آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » شلومو ساند يفكك أسطورة الشعب اليهودي

شلومو ساند يفكك أسطورة الشعب اليهودي

يعتبر صاحب “كيف لم أعد يهودياً” من أهم المؤرخين الجدد الذي عمل على تفكيك الأساطير والحكايات التي تم صوغها لخلق تاريخ ووجود لشعب يهودي مناف للحقيقة.

 

دعد ديب

 

عمل الباحث والبروفسور في جامعة “تل أبيب” شلومو ساند، وهو اليهودي الأصل، في مجمل إنتاجه ونشاطه الفكري على تفكيك السرديات الصهيونية التي تزعم الأصل الواحد لليهود، وتؤكد انتماءهم إلى عرق صافي السلالة، وقد بحث في كتابه “اختراع الشعب اليهودي” الذي أصدره المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) في موضوع تفكيك الأساطير والخرافات التي اعتمدت عليها الحركة الصهيونية في الادعاء بوجود شعب يهودي وقومية يهودية ذات امتداد تاريخي، إذ جمعت كل الحكايات القديمة والأساطير وتبنتها كحقائق تاريخية، وقد حاول الباحث تفنيدها في هذا الكتاب وتوضيح زيفها ومغالطتها للعلم والتاريخ معاً.

 

عرف القرن التاسع عشر بأنه “عصر القوميات”؛ إذ نشطت الفكرة القومية في البلدان الأوروبية بشكل كبير، وراحت كل دولة تنقب في تاريخها عن مشتركات ضمن التجمعات البشرية لتأكيد انتمائها إلى قومية ما، لكن التمسك بالمتخيل اليهودي لدى “إسرائيل” والحركة الصهيونية كان الأشد هوساً بالفكرة عما سواها، رغم أن الفكرة القومية في أوروبا سادت في تجمع بشري موجود ضمن بقعة جغرافية متقاربة واجتمعت فيه خصائص إثنية متشابهة، وفق ما عبّر عنه أنطوان شلحت الذي وضع مقدمة الكتاب المذكور.

 

فالحراك المدني والتمدن أدّيا إلى خلق تصدعات وفراغات كبيرة في الذات المجتمعية ما هيأ لاستقبال فكرة القومية بحماس شديد إلى أن امتدت وهيمنت وأصبحت سمة عامة لدى الشعوب في تلك الفترة.

 

فتصنيف المجموعات الاجتماعية القديمة في أطر عامة شكل شرطاً للمحافظة على هويات غير مستقرة واستمرارها في الحاضر، وأغلب الديانات التقليدية كان لها طابع تبشيري، أما القومية فترسم لها حدوداً صارمة لأنها شكلت وجهة نظر على مستوى العالم وركبت موجة الحداثة الاجتماعية لتكون استجابة للاحتياجات العقلية والسياسية للكتل البشرية الهائلة التي تقدمت إلى الأمام، والأكيد أن القوميات ليست هي من أوجد الأمم ولكنها أيضاً ليست من اختراع الشعوب التي سبقتها، فسيرورة الأمم في العصر الحديث مشت جنباً إلى جنب مع تبلور القومية وطغيانها على الساحة الدولية، فالحركات السياسية التي تطلعت إلى إنشاء دول شكلت وحدات قومية من خليط من المواد الثقافية واللغوية والدينية القديمة نتيجة انهيار أنماط التضامن والهويات لدى المجتمعات الصغيرة في القرى والبلدات.

 

ففي بداية عملية تقسيم العمل، ظهرت فئة من الناس يشغل اهتمامها إنتاج رموز ثقافية معبّرة عن المهيمنات الاقتصادية والسياسية، وقد نجحت في العيش والارتزاق من هذا النشاط، وعلى مر التاريخ نشأ المشعوذون والسحرة والكهنة ومروّجو الحكايات ومهرّجو البلاط ورسّامو الكاتدرائيات، على اشتباك قوي مع النخب السياسية والاقتصادية المسيطرة في منظومة تبادلية للمصالح والخدمات، لذا ليس غريباً وجود جمهرة من المتعلمين تجندوا لإنتاج تنظيرات ثقافية لخلق تاريخ ووجود لشعب يهودي مناف للحقيقة، فقد اجتهد شلومو في فهمه للعملية الاستيطانية من خلال تفكيك الميثات “Mythes” والأساطير والحكايات التي تم صوغها كحقائق لإضفاء الشرعية على تلك العملية.

