حوار أمين معلوف منذ أيام يثير سخط نخب وأوساط ثقافية عربية، ولا سيما بعد إجابته عن سؤال بشأن ما يجري في غزة. ماذا قال؟ وكيف ردّ عليه مثقفون عرب؟
أثار حوار الأديب والمفكر الفرنسي – اللبناني أمين معلوف، الأمين العام الدائم للأكاديمية الفرنسية، عبر شاشة “فرانس 24″، منذ أيام، سخط جزء كبير من النخب والأوساط الثقافية المحلية والعربية، ولا سيما بعد جوابه عن سؤال “كيف ينظر إلى ما يجري اليوم، وخصوصاً في غزة”.
دوّن عدد من الناشطين والمثقفين نقدهم في مواقع التواصل الاجتماعي، وقالوا إن كلام صاحب “صخرة طانيوس” هلامي ومائع ولم يَدِن الكيان الغاصب ومجازره ووحشيته، وأنه يبرئ راهناً الاستعمار الغربي من الكوارث التي حلت بشعوبنا، الأمر الذي حضّ على تفنيد أقوال معلوف وخلفياتها.
الكاتب والباحث المصري نبيل عبد الفتاح، كبير مستشاري جريدة “الأهرام” و”مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية”، قال، في تصريح لــ “الميادين الثقافية“، إن “أمين معلوف وعمله السردي مقدّران، لكن يبدو لي من متابعة القنوات التلفازية الفرنسية والصحف أن هناك حالة “سوسيو – سياسية” ونفسية تشكل ضغطاً كثيفاً على الجماعات الثقافية الفرنسية، وتكشف انحيازاتها إلى العدوان والمذابح الإسرائيلية”.
وأضاف أن “مرجع ذلك عقدة المحرقة التي تحتل الضميرين الألماني والفرنسي، والخلط بين إسلام الضواحي المتشدد والهوياتي، وفشل سياساتهم في الاندماج الاجتماعي للأقلية الإسلامية المهمشة، والخلط بين حركة “حماس” كسلطة حكم وأيديولوجيا من جهة، وبين “حماس” كحركة مقاومة في مواجهة الاحتلال وسياسة الحصار الجماعي والتطهير العرقي من جهة أخرى! كل ذلك جعل الحالة الفرنسية أقرب إلى المسيحية الصهيونية في أميركا!”.
وقال عبد الفتاح: “للأسف، موقف أمين معلوف انصاع لذلك متناسياً معهم أن المذابح هي خروج سافر عن قانون الحرب والقانون الإنساني، الدوليين، ونسي أن المثقف هو ضمير إنساني حتى مع من يختلف معهم، وبات معلوف جزءاً من الجموع، وضاع صوته من خلال صوتهم الصاخب واللاإنساني، والذي يشكل تحطيماً للتقليد الفرنسي التاريخي الذي صاغ المثقف ودوره وقلقه وصوته المتفرد بعيداً عن هياج الجموع! يبدو أن موقع معلوف الجديد ومتطلباته أفقدته هذه الروح، وعاش بيننا في صغره، وفي لبنان، ويعلم بأننا لسنا ضد اليهود، وقد عاشوا بيننا، لكننا ضد الميثولوجيا الصهيونية، وضد الاستيطان، والتطهير العرقي، والحصار الجماعي، وضد كراهية الإنسان الفلسطيني! صوت أمين معلوف المصري اللبناني ضاع في ضجيج انتمائه الفرنسي. وا أسفاه! أنا حزين لأنني أقدره”.
من جهته، عقّب الشاعر اللبناني نعيم تلحوق على كلام معلوف قائلاً: “لطالما كانت كل القوانين والأنظمة، التي وًُضعت لحماية الإنسان في كل الكينونة، مجتمعات ودولاً، لم تجد بكل أسف من يطبقها، ويبدو أنها تحطمت تحت أقدام الهمجية التي تنتهجها “إسرائيل” ومعها أميركا والغرب، بحق إبادة شعب بكامله في أحداث فلسطين. فالحق في الكرامة والحياة والأرض لا يمكن أن تتوسله الشعوب الحية من أجل تقرير مصيرها، ما دام الحق، في منظور الذي نادى بصونه وحمايته، يُركَل كل يوم تحت أنظار العالم أجمع”.
