهي بجدية لم أعهدها فيه: “التلفزيون يخترق المناطق المحرمة على الكلمة المكتوبة، ويصل لمن لا يقرؤون، لكن أهم شيء بالنسبة لي، هو أن التلفزيون قد “حفظ كرامتي”.
ويؤكد صاحب “العريف غضبان” أن الأديب ممدوح عدوان كان الأكثر تحرراً من الرومانسية المريضة، التي اتسم بها بعض الفقراء القادمين من الريف، الذين يعدّون قبض مكافأة عن قصيدة أو قصة بمثابة إهانة للإبداع!
وقد عبّر عن نفسه وكثيرين غيره إذ قال في ديوانه (كتابة الموت): “إننا ننهض من مائدة العمر ولم نشبع.. تركنا فوقها منسف أحلام..، نحن أكملنا مدار العمر فرساناً.. وقد متنا شباباً”، فقد أكمل مدار عمره فارساً، وأشار إلى ما قاله الكاتب عادل محمود في رثائه لممدوح عدوان: “إن جيلنا كله لا يستطيع أن يكتب تعريفاً جامعاً ومانعاً لكلمة هي الحرية”، ولأننا فشلنا في إنجاز تعريف حقيقي لـ “الحرية” حقاً، فقد قام أحفاد الأبالسة بجعل شعبنا يبتلع صيغة مسمومة منها، والحق أنني أحسد ممدوح عدوان لأنه لم يعش ليرى الكوميديا السوداء التي يجسدها النفطجي العربي المنفصم وهو ينشر رجليه ويلعن يديه، ويستنزل غضب الله علينا وعليه!
وفي نهاية الندوة تم عرض فيلم “اللعبة” سيناريو وحوار ممدوح عدوان وإخراج محمد الآغا.
(سيرياهوم نيوز-تشرين)