محمد علي فقيه
من السياسة إلى الاقتصاد، وصولاً إلى إرسال اليهود إلى المحرقة. كيف تعاونت الصهيونية مع هتلر لدفع يهود أوروبا إلى فلسطين المحتلة؟
من أهم ما أسفرت عنه عملية “طوفان الأقصى”، أنها دفعت الباحثين في تاريخ الحركة الصهيونية إلى كسر “فوبيا” التعرّض للوقائع التاريخية التي حدثت في مسار الحرب العالمية الثانية، وما ساد طيلة تلك الفترة من صعود النازيين، خاصة ما كرّسته هذه الحركة من تكتيكات غير أخلاقية عمادها الكذب الذي يصعب اكتشافه، والمبالغة في الوقائع، وعرض الرأي على أنه حقيقة، واستخدام مفاهيم على أنها واضحة بينما هي مثار جدل، والارتباط المزيف، وغريزة القطيع.
فقد برعت الآلة الدعائية الصهيونية لعقود طويلة في تصوير ما يربطها بالنازية على أنه علاقة عدائية فقط، حيث يذكر اليهود لهتلر “الهولوكوست” فحسب، ويتحدثون عن القائد النازي أنه أباد قومهم الذين عاشوا فى حدود دولته أثناء الحرب العالمية الثانية. لكنهم لا يذكرون أن هتلر كانت له يد في استعمارهم الأراضي الفلسطينية، وأنه كان من ضمن أسباب توافد اليهود إلى أرض فلسطين.
وتعمّدت الأدبيات الصهيونية التضليل على حالات التهجير الممنهجة لليهود التي نظّمتها ألمانيا النازية نحو فلسطين، وتعاون الجمعيات الصهيونية مع النازية على تحقيق هذا الهدف. وركّزت على تواطؤ النازية على إبادة اليهود وفظائع “الغيتو” و”الهولوكوست”.
إقرأ أيضاً:
هل تنهار “إسرائيل” من الداخل؟
ساعد في حجب طبيعة العلاقات التاريخية بين الصهيونية والنازية 3 عوامل هي: التشهير بأيّ شخصية توجّه انتقاداً لـ”إسرائيل” فيرتعد ذعراً من أن تناله عقوبات تمتد إلى شخصه وأسرته بالدفاع عن “النازية ومعاداة السامية”، بهدف التغطية على تاريخ تعاون الحركة الصهيونية مع هتلر والنازيين، والثاني هو أن اهتمام الباحثين برصد العلاقة بين الصهيونية وآبائها الأوائل وبين بريطانيا والولايات المتحدة حجب الاهتمام بعمق العلاقة بين النازية والصهيونية. والثالث، حرص “إسرائيل” على تصفية بعض قيادات الصهاينة الذين أدّوا دوراً مهماً خلال تلك المرحلة من التعاون النازي – الصهيوني. وأبرزهم اختطاف النازي أدولف إيخمان، رئيس جهاز البوليس السري “جيستابو”، من الأرجنتين عام 1960 وإعدامه في “إسرائيل” عام 1962.
تؤكد الوقائع التاريخية أن علاقة النازية بالصهيونية علاقة حميمة. هذا ما نجده بوضوح في كتاب ليني برنر بعنوان “الصهيونية في عصر الدكتاتورية”، الذي يورد الكثير من الإحالات لوثائق تبيّن مدى عمق التعاون بين النازيين والصهاينة، إضافة إلى كتاب آخر للكاتب نفسه بعنوان “51 وثيقة عن تعاون النازيين والصهاينة”.
يمكن القول إن عناصر التماثل بين الصهيونية والنازية تجعلهما أقرب إلى توأم. فالصهيونية عبر عقيدة “شعب الله المختار” تلتقي مع النازية التي تزعم بتفوّق الشعب الآري.
وتتواطأ الدعاية اليهودية في أوروبا اليوم على معاقبة كلّ من يُشير إلى التحالف النازي – الصهيوني خلال ثلاثينيات القرن الماضي، ولا سيما دور معاهدة “هافارا” التي جمعت طرفي النقيض: النازيين، والصهاينة.
يشير المؤرخ اليهودي جيرشون شافير في “موسوعة الهجرة العالمية” لجامعة كامبريدج، أنه قبيل علاقة الصهاينة مع النازية لم تزد الهجرة اليهودية إلى فلسطين عن 3% منذ “إعلان بازل” وحتى عام 1914. ويذكر بأن وعد بلفور وجميع التسهيلات التي قدّمتها سلطات الانتداب البريطانية لليهود من أجل الاستيطان في فلسطين، لم تخلق إجماعاً يهودياً للهجرة إلى فلسطين، إذ لم تشكّل فلسطين وجهة مختارة سوى لـ 30% من عموم المهاجرين اليهود حتى عام 1933.