وتابع رئيس دائرة الإنتاج الفكري والأدبي في وزارة الثقافة اللبنانية: “لا أظن أن أمين معلوف، الذي سعى وهو يركض وراء حوار الإذعان مع الغرب باسم منطقة ما سماه الشرق الأوسط، ووقع في خطأ التطبيع مع الكيان الإسرائيلي باسم الحوار الهجين الذي انتهجه مع الغرب والذي أنتج “إسرائيل” ودعمها، ليحظى بموقع من مواقع الهويات القاتلة، ولم يكن يدرك معلوف أنه مواطن درجة ثانية وثالثة أسوةً بكل المهاجرين في أوروبا والغرب”.
ورأى تلحوق أن معلوف “يريد موقع سلطة بشروط مذلة لهويته التي هي مثار جدل، وبدا أثر ذلك واضحاً في كتبه التاريخية. لا نفهم عدم شجب معلوف لاحتلال العدو وعدم استنكاره للمجازر التاريخية لفلسطين حتى يومنا هذا. غريب هذا الحوار المتخاذل الذي يطرحه أمين معلوف (…) والغرب أوضح لمعلوف بالفعل أن “حوارنا واحد معكم في المنطقة المشرقية، وهو سياسة محاربة الحيوانات البشرية”، كما قال نتنياهو الذي نطق باسمه. (…) أمين معلوف له رأي شخصي، لكنه لا يمثل شعوب المنطقة وليس ناطقاً باسم فلسطين أو لبنان. هذه المنطقة لها كرامة وشعوبها لا ترضى القبر لها مكاناً تحت الشمس. ربما يتكلم على نفسه وباسم الزاحفين نحو الغرب بذل مرهون، لا بعز وكرامة. لا يكون التطبيع يا عزيزي أمين إلا بحوار الند للند. وما دام الغرب يريد سحقنا فلن نقبل التطبيع مع “إسرائيل”، فلنتركها لأمين ومن يمثل من الأنظمة العربية والغربية المتخاذلة، وليس باسم الشعوب العربية الصادقة”.
أما المفكر العربي الأردني أحمد هادي الشبول، فقال من أستراليا: “شاهدت معظم المقابلة وتعبت من اللف والدوران! يبدو لي أن أمين معلوف في واد آخر مغاير. نحن نبالغ إذا كنا نتوقع منه أن يقول ويكتب كلبناني يعيش في باريس (…) لعل الأصح أن نقول إنه مفكر “عولمي”. يشطح معلوف في الحديث عن الحرب الباردة ومشاكل الهوية الضيقة كأننا خارج سياق ما يحدث في فلسطين، وخصوصاً في غزة والضفة الغربية والقدس، أو لبنان. من غير المتوقع أن نراه يتحدث أو يكتب أو ينشط كأنه رالف نادر أو جيمس زغبي أو إدوارد سعيد. لنتذكر أن هناك كثيرين من المفكرين والكتاب العرب، حتى أولئك الذين يقيمون ببلدهم الأم أو يعملون في جامعات دول البترول العربية، لا ينظرون إلى ما يحدث في فلسطين أو لبنان أو الأردن أو مصر من زاوية نظر عربية ملتزمة قضايانا. في المقابل، هناك عدد من المفكرين والمؤرخين وعلماء الاجتماع والمستعربين الفرنسيين يتعاطفون مع قضايا العالم العربي وحقوق الشعب الفلسطيني أكثر مما نجده لدى كثير من المفكرين والمثقفين العرب في ديار العروبة. وهناك مفكرون ومفكرات من اليهود في أميركا وأستراليا وأوروبا ينتقدون “إسرائيل” الرسمية، ويتعاطفون مع حقوق الشعب الفلسطيني. أمين معلوف يتحدث كفرنسي ضمن المنظومة الأكاديمية، وموقعه كالأمين العام للأكاديمية الفرنسية قد يساعدنا في فهم مواقفه إلى حد ما فقط
من ناحيته، صرح الأستاذ الجامعي والشاعر اللبناني، محمد ناصر الدين، قائلاً: “ثمة فكرة في كتاب “الهويات القاتلة” تصلح للشروع في نقاش هوياتي مع الكاتب اللبناني الفرنكوفوني، والذي دعا كل واحد فينا إلى إجراء تمرين صغير بشأن هويته، بحيث يضعنا معلوف أمام مرآة أنفسنا لنسأل مثلاً: بأي مقدار نحن عرب أو مشارقة أو مغاربة، وكم هي نسبة التهجين والنقاء في مكنونات ذواتنا القومية والثقافية والسياسية، ومساحة التلاقي والاندماج أو الافتراق بين كل تلك المكونات. ليتنا نستطيع أن نطرح على معلوف نفسه هذا النقاش اليوم، لنسأله كم هو مقدار الهوية العربية المشرقية، ولا سيما الفلسطينية، في رمزيتها دينياً ودنيوياً، في مرآة نفسه؟ لماذا يختفي هذا المكون المشرقي لكاتب لطالما غاصت رواياته في تاريخ هذا المشرق بكل إشكالياته وصفحاته، المشرقة منها والمظلمة، حين تستوجب فلسطين منه رأياً صريحاً أمام آلة من البطش والتنكيل وتهويد الدولة ومسح الفسيفساء الفلسطينية المتنوعة من جانب أيديولوجيا اعترفت الأمم المتحدة بذاتها بعنصريتها، قبل أن تتراجع منذ وقت قريب.
