من التشكيك والتلميح وصولاً إلى التصريح، كان إردوغان يقطع في الصفة الدينية للمعركة الجارية في غزة. وهو يتهم الغرب كله، بالطبع مع إسرائيل، بإشعال حرب جوهرها الصراع بين المسيحية والإسلام. فهل الأمر في غزة وفلسطين هو فعلاً كذلك؟
لا شك أن الخوض في هذه المسألة أمر شائك ومعقّد ومتعدد البعد، ويدخل الموضوع في جدل كبير بين المؤيّدين لهذا الطرح والذين يعترضون على توصيف إردوغان له، ولكل من الطرفين حجته وذرائعه.
بداية، لا بد من الإشارة أولاً إلى أن إردوغان استخدم في تصريحيه هذين، مصطلح الهلال والصليب وليس الإسلام والمسيحية. ومع أن ذلك جائز وطبيعي ولكنّ مفردتَي الهلال والصليب تحفران أكثر في الذاكرة وتصبغان على المسألة «حدّية» تقارب النفور والكراهية أكثر من مفردتَي الإسلام والمسيحية اللتين تمنحان بعضاً من التعميم والمرونة في الحديث عن طرفين في نزاع ديني. وبالتالي، فإنّ إردوغان أراد أن يحفر أعمق في شحن النفوس وتخضيبها بالنفور والكراهية. وإلى مصطلحَي الهلال والصليب اللذين استخدمهما الرئيس التركي، فإن موقفه قوبل بتصفيق حادّ من نواب كتلة حزبه كما لو أن هؤلاء النواب يتجاوزون تأييد الموقف إلى إعلان الجهوزية للذهاب إلى حرب دينية مع هذا الغرب.
ثانياً، إن الأساس هنا في كلام إردوغان، مدى مطابقة التوصيف مع الوقائع التاريخية وصولاً إلى الحرب على غزة التي تشنّها إسرائيل وبدعم كامل من الغرب أو معظمه وغير الغرب.
لا شك أن النزعة الدينية في نظرة الغرب إلى «باقي» العالم غير المسيحي قائمة وموجودة، ولا يمكن إنكار وجودها وتأثيرها في العديد من القرارات والأفعال منذ عقود بل قرون. فما اصطُلح على تسميته بالحروب الصليبية كان المثال الأكثر فقاعة على ذلك حين احتشدت أوروبا الغربية من أجل «تحرير» قبر السيد المسيح في القدس. بالتأكيد لم تعدم الحملات الصليبية البعد الديني منها بل كان شعارها، غير أن العوامل الاقتصادية والصراع حتى مع المسيحيين غير الكاثوليك (البيزنطيون مثالاً وليس حصراً)، كلّ ذلك كان في قلب جدول أعمالها وممارساتها.
وإذا قفزنا عبر العصور وانتقلنا سريعاً إلى القرن العشرين بالذات، فإننا نعثر، على سبيل المثال لا الحصر، على المشاهد التالية:
إنّ الحرب العالمية الأولى كانت حرباً بين قوى «مسيحية»، والدولة العثمانية «المسلمة» تحالفت فيها مع قوة مسيحية كبيرة هي ألمانيا. إن الحرب العالمية الثانية كانت بالكامل بين قوى مسيحية وبوذية، من الولايات المتحدة وأوروبا إلى الصين واليابان. إن الحرب في فييتنام كانت بين قوى مسيحية فرنسية وأميركية وبوذية. إن الحرب في أوكرانيا هي الآن بين قوى مسيحية، روسيا من جهة وكل الغرب من جهة أخرى. وفي قره باغ، وهذا مثل «طازج»، كيف نفسّر تخلي الغرب «المسيحي» عن أول الناس المسيحيين في العالم وهم الأرمن، وتركهم ينزحون، مشياً مع أغنامهم وخيولهم، من أرض أجدادهم التي وُلدوا فيها حتى قبل أن يولد العرق الطوراني بكل بطونه وأفخاذه، تحت الخوف من إبادة جديدة، على أيدي «المسلمين» الأذريين وحلفائهم من «المسلمين» الأتراك و«اليهود» الإسرائيليين من دون مجرد تحذير أو تهديد أو تدخّل؟
ولكن إذا انتقلنا إلى تركيا نفسها فإن الصورة ستكون أكثر وضوحاً بما لا يقاس:
لقد تحالفت تركيا منذ عام 1947 مع قوة «مسيحية» هي الولايات المتحدة بوجه الاتحاد السوفياتي. وفي عام 1949 اعترفت تركيا «المسلمة» بدولة «غير مسلمة» يهودية تُعتبر العدو الأول للعرب والمسلمين وهي إسرائيل. وفي عام 1952 انضمت تركيا إلى حلف كله من المسيحيين هو حلف شمال الأطلسي. وفي الخمسينيات، في عهد رئيس الوزراء «الإسلامي» عدنان مندريس، عرفت العلاقات بين تركيا المسلمة وإسرائيل اليهودية ذروة ازدهارها السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي. وتكرر تعزيز العلاقات بين تركيا المسلمة وإسرائيل اليهودية في الثمانينيات في عهد رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية طورغوت أوزال «الإسلامي».