واستناداً إلى التشابه الأيديولوجي بين النازية والصهيونية، اعتبر الصهاينة أن وصول هتلر لسدة الحكم عام 1933 فرصة تاريخية لتحقيق الأهداف الصهيونية العليا. فسعى “الاتحاد الصهيوني” في ألمانيا بدعم من |المنظمة الصهيونية العالمية” للحصول على حماية هتلر مباشرة مراراً وتكراراً.
هكذا نجح الصهاينة في الاتفاق مع الألمان النازيين على أن اليهود لم يكونوا قط من الشعب الألماني، وأنهم لذلك لا ينتمون لتراب ألمانيا. وقد فتح ذلك الاتفاق غير المكتوب الباب الواسع أمام توقيع اتفاقية “الهافارا” في 25 اَب/أغسطس عام 1933 بين “الوكالة اليهودية” ووزارة الاقتصاد في ألمانيا.
مدى عمق التعاون بين النازيين والصهاينة
أحدثت إتفاقية “هافارا” التي عُرفت أيضاً بـ “اتفاقية التحويل” تغييراً دراماتيكياً تكشفه الأرقام. فمن ضمن بنودها المساعدة بترحيل ملايين اليهود من وسط أوروبا إلى فلسطين.
وتقضي بنود الاتفاقية بفرض “ضريبة” على كلّ من يغادر ألمانيا؛ لكن الرسوم على مغادرة الصهاينة الألمان كانت أقل، فكانت فرصة لليهود أن ينقلوا أموالهم وقيمة ممتلكاتهم المهدّدة بالمصادرة في ألمانيا. واشترى المغادرون سلعاً بيعت في “إسرائيل” والشرق الأوسط في مقابل مزايا اقتصادية، من قبيل سعي الجاليات اليهودية في جميع أنحاء العالم لترويج الصادرات الألمانية ومساعدة الألمان على الاستثمار داخل فلسطين.
وضمنت الاتفاقية التدريب العسكري للشباب اليهودي في معسكرات النازي، قبل تهجيرهم لضمان جاهزيتهم للانخراط في صفوف العصابات الإرهابية، ثم “جيش” الكيان الصهيوني.
وأفضت إتفاقية “هافارا”، إلى أخطر موجات الهجرة إلى فلسطين،حيث ارتفع عدد المهاجرين اليهود بين عامي 1933-1936، إلى 600 ألف يهودي أوروبي، وبدأوا بالتواطؤ مع الجمعيات اليهودية – الصهيونية على تنفيذ مخطط التهجير لليهود إلى فلسطين، إلى جانب مواجهة واستئصال الجمعيات اليهودية التي عارضت هذا الاتجاه، وشجّعت على إدماج اليهود في بلدانهم بأوروبا.
وبحسب كتاب “علامَ يطلق اسم فلسطين” للفرنسي آلان غريش، فإن اتفاقية “هافارا” أتاحت لـ53 ألف يهودي ألماني الهجرة إلى فلسطين قبل 1939، والنجاة بذلك من الإبادة الجماعية. كانوا يمثّلون 35% من الهجرة إلى الأرض المحتلة عام 1937، و52% عام 1939، وبينهم يهود النمسا أيضاً. كما سمحت الاتفاقية لليهود بأن ينقلوا إلى فلسطين جزءاً من أموالهم قدّرت في مجملها بـ110 ملايين مارك، في صورة بضائع ألمانية، الأمر الذي مثّل منفذاً مفيداً للاقتصاد النازي.
وساعدت هذه الاتفاقية الاقتصاد الألماني، حيث تم تأسيس شركة تحت اسم “شركة هآرفا المحدودة” التي أشرفت على عمليات التهجير. كما كان لها كبير الأثر في كسر العزلة التجارية والاقتصادية التي كان يرزح تحتها النظام النازي، وما كان ذلك ليتم لولا تواطؤ الجمعيات الصهيونية.
وهذا ما يؤكده أبراهام بورغ، رئيس الكنيست الإسرائيلي السابق، في كتابه “لقد انتهت المحرقة” بالقول: “لقد وضح لنا أن النازيين قبل أن يبدأوا بذبح اليهود فى أوروبا، كانوا باتفاقهم مع الحركة الصهونية في اتفاقية “هافارا” قد مكنّونا من بناء قواعد دولتنا القادمة، التي بعد أن ولدت عام 1948، ساعدتها اتفاقية التعويضات الألمانية عام 1952 على بناء نفسها، وامتصاص المهاجرين الجدد، وإعادة تأهيل لاجئي الحرب، ولذلك كثيراً ما أتعجّب بأنه لولا الألمان وبربريتهم، هل كان يمكن أن تكون لنا دولة على الإطلاق؟”.
