سؤال محيّر أقلق راحة المحللين منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي: أين اختفت التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية المتقدّمة؟ فعل المقاومة الفلسطينية كان سريعاً وحاسماً وسرياً، لكنّه لا يبرّر اختفاء القدرات التقنية التي يتبجّح بها قادة الاحتلال، ولا فشل جنوده في تحقيق نصر واضح داخل غزة. هم كانوا يتحدثون يومياً عن وادي السيليكون الإسرائيلي، عن شركات التكنولوجيا التي أسسها ضباط وحدة الـ 8200، وعن كيان شكّل قطاع التكنولوجيا الفائقة 18.1 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي في عام 2022، و48.3% من إجمالي صادرات الاحتلال. فكيف لمجموعة مقاومة فلسطينية على بساطة التقنية التي تملكها أن تكبّد العدو كلّ هذه الخسائر؟

البحث عن إجابة عن هذه الأسئلة، يعيدنا إلى حرب تموز 2006. في مقال بحثي نشرته «مجلة الدراسات الإستراتيجية» عام 2008 بعنوان «قوات الدفاع الإسرائيلية في حرب لبنان الثانية: لماذا الأداء الضعيف؟»، تحدث الكاتب آفي كوبر، من قسم الدراسات السياسية ومركز «بيسا للدراسات الإستراتيجية» في جامعة «بار إيلان» الإسرائيلية، عن تأثير تحوّل إسرائيل إلى «النهج العسكري الموجه نحو التكنولوجيا» (RMA اختصاراً لـ Revolution in Military Affairs). ينتقد المقال «عبادة التكنولوجيا» داخل قوّات الاحتلال الإسرائيلية، وعواقبها على القدرات العسكرية التقليدية، ويضيء على عقيدة الكيان العسكرية المتطوّرة التي تتأثر بمفاهيم مثل «هيمنة المعلومات» و«المناورة المهيمنة»، ما يؤدي إلى الاعتماد المفرط على التكنولوجيا. وقد كشفت حرب لبنان الثانية في 2006 عن نقاط الضعف في هذا النهج، إذ تعرّض كبار قادة الاحتلال للانتقاد بسبب إدارة المعارك من المقرات بدلاً من قيادة القوات على الأرض. ويؤكد المقال الآثار الضارة للعقلية التي تركز على التكنولوجيا بدلاً من الاستخبارات القتالية والقدرات القتالية المباشرة، وتحدّث عن حاجة كيان الاحتلال إلى نهج أكثر توازناً يتضمّن كلاً من التكنولوجيا المتقدمة والإستراتيجيات العسكرية التقليدية.
وفي تقرير نشره Breaking Defense في 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، يتحدث الموقع عن كيف أنّ الاعتماد على التقنية داخل قوات الاحتلال «أتى على حساب إضعاف الحدس البشري والقدرات البحثية والانفصال بين الجنود البشر وساحة المعركة». ويشير التقرير إلى أنّه في عام 2020 طرحت «إسرائيل» عقيدة عسكرية جديدة تعرف باسم خطة «الزخم»، تهدف إلى الجمع بين حرب المناورة السريعة والقدرات التكنولوجية المتطوّرة. مع ذلك، كشف عدوان إسرائيل على غزة عن تناقض صارخ بين إستراتيجية التكنولوجيا الفائقة المتصوّرة والتكتيكات العسكرية الفعلية التي استخدمتها إسرائيل رداً على هجمات 7 أكتوبر.