وكانت القفزة الكبرى في العلاقات بين تركيا المسلمة وإسرائيل اليهودية مع وصول حزب العدالة والتنمية «الإسلامي» إلى السلطة عام 2002، حيث نال إردوغان جائزة الشجاعة من «المؤتمر اليهودي الأميركي» غير المسلم عام 2004 لدوره في محاولات التقريب بين العرب وإسرائيل. وعرفت العلاقات حدثاً غير مسبوق بدعوة أنقرة في ظل رئاسة عبدالله غول للجمهورية ورجب طيب إردوغان للحكومة، الرئيسَ الإسرائيلي شمعون بيريز ليلقي كلمة أمام البرلمان التركي، ليكون أول مسؤول إسرائيلي يلقي خطاباً أمام برلمان دولة مسلمة في 13 تشرين الثاني من عام 2007. وقبل سنتين في الأول من نيسان 2022 كان إردوغان رئيس دولة تركيا المسلمة يصف عمليات المقاومة الفلسطينية (المسلمة) في الضفة الغربية ضد إسرائيل اليهودية بأنها «إرهابية وشنيعة».
وكان الوجه الأكثر تجلياً في تقارب تركيا المسلمة مع إسرائيل اليهودية هو العلاقات الاقتصادية حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من مليار ونصف مليار دولار عام 2022 إلى تسعة مليارات ونيف في نهاية عام 2022. وعلى امتداد كل هذه الفترة وحتى الآن ألم تكن تركيا المسلمة تطلب ودّ الاتحاد الأوروبي والدخول إليه رغم أنها تصفه بـ«النادي المسيحي»؟
وماذا نقول لليهود المعادين للمشروع الصهيوني ومنهم الشهيدة راشيل كوري التي سحقتها الدبابات الإسرائيلية عام 2003؟ إذا انتقلنا إلى مرحلة ما بعد عملية «طوفان الأقصى» والعدوان الإسرائيلي على غزة، نجد أن التظاهرات عمّت شوارع المدن «المسيحية» في أوروبا وحتى الولايات المتحدة، وأن دولاً «مسيحية» في أميركا الجنوبية قطعت العلاقات مع إسرائيل أو استدعت سفراءها منها. ونجد أن 99% من دول العالم «العربي والإسلامي» لم تتخذ أي إجراء ضد إسرائيل «غير المسلمة» أو أميركا «غير المسلمة» حتى الآن رغم مرور أكثر من شهر ونصف شهر على العدوان الإسرائيلي.
وبالنسبة إلى تركيا نفسها فهي اكتفت بالصراخ ولم تتخذ أي خطوة إجرائية وعملية ضد إسرائيل، لا على صعيد العلاقات الدبلوماسية (استدعت السفير من تل أبيب «للتشاور» ليس إلا) ولا التعاون العسكري ولا العلاقات الاقتصادية حيث لا يزال يصل يومياً إلى الموانئ الإسرائيلية ما معدّله سبع سفن تركية (منذ 7 تشرين الأول 300 سفينة) تحمل موادَّ ومنتجات مختلفة إلى إسرائيل. كما لم تتخذ تركيا المسلمة أي إجراء ضد القواعد الأميركية في تركيا التي تستخدمها واشنطن «المسيحية» لدعم إسرائيل عسكرياً.
الأمثلة كثيرة. ومقولة حرب «الهلال والصليب» لا تخدم الفلسطينيين، لأن القضية الفلسطينية قضية عدالة وإنسانية وحقّ وليست قضية دينية ليُرفع «قميص عثمان» الدين لغايات داخلية وحزبية وشخصية، ومثل هذه المقولات الدينية تؤذي القضية الفلسطينية ولا تخدمها