ويُجمع عدد من المؤرخين أن الصهاينة اتفقوا مع النازيين على تنفيذ عملية مقايضة لا إنسانية. فقد أقام النازيون في كل “غيتو” يهودي مجلساً معظم أعضائه من الصهاينة المفضلين عند النازي على كل اليهود الآخرين! والذين تعاونوا بدورهم مع الحكم النازي، إلى حد إعداد قوائم اليهود الذين تمت إبادتهم، إما لمعارضتهم لأهداف الصهاينة أو عدم قبولهم الهجرة إلى فلسطين، أو لمجرد كونهم يمثّلون أحمالاً زائدة عن حاجة الكيان الصهيوني الذي كان يتم حينئذ السعي الحثيث لإقامته!
واعتبر العديد من التنظيمات الإرهابية كـ(الهاجانا) و(الأرجون) و(شتيرن) وغيرها، حملات الإبادة هذه، آلية فعالة لتحقيق “دولة” الكيان الصهيوني. وسعت هذه التنظيمات للتحالف مع النازي برعاية “الغستابو” ضد الإمبريالية البريطانية لدعم حكومة الرايخ خلال الحرب العالمية الثانية، وقبل أن تتأكّد هزيمة ألمانيا، مقابل تنشيط تهجير اليهود القادرين على القتال والعمل في المستوطنات أو دفع هؤلاء للهجرة.
ولعل أخطر ما في العلاقة بين النازية والصهيونية هو الانقطاع بين الصهيونية و”الهولوكوست” أثناء الحرب العالمية الثانية . فالصهيونية لم تهتم بمذابح اليهود وإنقاذهم بقدر اهتمامها بهجرة اليهود لفلسطين. ومن لم يهاجر من اليهود لفلسطين قبل قيام “الدولة” في العام 1948، لم يكن محط اهتمام الصهيونية التي كانت قناعتها تنحصر في أن الحل للمسألة اليهودية يتعلق بإنشاء دولة، وأن ما عدا ذلك ليس مجال اهتمامها.
إقرأ أيضاً:
تعاون الصهيونية مع النازية في تشيكوسلوفاكيا
وهذا ما يؤكده إيغون ريدليخ في يومياته “مذكرات صهيوني.. يوميات إيغون ريدليخ في معسكر تيريزين”، التي تعتبر وثيقة تثبت تعاون النازية مع الصهيونية، والتي أكدت التضحية بعشرات الآلاف من اليهود الذين كانوا يغيّبون ويُرسلون إلى حتفهم بمساومات يشعر ريدليخ بالذات بخجله منها مقابل وعودٍ زائفة.
ويضيف: “كانت الحركة الصهيونية في تشيكوسلوفاكيا ترسل الألوف من اليهود إلى معسكرات الإبادة الجماعية النازية، مقابل وعود نازيّة بإرسال بضع عشرات ومئات من القيادات الصهيونية وأصحاب رؤوس الأموال إلى فلسطين”.
يذكر صاحب موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية”، عبد الوهاب المسيري، أن أدولف أيخمان نجح في مهمته بفضل تعاون اليهودي المجري رودولف كاستنر معه، والذي أقنع أعضاء الجماعة اليهودية في المجر بأن النازيين سيقومون بنقلهم إلى أماكن جديدة يستقرون فيها، أو إلى معسكرات تدريب مهني لإعادة تأهيلهم وليس إلى معسكرات الاعتقال.
ومقابل ذلك سمحت السلطات النازية عام 1941 بإرسال ما يزيد عن 1700 يهودي من أحد معسكرات الاعتقال إلى فلسطين “يهود من أفضل المواد البيولوجية”، على حد قول أيخمان.
أما عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان، فيذكر في كتابه “الحداثة والهولوكست” عن تعاون الجماعات اليهودية مع النازيين، فيستعمل عبارة “حفر قبورهم بأنفسهم”، ولهذا فهو يبحث عميقاً في آلية سلوك بعض الجماعات اليهودية، التي أمست خاضعة لتنفيذ أوامر النازيين، بل تذلل الكثير من الصعوبات يأتي بعضها من منطلق محاولة تجنّب أو تأخير المصير.
ولهذا كانت نهاية ريدليخ بإرساله وزوجته وطفله إلى معسكر أوشفيتز عام 1944 ليلقى حتفه مثل عشرات الاَلاف من اليهود الاَخرين، وقبل ترحيله أخفى هذه المذكرات التي تعتبر وثيقة دامغة لتجربة “الهولوكوست” ودور الصهيونية فيها.
لقد جددت عملية “طوفان الأقصى” الحديث القديم المرتبط بالتحليل النفسي عن المطابقة بين النازي وبين الصهيوني. ففي علم النفس السياسي توجد معادلة “الاتحاد مع المعتدي”. وقد لخص مؤسس علم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون ذلك في عبارة تقول: “عادة ما يسلك المقهور سلوك القاهر”.
