إسماعيل مروة
هناك شرطان لابد من توافرهما في المنافسة بين المتنافسين، أولهما الشرف، أي التنافس بكبر ورقي، ومن أجل العلم والمصلحة العامة وليس المصلحة الشخصية، وهذا يقتضي الفصل التام بين الحب والكره، بين الانتماء وعدمه، بين الحقد والحب، وهذا أمر توافر بين المتنافسين العلماء إلى وقت قريب، أو إلى وقت جدّ قريب.. وثانيهما العلم والتكافؤ، إذ لم نشهد أي نوع من التنافس بين الوضيعين والكبار، ولا بين الجهلة والعلماء، فكل واحد يعرف مكانته، فلم نجد جاهلاً لا يقيم كلامه، يتصدى لعالم مهما بلغ من الوقاحة، فعندما تعرّض بشار بن برد الشاعر الكبير في شبابه لجرير وجماعة النقائض أهملوه كلّه، لأنه لا يتمتع بالمساواة معهم مكانة وشعراً وعمراً، ولكنهم لم يصبوا جام غضبهم عليه. وضمن هذين الشرطين كانت أهم المعارك النقدية والأدبية والفكرية التي صنعت لنا منابر فكر، وصدرت لنا أهم الكتب، بل أنشأت أهم المؤسسات التي عليها قامت النهضة، قبل أن يتولى الأمور من وأدها وأنهى جوهرها!
بين رضا سعيد ومحمد كردعلي
ما من واحد لا يعرف قيمة هذين الرجلين العالمين العلمين الشخصيتين العلميتين العامتين، ولا أحد ينكر أننا ننعم بإنجازاتهما، وأن ما قدماه فوق طاقة الأفراد، فهما من الناحية العلمية توافر فيهما الشرط الأساسي، أما في التنافس والنقد فقد كان في مرتبة عليا من شرف التنافس، وكانا واضحين في التنافس، ويكتبان هذا التنافس، ويعبران عنه، ولكن واحداً لم يقلل من علم الآخر.. وقد كان نقد محمد كرد علي أوسع لأنه صحافي وأديب بارع يذيع ما يقوله بين الخاصة والعامة.
وحين أعددت ندوتين منفصلتين عن الرجلين في سنوات سلفت، عدت إلى ما صنعه الرجلان، وقرأت ما كتب كردعلي مرة أخرى، وما كتب عنه، وشيئاً من مذكراته، وهو الرئيس الأول والمؤسس للمجمع العلمي العربي بدمشق، ومن أسف أن المجمع عزف عن المشاركة بحجة أنهم سيحتفون به في مئوية المجمع، وشارك عضو المجمع د. عبد الناصر عساف لما يربطنا من علم وحب، ومرّ 2019 وكان الاحتفال إن تمّ صامتاً، ودون كتاب! ولكنه لم يحدث، هكذا يفعل مجمع اللغة العربية برئيسه ومؤسسه، وصاحب الفضل بوجوده.. ود. رضا سعيد الرابض في مدخل جامعة دمشق العريقة استشرته، وكانت الصعوبة بالغة في إيجاد من يعرف عنه شيئاً، وجامعة دمشق عزفت عن المشاركة مع أنه طلب منها، فانظر إلى جامعة لا تعرف قيمة رئيسها ومؤسسها وصاحب الفضل على كل من درس فيها..!
رئيسان مؤسسان يقابلان بالجحود من المؤسستين اللتين لهما الفضل في وجودهما..!
تنافس الرئيسين المؤسسين
عند تشكيل الدولة الوطنية السورية كانت المنافسة على أشدها بين العلماء، الذين يملكون علماً ومعرفة، وتنافس الرجلان العالمان على رئاسة جامعة دمشق، وفي ميدان وزارة المعارف، وكان كردعلي وزيراً للمعارف، وكتب كل منهما في الآخر، وسخر كل واحد من الآخر، ولكن بالعودة إلى مذكرات محمد كردعلي، فإنه لم يجد حديثاً في علم رضا سعيد، وتناوله تناولاً شخصياً، وكذلك فعل رضا سعيد مع كردعلي، وكانت النتيجة التي كسبتها سورية بأن هذا التنافس جعل الرجلين مؤسسين وأول رئيسين لأهم مؤسستين في الدولة الوطنية، وفي وقت متقارب استغل كل واحد منهما علاقته الوطيدة بالدولة ورجالها لتبدأ جامعة دمشق خطواتها وتكون الأولى والأم والأكثر أهمية في رحلة العلم والعربية.. وليكون المجمع العلمي العربي بدمشق الذي تحول إلى مجمع اللغة العربية المجمع الأول برئيسه الأول ومؤسسه كردعلي.. فكان التنافس بينهما تنافساً علمياً بين كبيرين، ومهما تخرّص المتنكرون لمحمد كردعلي، فإنهم في قرارتهم يعلمون أن ما يقولونه تقزّم أمام قامته في دراسته الرائدة (خطط الشام) وفي كتاب (الغوطة) وفي (مذكراته) وفي تحقيقاته ومقالاته، ولا ينكر واحد حتى من الذين يتاجرون بمجلة المجمع بأن كردعلي العاشق للصحافة هو من وضع منهجها، وجعلها ذات قيمة في سنواتها الأولى، واجتذب إليها بحب الأقلام التي تستحق أن تقرأ.