وأضاف ناصر الدين: “أين المكون اللبناني في هذا التمرين الصغير والأرض اللبنانية والجنوبية تحترق منذ قيام هذا الكيان بنار بطشه ذاتها، ومجازره كلها، إلى آخر قائمة أسماء سفك دم أطفالنا في حروب “إسرائيل”؟ يتربع أمين معلوف اليوم على عرش أهم منصب ثقافي فرنسي ربما في الأكاديمية الفرنسية، ويمكنه التماهي مع السياسة الفرنسية الرسمية المنحازة إلى “إسرائيل” بالكامل في عدوانها، لكن ما نعرفه في ألفباء المثاقفة عن دور المثقف هو أنه يشكل عنصر قلق دائماً للسلطة وسردياتها، وواجبه الأول هو التشكيك في كل “نسخة رسمية” تروّجها آلتها الدعائية والإعلامية. ألم ينصف مثقفون فرنسيون، مثل جان جينيه وجيل دولوز وغيرهما، القضية الفلسطينية، ولم تأخذهم في الحق والضمير لومة لائم؟ الكاتب الذي كتب يوماً عن “سلالم الشرق” مدعو اليوم إلى أن ينزل عن سلم الغرب والرجل الأبيض، وأن يُنصفنا ولو بكلمة في دمنا المسفوح”.
***
ماذا قال أمين معلوف؟
قال معلوف إن “ما يجري، إلى حد ما، يعبر عن الموازنات الدولية الجديدة، والمواجهة بين الغرب من جهة، وبين تحالف تدخل فيه روسيا وإيران ودول أخرى من جهة أخرى، لكن أساس هذه المواجهة هو المسألة المحلية، أي الفلسطينية. الصراع العربي – الإسرائيلي، الذي يتخطى هذه الحروب الباردة، بدأ قبلها ويستمر وله منطقه الخاص، والذي لا يخضع فقط للتوازنات الدولية”.
وأشار معلوف إلى أنه في صباه كان دائماً يقول إن منطقتنا، أي الشرق الأوسط، يجب أن تسير في الطريق الذي سارت فيه أوروبا؛ أي أن يلتقي الأخصام ويقرروا يوماً أن يبنوا شيئاً مشتركاً، كما فعلت فرنسا وألمانيا ودول أخرى، وكان هاجسه “أن نصل إلى وقت نتخطى فيه الصراعات ويحصل كل شعب من شعوب المنطقة على مكانة معينة يرتاح إليها، تؤمن له الأساس”.
وأردف: “لسوء الحظ لم تسر الأمور أبداً في هذا الاتجاه، وأكاد أقول إن العكس هو الذي حدث، أي أن ليس فقط منطقتنا لم تتجه إلى أي حل، ولا هي متجهة اليوم إلى أي نوع من الحل، بل بالعكس، فإن مشكلات منطقتنا انتشرت في العالم كله وهي تؤثر الآن في الحياة، سياسياً واجتماعياً، في مناطق أخرى من العالم، بما فيها أوروبا. وبدلاً من أن يكون المثال الأوروبي قدوة للشرق الأوسط، بات الشرق الأوسط مشكلة يومية للمجتمعات الأوروبية”.
سيرياهوم نيوز 2_الميادين