هذا ما يؤكده رئيس “الجمعية العالمية لعلم النفس” السابق، أحمد عكاشة، بقوله إن: “إسرائيل” احتذت نهج النازي في تعذيبه لليهود يوماً ما، واتحّدت معه، لتتبع اليوم النهج نفسه فى تعذيبها وقهرها وإهانتها للفلسطينيين، ويشير إلى اتحاد آخر، هو اتحاد “إسرائيل” في محاولتها لإبادة الشعب الفلسطيني، مع السلوك الذي اتبعته الولايات المتحدة في إبادة سكان أميركا الأصليين.
إقرأ أيضاً:
لماذا تشبه “إسرائيل” ألمانيا النازية؟
وقد شبّه أبراهام بورغ في كتابه الاَخر “لننتصر على هتلر”، “إسرائيل” بألمانيا عشية صعود النازية إلى الحكم، بحيث كان الشعب الألماني ناقماً على العالم.
أما أبرز أوجه التشابه بين الاثنتين فهو الإحساس بـ”مركزية الإيمان بالقوة في بلورة الهوية، ومكانة ضباط الاحتياط في المجتمع، وعدد المواطنين الإسرائيليين المسلحين في الشارع. إننا مجتمع يعيش في إحساسه على سيفه. سيفي هو الشيء الوحيد الثابت، ولا غرابة في أن أُشبّه هذا بألمانيا، لأن مشاعر الالتزام لدينا بشأن العيش معتمدين على السيف نابعة من ألمانيا، وما سلبته منا خلال أعوام الحكم النازي الـ12 يحتم سيفاً كبيراً جداً”.
من جانبه، يرى روجيه غارودي أن الصهيونية ليست ابنة اليهودية، بل مثلها مثل النازية، هي ابنة النزعة القومية والاستعمارية الأوروبية في القرن التاسع عشر، ومن ثم فإنّ “إسرائيل” هي ابنة مشروع الحداثة، هي منتجه الأكثر رداءة، مثلما النازية تماماً.
وهو ما أعاد المسيري تأكيده من بعده، إذ يقول إن: “الفكر الصهيوني مثله مثل الفكر النازي. ترجمة للرؤية الداروينية. فالصهاينة قاموا بغزو فلسطين كممثلين للحضارة الغربية يحملون عبء الرجل الأبيض، وهم نظراً لقوتهم العسكرية يملكون مقدرة أعلى على البقاء، أي أنهم جاءوا من الغرب مسلحين بمدفعية أيديولوجية وعسكرية داروينية ثقيلة، وقاموا بتسوية الأمور من خلال الموقع الدارويني النيتشوي، فذبحوا الفلسطينيين وهدموا قراهم واستولوا على أرضهم، وهي أمور شرعية تماماً من منظور دارويني”.
أما باومان فيؤكد في “الحداثة والهولوكست” أن المحرقة بوصفها سلوكاً حداثياً، أماطت اللثام عن وجه الحضارة الغربية”، ويرى أنها كانت جزءاً من هذه الحضارة قائلاً: “إن الهولوكوست ليست نقيضاً للحضارة الغربية الحديثة، وكل شيء يرمز إليها، أو نعتقد نحن أنه يرمز إليها. إننا نخشى ـ حتى لو رفضنا الإقرار بذلك – أن تكون الهولوكوست قد استطاعت أن تكشف وجهاً جديداً للمجتمع الحديث، الذي يروقنا وجهه المألوف. ونخشى أن يكون الوجهان ملتصقين على أكمل وجه بالجسد نفسه”.
وقد تكون رؤية المؤرخ الفرنسي المختص بالتاريخ الفلسطيني، هنري لورنس، للمشروع الإسرائيلي هي الأخطر. فيرى أن “إسرائيل” بتبنّيها مشروعها الإحلالي ضد العداء العربي هي استمرار لمشروع النازية الأوروبية.
أما المفكر اليهودي المناهض للصهيونية، جاكوب كوهين، فيقول إن: “رؤية العرب يناقشون ويتفاوضون ويخططون مع الصهاينة، فلو أنهم درسوا تاريخ الصهيونية قليلاً، لعرفوا أنها أيديولوجية تقوم على غزو العرب وسحقهم بكل الوسائل”.
إن التعاون ما بين النازية والحركة الصهيونية لقي معارضة من قبل جميع اليهود وبالأخص يهود أوروبا، إذ اعتبروا أن الصهيونية قدّمت خدمة جليلة للنازية عبر مساعدتها على تطبيق أطروحتها العنصرية المسمّاة الحل النهائي، والتي تهدف لتطهير أوروبا من اليهود.
سيرياهوم نيوز1-الميادين