ومهما حاول خصوم رضا سعيد، فهو الرئيس والطبيب وواضع المناهج، وأحد رواد التعريب الطبي والعلمي، الذي وضع رأسه على مخدته وودع جامعته ودمشق 1945م.. ولن يضرّه وهو في رقدته، وفي جلسته على مدخل مبنى الرئاسة تنكّرهم له، ونسيانهم لسيرته ما خلا ذلك النصب..
تنافسا فصنعا أهم مؤسستين، وكل ما فعله كردعلي لم يقابل بالشكر، وكل ما فعله رضا سعيد لم نجد ما كتب عنه سوى ما كتبه الأستاذ الدكتور صباح قباني في كتاب موثق مصور عن رضا سعيد.. ونحن، وأخصّ من استمتع بإنجازات الرجلين، نقف أمام مصلحتنا، وننسى أن احتفاءنا بهما يجعلنا كباراً، وربما أكسبنا شيئاً من أخلاقهما، ولا أقصد هنا العلم.
بين شوقي والعقاد والمازني وطه حسين
شوقي الشاعر الذي لا يشقّ له غبار، وسيد الصورة الشعرية عبر عصور، حظي بمكانته الشعرية والأدبية والفنية بجدارته وبراعته، وتفوق على البوصيري في نهج البردة، وزاد على البحتري في سينيته، وجاء بأدب المسرح إلى العربية شعراً ونثراً، وسيد شعر الطفولة ورائده، وأشياء أخرى لا مجال لذكرها.. تنافس معه المتنافسون، الذين يقرون بريادته، لكنهم لم يحبوه لأسبابهم، ولننظر إلى التنافس:
– حافظ إبراهيم كان شاعر البسطاء، وكان شاعر الفقراء والرثاء، ومن الناحية الفنية كان فقيراً إلى جانب شوقي شعرياً، وكان يقر بزعامة شوقي وإمارته، وظل لصيقاً بشوقي لأنه عرف قدر نفسه وقدر منافسه.
– عباس محمود العقاد الكاتب المفكر العميق الصعب، كانت أمنيته أن يكون الأول في كل شيء، وحين وجد أنه لن يلحق بشوقي بدأ نقده بدراسات فيها ما فيها من الصحة، وأكثرها من باب التجني، فبقي «الديوان» الذي دبجه مع المازني في الانتقاص من شوقي وليس الانتقاد، وبقي الشاعر شوقي والباحث العقاد، وضاع شعر العقاد (عابر سبيل) في الدروب لم يسمع به كثيرون شاعراً.
– إبراهيم عبد القادر المازني كاتب السخرية الأول، وصاحب صندوق الدنيا، انساق وراء التجديد والعقاد، فشارك في انتقاص شوقي، ولكنه بقي في (صندوق الدنيا) ومقالاته الساخرة، ولم يستطع أن يبرز شاعراً.
– طه حسين كان لا يحب شوقي ويعلن ذلك، وله أسبابه الطبقية، وربما منها خلافه مع الملك والأسرة الحاكمة، فبقي كتابه (حافظ وشوقي) الذي فضّل فيه شوقي كمن فضَّل الراعي النميري على جرير، وابنه اقترن بحفيدة شوقي وكان سعيداً متشوفاً بذلك.
هذا التنافس العلمي الشريف الواضح أنجز لنا كتباً ودواوين كثيرة، ودراسات ابنة زمنها إن كانت موفقة أم لم تكن، وشوقي حين مات حافظ خاطبه بحب وصدق:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي
يا منصف الموتى من الأحياء
غياب القيمة والقمم
اليوم، وفي كل بلدان العالم العربي تغيب الحركة النقدية والفكرية، فلا الطاهر وطّار ورواية (اللاز) ولا الحركة النقدية الأدبية في (إبداع) التي انتهت برحيل د. عبد القادر القط، ولا الحركة النقدية حول الشعر قديمه وحديثه كما فعل طه حسين، وفي ظل غياب القامات المؤثرة في الحراك الثقافي والفكري، طفت شخصيات، وإن كانت أكاديمية مرموقة، إلا أنها ليست ذات أثر وتأثير، وجلّها يتعامل مع الفعل الثقافي تعاملاً وظيفياً وقتياً، ولا تعنيه المخرجات، وإن خرجت فلا وجود لأثر لها!!
القيمة الكبرى في العلم وروح التنافس غابت لتحل محلها المعرفة العلمية المتواضعة التي تخشى الامتلاء، هذا إن وجدت، والتي عملت على سنوات طويلة على تقزيم الفعل الثقافي، وعلى ردم الجسور التي تربط بين الفكر والمجتمع، ولنا أن نسأل: عندما كان طه حسين رئيساً لمجمع اللغة العربية في القاهرة هل من شخص لا يعرفه من العامة؟! وعلى ذلك يمكن أن يتم القياس في كل مؤسسة عربية سعى من تولاها إلى تضييق الخناق لتكون خاصة به وبمن يدور حوله ويسبح بحمده، ويضمن له الاستمرارية..
كل هذا حدث عندما لم تعد الإرادة السياسية تجد في الثقافة والمثقفين حالة من الوعي!
ليس صحيحاً بأن الفكر والثقافة ليسا في أول سلّم أولويات المجتمع! بل الثقافة المدعومة هي القادرة وحدها على الخروج من الأطر الضيقة.
فليتنافس العلماء، إن وجدوا، من أجل العام والوطن، وليس من أجل مصالحهم الضيقة ومصالح من يلوذ بهم.
سيرياهوم نيوز1-الوطن