 

فدلالة شعب ما كتعريف هو في غالب الأحيان مجموعة اجتماعية تعيش في حيّز جغرافي محدود ولها ملامح وسمات تشير إلى قواعد وسلوكيات ثقافية تنتمي إلى واقع دنيوي مشترك مثل (لهجات لغوية متقاربة – مأكولات، ملابس، ألحان شعبية) وقد نشأت قبل مفهوم الدولة القومية، لذا فإن فكرة الانتماء إلى شعب ما تبدو غامضة بعض الشيء لأن مصطلح شعب هو مفهوم فضفاض ويفتقد إلى الوضوح، فلا يوجد شعب يهودي واحد، بل هناك أقوام يهود في مناطق متفرقة من العالم، غير منحدرين من أصل واحد، واليهود المعاصرون لا ينحدرون من أصول اليهود القدامى الذين عاشوا في أرض “إسرائيل” القديمة، ولا يوجد ما يسمى “العرق” اليهودي كما لا يوجد شعب مسلم، هناك يهود ومسلمون في التاريخ موزعون عبر الجغرافيا في العالم.

 

كما يصعب التكهن كيف نظر الناس قديماً إلى التاريخ؛ لأنهم لم يتركوا وثائق مكتوبة، وغالبية الممالك في الماضي كانت بحوزة الملوك والأباطرة، ولم تكن ملك الجمهور.

 

إقرأ أيضاً: كيف توقّفت أن أكون يهودياً

يبحث صاحب “كيف لم أعد يهودياً” في حيثيات وقائع اختراع الشعب اليهودي في تساؤلات عدة: متى وجد الشعب اليهودي؟ هل مع نزول التوراة إلى سيناء أو مع احتلال أرض كنعان أم بجرة أقلام بعض من المؤرخين اليهود الذين تصدوا لهذه المهمة في فترة نشوء القوميات في القرن التاسع عشر؟

 

ويتساءل عن أي فترة تاريخية نقلت التناخ (الكتاب المقدس اليهودي) من خزانة الكتب المثيولوجية الدينية إلى خزانة الكتب التاريخية والقومية، وهل اليهود شعب عرقي ذو جينات خاصة، ويرجح في هذا القفز للحديث عن الجينات لانعدام ذاكرة شعبية واحدة جامعة، إذ يؤكد الكاتب أن أغلب المعتقدات اليهودية تستند إلى التناخ وهو كتاب ديني ولا يمكن اعتماده كتاريخ أو مرجع تاريخي، الأمر الذي يؤكده عدم وجود آثار أركيولوجية تثبت وجود الممالك الأسطورية الواردة فيه، بالإضافة إلى أكذوبة أن الشعب اليهودي هو شعب الله المختار التي تنفي فكرة العدالة الإلهية التي يقتنع بها البشر بوجود الرب المطلق والمنزّه عن الصفات العنصرية والظالمة.

 

كما يدحض فكرة الشتات اليهودي القائلة بطردهم من قبل الإمبراطور الروماني تيتوس سنة 67 ميلادية بأنه كلام غير دقيق وغير مقنع؛ لأنه لا يوجد مستند تاريخي أو علمي يثبت ذلك، ويفسر قصة تهجير سكان ” ملكوت يهوذا” بالتزامن مع دمار الهيكل الثاني في سنة 70 ميلادية بأنها أسطورة مسيحية استنسخت وأدخلت إلى الفكرة اليهودية ولم يتم ترحيل اليهود خارج البلاد على أيدي الرومان خلال القرن الثاني الميلادي، وأغلبهم ظل يعيش في البلاد حتى أزمنة الفتح الإسلامي.