الخبيرة الإسرائيلية البارزة في «المعهد الإسرائيلي للديموقراطية»، تيهيلا شفارتز ألتشولر، تشير إلى أنّ التحوّل التكنولوجي الواسع النطاق لقوّات الاحتلال على مدى العقدَيْن الماضيَيْن أدّى إلى «انقطاع الاتصال بين الجنود البشر وساحة المعركة»، فـ «عندما تحل التكنولوجيا محل الحدس البشري والقدرات البحثية، فإن ذلك يأتي بكلفة كبيرة».
ووفقاً لموقع لـ Breaking Defense، إنّ الحرب الإسرائيلية على غزة انحرفت بشكل كبير عن المبادئ الواردة في خطة «الزخم». بدلاً من الاعتماد فقط على حرب المناورة السريعة والقدرات التكنولوجية العالية، استخدمت إسرائيل تكتيكات عسكرية كلاسيكية، بما في ذلك نشر القوات البرية والمعدات العسكرية القديمة. وعلى الرغم من التحوّل نحو التكتيكات التقليدية، فإنّ بعض أحدث التقنيات الإسرائيلية أُدخلت في الحرب، إذ نُشرت ناقلة الأفراد المدرعة Eitan، المجهزة بنظام الحماية النشط Elbit Systems Iron Fist، إضافة إلى نشر ناقلات الجنود المدرّعة Namer التي قُدّمت في عام 2008، وناقلات الجنود المدرعة الأقدم من طراز M113. جُهّز العديد من المركبات المدرّعة في غزة بنظام الحماية النشط Trophy الذي أنتجته شركة «رافائيل». مع ذلك، يبدو أنّ النظام لم يعمل كما كان متوقعاً، إذ ذكرت «يديعوت أحرونوت» أنّ ناقلة جنود مدرعة من طراز «نامير» أصيبت بصاروخ مضاد للدبابات. ولفتت الصحيفة العبرية إلى أنّه «على الرغم من أنّ التحقيق في الحادث لا يزال جارياً، إلا أنّه ثبت أن نظام الحماية النشط Trophy المجهز على المركبة المتقدمة والمدرعة الثقيلة قد تعطل وفشل في اعتراض الصاروخ». وأكد فحص إضافي للحادث أنّ الاستهداف كان مميتاً بشكل خاص لأنّ الصاروخ المضاد للدبابات أصاب ذخيرة أخرى عند الارتطام. كما كشفت الحرب عن فشل الدفاعات الجوية الإسرائيلية أمام أهداف متعددة الطبقات، إذ أُطلق أكثر من 9500 صاروخ من غزة. في هذا الشأن، يشير التقرير إلى أنّ نشر نظام الدفاع الجوي Arrow وطائرات F-35 الحديثة كان أمراً لافتاً، إذ عرض مزيجاً من التدابير المتقدمة والتقليدية لمواجهة التهديدات المحمولة جواً التي لم تسطع بطاريات القبة الحديدية اعتراضها كلها.

انقطاع الاتصال بين الجنود البشر وساحة المعركة

في مقال نشرته «فورين بوليسي» في 26 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، تحدّثت المجلة بإسهاب عن «الوهم التكنولوجي والمزالق الإستراتيجية» ومخاطر اعتماد قوات الاحتلال على التكنولوجيا العسكرية المتطورة. على الرغم من اعتباره أحد «أقوى الجيوش» في العالم، إلا أنّ إصرار قوّات الاحتلال على التفوّق التكنولوجي قد «يعيق قدرتها على مكافحة خصوم مثل «حماس» بشكل فعّال». وتشير «فورين بوليسي» إلى أنّ القدرات العسكرية التي يتمتع بها «جيش» الاحتلال المدعومة بمساعدات سنوية كبيرة من الولايات المتحدة، كانت تتمحور في كثير من الأحيان حول أنظمة الدفاع الجوي والصاروخي المتقدمة والمقاتلات الشبح وقدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع المتطوّرة. مع ذلك، فإنّ «التركيز على الحلول عالية التقنية ربّما أعمى صنّاع السياسة الإسرائيليين عن اتخاذ خيارات صعبة في الإستراتيجية العسكرية». ويضيف المقال أنّ «قصر النظر الإستراتيجي» الذي يعانيه رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، الذي تجسّد في «الأمان الوهمي» الذي يوفره السياج الحدودي «الذكي» على طول قطاع غزة، كان «يتغذى على ثقة في غير محلها في الحلول التكنولوجية». وقد سمح هذا الشعور الزائف بالأمان بتحويل موارد قوات الاحتلال بعيداً من الدفاعات الأرضية، ما أدى إلى ترك نقاط الضعف التي استُغلّت في هجوم 7 أكتوبر. أما اللافت في المقال التحليلي، فتأكيده أنّه على المستوى التكتيكي «أدى اعتماد الجيش الإسرائيلي على التكنولوجيا إلى تعزيز العقلية الدفاعية». وتعتمد العقيدة الدفاعية التي تتمثل في إستراتيجية «جز العشب»، على الضربات الجوية بدلاً من مناورة القوات البرية لتحقيق أهداف عسكرية. وقد أسهم هذا النهج في «انخفاض مهارات الوحدات البرية» داخل قوات الاحتلال الإسرائيلي.