 

إقرأ أيضاً: آفي شلايم: “الموساد” نفذ عمليات التفجير ضد اليهود في بغداد في الخمسينيات

وأيضاً فكرة معاداة السامية وربطها بمعاداة الصهيونية كتهمة تلصق مباشرة بأي شخصية تنتقد الصهيونية، فهناك على سبيل المثال يهود كثر ينتقدون السياسة الإسرائيلية ويطالبون بوقف احتلال الأراضي الفلسطينية ومنهم كاتب هذا الكتاب، ولا نعتقد أنه يمكن تثبيت اتهامات كهذه عليهم، فالكاتب نفى فكرة الشتات وما وراءها من طرد الرومان لليهود سنة 70 م بعد تدمير الهيكل، كما دحض الادعاء بأن الدين اليهودي لم يكن ديناً تبشيرياً ولم تدخل أجناس وقوميات أخرى فيه وبقي محصوراً في العرق الذي اعتنقه، وعليه فإن العرق الذي طرد يعود إلى جذوره في أرض الميعاد، حسب ما يزعمون، فعملية الطرد لم تحدث عملياً وإنما كانت حكاية ضرورية من أجل بناء ذاكرة للمدى البعيد بتخيل وجود شعب مهجر ومنفي كاستمرار للشعب التوراتي القديم، ولا يوجد في التاريخ توثيق لذلك، فحكاية طرد شعب بكامله غير واردة أو حتى ممكنة لعدم توفر وسائل نقل لهذه الأعداد الغفيرة في ذلك العصر.

 

كذلك فإن فكرة اختراع المنفى والاقتلاع والنفي مغروسة بقوة في الشخصية اليهودية عززها قول الكاتب شموئيل يوسف عجنون المطبوعة على الورقة النقدية، غير أن قبول المنفى في الشخصية ذاته عُدّ حكماً إلهياً لا يجوز الخروج عليه ومعصيته بصفته عقاباً إلهياً، لذلك عندما تفككت بابل، هاجر اليهود إلى بغداد وليس إلى أورشليم وكذلك توجّه المطرودون من إسبانيا إلى المغرب وقلة توجهت إلى الأرض المقدسة، وفي العصر الحديث هاجرت قبائل اليديش إلى أميركا، ولكن اليهود بعد المذابح النازية توجهوا إلى فلسطين. ويرى “ساند” أن فكرة الوعد بعودة الأمة اليهودية إلى أرض الميعاد هي فكرة طارئة تماماً على اليهودية، وظهرت مع الدعوة الصهيونية فقد تعامل اليهود من قبل مع الأراضي المقدسة كأماكن يتم تعظيمها، وليس من الضروري العيش في كنفها على الطريقة نفسها التي يتعامل فيها المسلمون مع أماكنهم المقدسة التي يحجون إليها، وهكذا نرى أنهم لم يتعرضوا للإجلاء بقوة من وطنهم كما أنهم لم يعودوا إليه بإرادتهم الحرة.

 

إقرأ ايضاً: هكذا ردت إسرائيل على هزيمتها مع حزب الله

للتجارب الشخصية دور حاسم في خيارات المؤرخ، إذ يذكر أن للكاتب شلومو علاقات مميزة مع المثقفين الفلسطينيين، وتضمنت حواراته معهم أسئلة عميقة على غرار مقارنة الهولوكوست مع المأساة الفلسطينية والتصدي “مجازفة مساءلة الماضي اليهودي ومناقشة حاضر القضية الفلسطينية”، كما تربطه صداقة قوية مع الراحل الشاعر محمود درويش، أيقونة فلسطين، وكانت قصيدته “جندي يحلم بالزنابق البيضاء” من وحي علاقتهما أو موجهة إليه.

 

في هذا الوقت المتفجر بالموت والدماء، كم نحتاج إلى مثل هذه الأصوات العقلانية التي تنحاز للحق وللإنسان وتعيد صوغ الأسئلة الأولى وتفكك التاريخ والماضي ضمن المعطيات العلمية، بعيداً من الضجيج الإعلامي الذي يزيف الحقائق ويعمد إلى تكرار الأكاذيب بشكل مستمر حتى تترسخ في ذاكرة من يستفيد منها ويعدّها حقيقة لا مراء فيها.

 

سيرياهوم نيوز1-الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

ترحيب فلسطيني بالقرار «التاريخي» | هستيريا في إسرائيل: كيف نُدان؟!

        على الرغم من مماطلة قضاة «الدائرة التمهيدية» في «المحكمة الجنائية الدولية»، في إصدار مذكرتَي الاعتقال بحق رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، ...